- ℃ 11 تركيا
- 22 نوفمبر 2024
د. سعيد الشهابي يكتب: مفهوم الردع من منظور عسكري وسياسي
د. سعيد الشهابي يكتب: مفهوم الردع من منظور عسكري وسياسي
- 17 يوليو 2023, 5:32:52 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
في عالم تكتنفه التحديات واحتمالات الحر ب والنزعات التوسعية والتنافس على الثروات، أصبحت مقولة «الأمن القومي» همّا للحكومات التي تعتمد على نفسها لحماية أرضها وشعبها. وبرغم وجود مواثيق دولية لمنع العدوان والحد من احتمالات نشوب الحرب، فان النزاعات السياسية التي قد تفضي للحرب كثيرة لا تخلو منها منطقة او إقليم.
ويُفترض أن تكون منظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي قادرَين على منع نشوب النزاعات المسلحة، ولكن العقود الأخيرة أظهرا عدم قدرتهما على ذلك، خصوصا بعد أن تمكنت الولايات المتحدة من تجاوزهما وتهميش دورهما، وذلك بشن الحروب بدون قرار صادر عن أي منهما. وكثيرا ما قيل أن «الهجوم أفضل وسيلة للدفاع» وربما يصدق هذا القول على سياسات بعض الدول الغربية خصوصا أمريكا، ولكنه لا يمثل قاعدة راسخة لأن الهجوم كثيرا ما تكون له تبعات خطيرة. وتبرز الحرب في أوكرانيا مثالا على تلك التبعات، خصوصا إذا كان الهجوم خارجا عن المألوف وإذا كانت أطراف دولية كبرى تتربص للجهة التي شنت الحرب. وثمة مقولة أخرى توازي ذلك وهي أن الردع وسيلة فاعلة للدفاع. ويمكن القول إن هذا الخيار متيسر لأغلب الدول ولكنه ليس ضمانا لصد العدوان إذا توفرت ظروفه.
من الظواهر التي تقلق الاستراتيجيين والمفكرين توسع أطماع الدول الكبرى ونزوعها نحو العدوان.
ومن المؤكد أن الحسابات السياسية والاقتصادية والعسكرية من عوامل الردع التي تخفف غلواء تلك الدول لشن الحروب. فالردع مطلوب على كافة الصعدان وذلك لمنع العدوان حتى على المستويات الفردية. وقد أشار القرآن الكريم لضرورة امتلاك المسلمين من أسباب القوة ما يكون رادعا للآخرين: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم. وكلمة «ترهبون» هنا تحمل معنى الردع بشكل واضح. فإذا شعر الآخرون بأن لدى المسلمين منَعةً وقوة تراجع حماسهم لاستهداف المسلمين لأن ذلك سيكون مكلفا، وتملّكتهم رهبة تردعهم عن البدء بالعدوان. وجاء في القول المأثور: إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
ويجدر هنا طرح حالات ثلاث لتوضيح مفهوم الردع ومدى فاعليته كوسيلة للدفاع: روسيا والغرب، أمريكا والعالم، العرب و«إسرائيل». وفي كل من هذه الحالات أنماط من أساليب تحاشي الحرب أو الدفع باتجاهها.
فعلى الصعيد الأول تواجه روسيا اليوم تحديات كبرى بعد قرار الكرملين شن الهجوم العسكري على أوكرانيا بدعوى استعادة أقاليم تعتبرها موسكو تابعة لها، وكذلك لخشيتها من ارتباط أوكرانيا بحلف الناتو واحتمال انتشار قواته على حدودها على نطاق أوسع مما كان عليه قبل الحرب. هنا كانت روسيا تأمل أن تكون الحرب «رادعا» للدول الأخرى المحاذية لأراضيها عن الارتباط بالناتو. ويبدو أن الحرب حتى الآن نجمت عن نتائج معاكسة، فأصبحت دول مثل السويد وفنلندا أكثر حماسا للارتباط بالحلف كوسيلة للحماية من احتمال تكرر سيناريو الحرب الأوكرانية. هنا كان للأداء العسكري للقوات الروسية دور في إضعاف أسلوب الردع كوسيلة للدفاع. فلو أن روسيا حققت نصرا ساحقا في الأسابيع الأولى بعد نشوب الحرب لربما كان ذلك رادعا للدول الأخرى من أية تحالفات تستفز موسكو. وهنا تراجعت المقولة الأولى بأن «الهجوم أفضل وسيلة للدفاع». فالحرب أضعفت وهج الشبح الروسي الذي كان كابوسا يخيف الدول الأخرى. هذا لا يعني أن روسيا لا تمتلك أنواعا أخرى من وسائل الردع، ويكفي امتلاكها السلاح النووي وعددا من الرؤوس النووية يفوق ما لدى الولايات المتحدة الأمريكية. المشكلة أن الروس لم يحسنوا استخدام ما لديهم من قدرات عسكرية تثبّت صورتهم كقوة عملاقة يخشاها الآخرون.
