- ℃ 11 تركيا
- 22 ديسمبر 2024
د. سعيد الشهابي يكتب: استهداف الإعلاميين من قبل «إسرائيل»
د. سعيد الشهابي يكتب: استهداف الإعلاميين من قبل «إسرائيل»
- 27 نوفمبر 2023, 11:08:34 ص
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
مراسلة الميادين الشهيدة فرح عمر وزميلها المصور الشهيد ربيع المعماري
برغم الهدنة «الإنسانية» المؤقتة في العدوان الإسرائيلي على غزة، لا يبدو الوضع مهيّأً لوقف طويل الأمد أو صلح دائم بين الطرفين.
فالعدوان هذه المرة يهدف لاقتلاع مجموعات المقاومة أو على الأقل إلحاق أقسى الأضرار بها، ولتحقيق ذلك اخترق الإسرائيليون كافة الخطوط الحمراء التي تنظم مسارات الحرب، فاستهدفوا المنازل السكنية بوحشية، وكذلك مؤسسات التعليم والتطبيب، كما منعوا الطعام والشراب عن الفلسطينيين فترة من الزمن.
المشكلة التي تواجه الصهاينة أن جرائمهم أصبحت تُبث للعالم من خلال الوسائل الإعلامية ووسائل التواصل الاجتماعي فتُحرّك الرأي العام العالمي ضدهم. وبرغم الانحياز التام لهم من قبل الإعلام الغربي، إلا أن العالم أدرك حقيقة ما يجري، وأن العدوان هذه المرة ليس محصورا بالرد المحكوم بالقانون، بل أصبح كل شيء مستهدفا، الجماد والإنسان على حد السواء.
الملاحظ أيضا أن القوات الإسرائيلية هذه المرة استهدفت بشكل واضح وواسع الإعلام والإعلاميين والوسائط الإعلامية. ألم تقصف مكاتب إعلامية عديدة في 16 نوفمبر 2012 في غزة؟ ووفقا لما توفر من معلومات فإن أكثر من ستّين إعلاميا قتل في العمليات العسكرية الإسرائيلية الحالية، وآخرهم مراسلا قناة الميادين.
حتى أن «لجنة حماية الصحافيين، سي. بي. جَي» قالت: إن هذه الفترة هي الأشد فتكا بالإعلاميين الذين يغطون النزاع، من بين الفترات التي وثقتها اللجنة. وقد قمنا بتوثيق الاعتداءات أكثر من ثلاثين عاما».
وأضافت: «في الواقع أن الثامن عشر من نوفمبر كان الأكثر فتكا منذ بدء الحرب في 7 اكتوبر. وقد وثّقت اللجنة مقتل خسمة إعلاميين في ذلك اليوم»
وعندما نعت قناة «الميادين» الأسبوع الماضي اثنين من إعلامييها، المراسلة فرح عمر والمصوّر ربيع المعماري بعد تعرضهما لاستهداف إسرائيلي في جنوب لبنان، أصيب المشاهدون في العالم العربي بصدمة كبيرة جدا، وتعمّق الغضب ضد الاحتلال، فلهذين الشخصين احترام خاص وتقدير في نفوس الكثيرين نظرا للمستوى المهني والحرفي الذي كانا يتمتعان به.
ووفقا للإحصاءات التي قدمتها منظمة «مراقب حقوق الإنسان الأوروبي-المتوسطي» يوم الأحد 19 نوفمبر فقد لقي أكثر من 59 صحافيا إعلاميا مصرعهم خلال أكثر من شهر من العدوان الإسرائيلي على غزة المحاصرة. وقال بيان المنظمة أن هذا العدد يعادل أكبر عدد من الصحافيين الذين قتلوا في النزاعات والحروب في السنوات الأخيرة. وعزت المنظمة ذلك للقسوة الإسرائيلية تجاه الإعلاميين بسبب رغبتها في فرض «تعتيم إعلامي حقيقي وشامل» لطمس الحقيقة.
هذه المرة كان القتل متعمدا في أغلب الحالات، بل أن بعض الاستهداف حدث لإعلاميين وهم يبثون تقاريرهم ونداءاتهم للعالم. فقد شعر الكثيرون بالغيظ لمقتل الإعلامية الفلسطينية آيات خضورة التي لفظت آخر كلماتها قبل أن تستشهد مع ثلاثة من إخوانها في 21 نوفمبر في قصف إسرائيلي، وهي تدعو لوقف إطلاق النار. وكانت هناك مشاهد أخرى شبيهة من حيث المأساة. فقد كان الإعلامي وائل دحدوح يتحدث على الهواء عندما اكتشف أن عائلته قد تمت تصفيتها من قبل الإسرائيليين.
ووفقا لما اعتاده العالم، يُفترض أن يؤدي الإعلامي وظيفته بمهنية وتجرّد وحياد. ولكن هل يستطيع من يرى أشلاء البشر تتطاير من حوله أن يقمع مشاعره ويمنع الدموع من عينيه؟ وهل يعتبر بكاء الإعلامي الفلسطيني وهو يبث تقريرا عن عدوان إسرائيلي مؤشر ضعف أو مخلّا بأخلاق المهنة؟ إن من المؤكد أن الملايين من العرب تأثروا وربما بكى الكثيرون منهم وهم يشاهدون الإعلامي عمّار إبراهيم يبث تقريره باكيا وهو يقول: «نحن هنا ضحايا، نفقد الأرواح الواحد تلو الآخر، زميلنا محمد حطب كان هنا في داخل المستشفى قبل نصف ساعة واستشهد هو وزوجته وافراد من عائلته».
