- ℃ 11 تركيا
- 21 نوفمبر 2024
د. محمد إبراهيم المدهون يكتب: أسد فلسطين .. في ذكرى الرحيل
د. محمد إبراهيم المدهون يكتب: أسد فلسطين .. في ذكرى الرحيل
- 17 أبريل 2023, 1:03:46 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
لم تسترح غــزة ذلك اليوم فقد كان بانتظارها ليل آخر تسرب في خيوطه الأولى دمٌ ترامى فوق يديها كالشظايا... (دم الشهيد القائد عبد العزيز الرنتيسي)، في البرهة التي يتكاثر فيها الزبد ويصبح المقاتلون فئة قليلة، في الوقت الذميم الذي تتربص فيه الحواجز والأسلاك الشائكة بالعيون المقاتلة الشاخصة إلى كل بقاع فلسطين، غاب (الشهيد القائد) واحترق نجم فلسطين هوى على (القدس) كعباءة منسوجــــة بورق الزيتون ووجهه مقبل على الصلاة كحدود الشهادة.
(الشهيد الرنتيسي) الرجل المعنى في زمن تساقطــــت فيه المعاني عن كثير من الرجال، الطيف العصي الذي لا يُرى بسهولة. (أسد فلسطين) اليدان اللتان تتقنان صنع الفجر لتشرق الشمس بلا كآبة، على الذرى الفلسطينية العينان اللتان تصادقان الليل في البحث عن ممر إلى ثغور الغزاة، الكوفية التي تتشابه خيوطها مع ندوب الأرض المقدسة، كان يدرك أن عليه أن يخفي ملامحه والخفق الفلسطيني في قلبه وبيارات البرتقال في عينيه فيما الغدر يتربص به ويكمن في الزوايا والأزقة وتحت أصغر الظلال.
(القائد الرنتيسي) في لحظة الولادة كان السنديان يشتد، وفي لحظة الشهادة كانت الولادة سنابل تتسلق عتبة الدار لتحاكي ذكرى طفل ترك وراءه حمام البيت ودفتراً فيه أمنيات تنام بهدوء ولا يجزعها المنام ليلاً يجيىء أسد فلسطين يفتح باب الدار فيهب النعناع وقلب أمه المطرز بالأقحوان .. لطفل كانت تهدهد له حمام الدار كي ينام.. يدخل وحقيبته الملونة. يسندها إلى حائط حجري وينام في حضن أمه، فتعدد الهجرات في جبينه، يهرع عبد العزيز إلى المخيم، يجري إلى النقب، يهرول إلى مرج الزهور, يركض إلى بحر غزة .. يلقى مركبه الورقي الصغير .. وينام على شاطئه ويتقلب على رماله، فتكبر الجروح في عينيه كأنها ألف عام .. يكبر (عبد العزيز) ويكبر معه المخيم .. من طفل مشاكس إلى قائد قادم عبر الذكريات والطلقات التي اخترقت صدر المخيم لكنه لم ينحنِ.
قبل تسعة عشر سنة وبعد أن تسرب دم (الشهيد القائد) في هدوء الأمسية، سيصعد صوته من غموض الأشياء القاتمة في فلسطين مثل برج حجري لصوته الشهيد، أنا (عبد العزيز الرنتيسي) المولود في حقل فلسطين على أزهاره دم لم أستطع تفسيره طفلاً، ولم أستطع احتماله رجلاً، تعلمت كيف أمسح الدم عن الأقصى فكانت حماس والقسام، وكيف أمسح الدمع من عيون المحروميين والمكلومين فكانت المؤسسات الخيرية، وكيف أربي الجيل الجديد فكانت المساجد و المدارس والجامعات. ليس في فلسطين حجر أو زاوية أو جدار لا يستطيع أن يتهجأ اسمه ليس هناك جدولاً ولا سنبلة أو شجرة لا تتشابه به مع ملامحه، تتشابه مع الرجل الذي أخفى ملامحه لتتضح معالم البلاد.