تمثل قضية فلسطين واحدة من الأمور التي تقتضي امتلاك ردع حقيقي في مقابل الاحتلال الإسرائيلي. وقد سعت «إسرائيل» في وقت باكر لضرورة ضمان تفوق عسكري يمثل ردعا للدول العربية والإسلامية المتحمسة لقضية فلسطين
وإذا أضيف لذلك ضعف الأداء الروسي في أفغانستان في الثمانينيات، أصبح هناك تراكم من الضباب الذي يشوش سمة الردع التي تهدف موسكو لإظهارها. وربما استطاعت استعادة شيء من تلك الصورة بتدخلها في سوريا، ولكن ذلك لا يعوّض ما فقدته من سمعة في أوكرانيا. وبدلا من تعملق حالة «الردع» هرعت الدول الغربية لصب الزيت على النار ودخلت في الحرب بشكل غير مباشر، فقد أصبح الشعب الأوكراني وقود تلك الحرب التي تخاض بأسلحة غربية وتحريض غربي وإسرائيلي. وهكذا خسرت روسيا طابع الردع الذي عملت لتعميقه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وكثفت جهودها لتحقيق ذلك خلال الحرب الباردة. ولولا امتلاك روسيا السلاح النووي لربما نشبت حرب طاحنة في كوبا في إثر أزمة الصواريخ في العام 1962.
أما أمريكا فلها قصة مع العالم، فهي لا تسعى لردع مناوئيها فحسب، بل تهدف لتحقيق هيمنة مطلقة، سياسية واقتصادية. وهناك تحديات كبرى لهذه الهيمنة تصاعدت خلال الحرب الباردة من خلال السباق النووي مع الاتحاد السوفياتي. وقد اكتسبت أمريكا سلاح الردع بعد استخدام القنبلة الذرية في نهاية الحرب العالمية الثانية في هيروشيما وناغازاكي. وبعد تصاعد السباق النووي في الخمسينيات والستينيات، أدركت واشنطن وموسكو أن سباق التسلح لن يكون مجديا، وأن أزمة كوبا أكدت خطر ذلك. فتوجه البلدان لتبريد البؤر الساخنة الذي يعني استخدام الدبلوماسية لتخفيف التوتر الذي قد يفضي للنزاع النووي. وقد استمرت هذه «الهدنة» اثني عشر عاما ما بين 1967 و 1979.
ويبدو أن انتصار الثورة الإسلامية في إيران قد بدّد مناخ الاسترخاء بين المعسكرين الشرقي والغربي، فعاد التوتر مجددا في ساحات شتى خصوصا أفغانستان بعد الاجتياح السوفياتي في العام 1979. أمريكا استمرت في تصعيدها الإعلامي والدعائي ضد الاتحاد السوفياتي، وهو تصعيد لم يتراجع إلا بعد وصول ميخائيل غورباتشوف الى السلطة في موسكو في 1990، وانسحاب السوفيات من أفغانستان. وبعد تفكك الاتحاد السوفياتي شعرت أمريكا انها امتلكت من وسائل الردع ما يكفيها. ولكن سرعان ما صعد نجم الصين كقوة اقتصادية عملاقة قادرة على تحدي النفوذ الأمريكي، وهكذا عادت أجواء الحرب الباردة مجددا بأنماط أخرى. هذه المرة لم يكن سباق التسلح أو السباق النووي العنصرين الأساسيين في هذا السباق الخطير، بل أصبح الاقتصاد دائرة واسعة للصراع. ومع تمدد الاقتصاد الصيني وبموازاته النفوذ السياسي الذي وصل الشرق الأوسط وأفريقيا أصبح العالم على كف عفريت إذ يلوح شبح النزاع الدولي بوضوح في الأفق. هذه المرة تبدو الحرب الباردة متصاعدة بين قطبين: الولايات المتحدة وحلفائها من جهة، والصين وروسيا على الطرف الآخر. وتقع العلاقات الأمريكية الصينية في بؤرة الصراع المتوقع. ونظرا لخطره تتجه أمريكا لاحتوائه عن طريق التواصل بين واشنطن وبكين. وجاءت زيارتا وزير الخارجية الأمريكية، أنتوني بلينكن ووزيرة الخزانة، جانيت يالين للصين ضمن محاولات احتواء الموقف. أمريكا ترى الصين منافسا اقتصاديا كبيرا، ولا تستطيع كبح جماح اقتصادها الذي يتوسع بشكل مستمر. ويرى المخططون الأمريكيون أن الردع هنا يختلف عن بقية الحالات، ويرون في التقارب مع الصين في قضايا التجارة والبيئة ودعم اقتصادات دول العالم الفقيرة لمكافحة الغلاء كل ذلك يمثل نوعا من الردع المطلوب، بدلا من التهديد العسكري أو التنمر.
وتمثل قضية فلسطين واحدة من الأمور التي تقتضي امتلاك ردع حقيقي في مقابل الاحتلال الإسرائيلي. وقد سعت «إسرائيل» في وقت باكر لضرورة ضمان تفوق عسكري يمثل ردعا للدول العربية والإسلامية المتحمسة لقضية فلسطين. وحقق الدعم الأمريكي للاحتلال القدرة على تصنيع السلاح النووي بالاضافة للتفوق العسكري التقليدي. الردع هنا عسكري بحت، مدعوم بردع سياسي من أمريكا وأوروبا. أما الجانب العربي فلم يستطع امتلاك ردع حقيقي، لذلك أصبحت حدوده مكشوفة أمام العدو الذي استهدف مصر وسوريا ولبنان والأردن والعراق وتونس، بدون أن يدفع ثمنا لتلك الأعمال العدوانية. واستمر الوضع هكذا حتى حدث ما يشبه المعجزة بظهور قوى المقاومة، ونجاحها في تحقيق توازن عسكري مع العدو غير مسبوق.
لو استوعب حكام العرب هذه الحقيقة لوفروا أموال شعوبهم، ولأصبحوا محترمين أمام العالم، ولهزموا الاحتلال بوضوح الرؤية والنظر الثاقب والاعتماد على الجماهير كقوة رادعة لا يستطيع العدو كبح جماحها.
كاتب بحريني