لقي أكثر من 59 صحافيا إعلاميا مصرعهم خلال أكثر من شهر من العدوان الإسرائيلي على غزة المحاصرة. وقال بيان المنظمة أن هذا العدد يعادل أكبر عدد من الصحافيين الذين قتلوا في النزاعات والحروب في السنوات الأخيرة
لذلك أدركت السلطات الإسرائيلية حجم الضرر الذي لحق بها بسبب انتشار الأخبار والتقارير حول ممارساتها البشعة منذ بدء عدوانها. وضمن محاولاتها اليائسة للتشويش على الحقائق، تكررت مبادراتها بتنظيم زيارات لمجموعات من الإعلاميين الأجانب إلى مواقع عديدة. ومنها ما فعلته عندما سمحت لمجموعة منهم بدخول مستشفى الشفاء لاطلاعهم على ما تدّعيه من وجود أسلحة قامت منظمة «حماس» بتخزينها في مزاريب المستشفى. ولكن لم تنجح كثيرا.
فحتى فريق الـ بي بي سي الذي كان حاضرا أبدى تحفظا على الادعاءات الإسرائيلية وأكد عدم انسجام مشاهداته مع تلك الادّعاءات. وتحاول سلطات الاحتلال كسب قدر من الثقة بتصريحات مسؤوليها وادعاءاتها حول العدوان ودوافعه ووقائعه اليومية. ولكن دماء الشهداء التي تسيل يوميا تحرمها من ذلك، برغم الانحياز الغربي شبه الكامل لكيان الاحتلال وسياساته.
وحتى عندما أنتج الإسرائيليون فيلما من سبع دقائق لدعم ادعاءاتهم لم يكن له أثر فعلي على المواقف الدولية بعد أن أخضعه الخبراء لفحص وتدقيق واكتشفوا احتواءه على أخطاء وتلفيقات. لقد ساهمت التغطيات الإعلامية في حرمان الإسرائيليين من الدعم المعنوي الدولي، وتفاقمت المطالبات بوقف إطلاق النار، حتى اضطرت الحكومات لدعم وقف الحرب.
من المؤكد أن الإعلام كان له دوره في تفاقم الضغط على الإسرائيليين. وليس المقصود بالإعلام هنا الوسائل التقليدية كالراديو والتلفزيون والصحافة المكتوبة فحسب، بل أن وسائل التواصل الاجتماعي تلعب دورا بارزا في هذا المجال. وهناك من المدوّنين ومستخدمي تلك الوسائل من يحظى بمتابعة الملايين. فالشاب الفلسطيني معتز عزايزة، الذي لم يبلغ الخامسة والعشرين من العمر بعد، والموظف بمنظمة «اونروا» كمسؤول عن توثيق ما يحدث في غزة، لديه ملايين المتابعين الذين يتأثرون بما ينشر يوميا. كما أن الصحافية الفلسطينية الفتاة بلستيا العقاد المولودة في غزة ساهمت في نشر صورة ما يحدث في قطاع غزة وإيصاله للعالم بشكل أسهل.
وكذلك الشابة بيسان عودة التي تحمل لقب «سفيرة الاتحاد الأوروبي للنوايا الحسنة». هذا الجيل الشبابي ساهم في إيصال قضية غزة للعالم مستخدما وسائل العصر وأساليبه ولغته، ففهمه الكثيرون، وكانوا ذراعا إعلاميا للشعب الفلسطيني ومجموعاته المقاومة.
القادة الإسرائيليون هذه المرّة أدركوا خطر الإعلام والإعلاميين على سياساتهم المتصلة بالعدوان على غزة. ولذلك توجّهوا لاستهداف الإعلاميين والمؤثرين بنمط جديد من العنف الذي أدى لوفاة ستين إعلاميا في غضون شهرين.
القائمون على وسائل الإعلام الغربية أدركوا أيضا ما سينجم عن ظهور الحقائق العسكرية على شاشات التلفزيون، فسعوا لمنع ذلك بما لديهم من وسائل. وتكشف قضية محمد قاسي، الصحافي الفرنسي ذي الأصول الجزائرية، مدى ما يمكن أن يمارسه أصحاب القرار السياسي مع من يسعى لإظهار الحقيقة. فقد تعرّض هذا الإعلامي للتوبيخ من إدارة فضائية (تي في 5 موند) الحكومية الفرنسية التي يعمل بها، بسبب إحراجه ناطقا باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي بشأن استهداف مستشفيات غزة.
ليس جديدا القول أن الحكومات كافة تخشى من وسائل الإعلام وقدرتها على كشف جوانب من الحقيقة ويسعى بعضها لقتل الصحافيين المعارضين. فقد قتل العديد من الإعلاميين العرب خلال نصف القرن الماضي. ومن هؤلاء سليم اللوزي رئيس تحرير مجلة «الحوادث» الذي قتل في 25 فبراير 1980، والصحافي الليبي ضيف الغزال الذي اختطف وقتل في 21 مايو 2005 والصحافي العراقي الشاب ضرغام هاشم، مدير تحرير مجلة «حراس الوطن» عام 1990. وفي 16 نوفمبر 1976 اختطف الصحافي البحراني عبد الله المدني، رئيس تحرير مجلة «المواقف» وقُتل من قبل مجموعة تابعة لجهة سياسية.
في ظل هذه الحقائق يجدر بالنشطاء العرب والفلسطينيين إعادة فتح ملف الذين استهدفتهم «إسرائيل» بالقتل خارج إطار القانون، للتوثيق أولا ولإعداد ملفات قضائية للاستخدام أمام محكمة الجنايات الدولية فيما لو سمح «العالم الحر» بذلك.
إن قتل الصحافيين استهداف للحقيقة وتعتيم على الجرائم الإسرائيلية، وسعي حثيث لتكميم الأفواه بأي ثمن. فإذا رضي العالم بذلك، فما الذي يبقى من قيم التحضر والتمدن؟