تستفيق فلسطين على صاروخ وتخرج البلاد من جرحك النازف قرى وجداول ماءً ونعناعاً، يستفيق الشهداء يخرجون من جرحك قطرات دمٍ سالت على الجبين الصلب المتغصن والشهداء يضمدون جرحك النازف، ويدعون طيور الصباح المهاجرة لتتوسد الجسد المسجى بهدوء ملائكي كأنه يخبىء بين ضلوعه انفجاراً قادماً.
وفي يوم الرحيل كان الوداع الأخير لأسد فلسطين، فكان يوم الثامن عشر من إبريل 2004 لا مثيل له في تاريخ غزة، حيث احتشد ما يزيد عن النصف مليون من شباب غزة العزة زحوفاً من مسجد العمري باتجاه مقبرة الشيخ رضوان، وسار الموكب ساعات متواصلة، والجماهير التي انطلقت بحشودها المتراصة تؤكد أن أسد فلسطين حس الجماهير وخيارها الأوحد ، فانتخبته في استفتاء قاطع لكل الأوهام، ووقف علماء النفس يلوون شفاههم ما هذا ؟ من أين جاء كل هؤلاء لتشييع الشهيد الرنتيسي.
ويوم عرسه الرائع، الأعناق تدوس الأعناق، والرجال تحلق زاحفة مسافات ومسافات لا تدري من يحملها فوق الأرض، والكل يبغي التمســـــح بالجسد ولا تواتيه الفرصة ليخضب أصابعه بقطرة من دم الشهيد يضعها على شفتيه فتفوح منها رائحة المسك. وتخرج غزة لتودع (الشهيد الرنتيسي) .. تخرج كل فلسطين لترى الشهيد الذي لم يمت .. تكبر البلاد بولادة (أسد فلسطين) ... تزغرد أم لطفل قادم في وجهه ابتسامة، وفي يديه دفتر صغير ومركب ورقي، ويركض إلى بحر غزة يفتش عن حدوده ويتقلب على رماله ويكتب عبد العزيز لم يمت ولكن شبه لهم.
هكذا يموت الأبطال .. أشجاراً أصلها ثابت وفرعها في السماء .. جبالاً تمر عليها ضربات السنين، لا يموتون، ينتقلون من حياة إلى حياة، ومن دار إلى دار... كما الطير يسرح في فضاء لا حدود له.
هكذا خرج (الشهيد الرنتيسي) من الحياة، حياة الكبد والكد، خرج بعد أن أدار لها ظهره، وبعد أن نظر إليها نظرة الاستخفاف والسخرية.
فالقتلة الذين ظنوا خطأ أن ثلاثة صواريخ قد أنهت حالة (أسد فلسطين) في الشعب الفلسطيني هم واهمون، ولو قدر لشارون حينها أن يقف أثناء عرس الشهيد لأدرك أنه فرغ على التو من عدّ ما يزيد عن النصف مليون (رنتيسي) .
ترى كم كان وسع خطوة (الشهيد القائد عبد العزيز الرنتيسي) وهو يغدو بين جنبات الوطن خطوته حين غادرنا كانت بالكيلومترات ... خطوة أسد فلسطين صارت بيتاً وسع الشعب كله حين سـار في جنازة الشهيد القائد.
وفي المقبـرة اصطفت مئات الآلاف لإلقاء النظرة الأخيرة على الجثمـان المسجى ويطبع أحبابه وجنوده القبلة الأخيرة على جبينه الطاهر، فيما أطلقت كتائب القسام وقوى المقاومة واحد وعشريــــــن طلقة تحية للشهيــــد المعلم.
وما أن انتشر خبر استشهاد (أسد فلسطين) حتى ساد في أنحاء فلسطين خاصة والعالم الإسلامي عامة حالة من عدم الاستقرار، وخرجت مئات الآلآف في شوارع قطاع غزة وفلسطين معلنين أنهم سينتقمون لشهيدهم، وأعلنت إسرائيل حالة الطوارىء، وأغلقت الضفة وغزة ونشرت قوات معززة، ولم تخف فرحتها العظمى بهذا الخبر، و صرح (كبيرهم) بالقول : " أنه أشرف شخصياً على تنفيذ عملية الاغتيال وأن هذا إنجاز عظيما.
و سيطر على الإحتلال شبح العمليات الاستشهادية، وفي غزة توجه مئات الآلآف إلى بيت (الشهيد القائد)، فيما انهمرت الدموع من العيون، ويصرح قادة حماس أن استشهاد (الشهيد الرنتيسي) ليس النهاية.
دم (الشهيد القائد) في غزة كان يركض في شوارعها كنهر بلا مستقر، كان يرفع صوته ذبيحاً، يحكي قصة ظريف الطول الأنموذج الأسطوري الذي صوب قلبه إلى الشمس في (قلب) غزة هاشم، ولم يتسع له الوقت ليطرق أبوابها واحداً واحداً كي يضع أمانة الدم في الدم، فكان أن ترك وصيته على الأرصفة حتى تصافح في الصباح وجوه تلاميذ المدارس وهم ذاهبون إلى درس القراءة عن الوطن المحاصر بين الوثائق وسلاح الغزاة، استشهد (الرنتيسي) تاركاً أمانة الدم لنا وإشارة صريحة إلى جهة الخرق الإسرائيلي المتواصل.
هكذا خرج (عبد العزيز) من الحياة ، بعد أن أودع فيها دليل الطريق وكتاب المنهج، بدلة الكاكي, قطعة السلاح, رغيف الخبز اليابس والبساط الملوث بالوحل والطين. لم يعد (الشهيد الرنتيسي) بحاجة إليها فقد استنفذ وقته ورحل...
هكذا خرج (أسد فلسطين) من الحياة.. بعد أن حفر بكلتا يديه طريقاً للرصاص الممتد من رفح حتى الجليل ورسم ممراً للقنابل تعبر فوق الجسور وتحت الأنفاق، وبعد أن شق جدولاً للدماء يخترق سواحل غزة وجبال القدس وروابي الخليل وسهول يافا، حتى إذا بلغ يبنا تدفق شلالات تتراقص على لحن بيوت اللاجئين وخيام الفقراء والأطفال الذين انتظروه على قمم الجبال لأنه وعدهم أن يمر ويسلم عليهم.
هكذا خرج (القائد) من الحياة، بعد أن علم الأطفال الذين لم يجيدوا نطق الحروف الأبجدية بعد أن روضة الاستشهاديين ستكون فيها أرجوحتهم ولعبهم ولهوهم. وهكذا علمهم نطق الألف والباء في حرية الدم وحلاوة المراغمة، ورسم على وجوههم صورة لا تكاد تمحى، إنكم يا صغاري الأبطال وحدكم، وغيركم الجبناء، أنتم الفرسان تمتطون صهوات المرحلة وغيركم تأبطوا ملفات التفاوض العبثية المارقة المليئة بأخطاء اللغويات.
هكذا خرج بطلاً في وقت عزّ فيه الأبطال وفارساً في وقت تنادى فيه المتساقطون على وليمة الوطن، ورمزاً في وقت سقطت فيه الشعارات الممجوجة.
وعلى حافتي الطريق يبقى المهرولون أصحاب الدنيا يبحثون عن مكان فوق الطين فيما يستقبل (الشهيد القائد) الشهادة وهو يرفع الراية في زمن الصعود الصهيوني الأمريكي يبرز الخيار ناصع البياض، فعندما يسقط رأس (الشهيد الرنتيسي) حينها (أسد فلسطين) غير قابل للرثاء ويستعصي على الكلمات، (الشهيد القائد) كان قابلاً للانفجار، قابلاً للاشتعال وقلبه وسع كل فلسطين من بحرها إلى نهرها، فأي لغة يمكن أن تسعه.
إن دم (الشهيد الرنتيسي) قد وضعنا على طرف الخيار، إما أن نُغيب أو نُعلب أو نموت على مزاج الأوصياء، وذلك منطق الجنون، جنون السقوط طالما أننا نستطيع الموت شهداء.
(الشهيد الرنتيسي).. يا أبا محمد لم تمل من الجهاد والمطاردة ولا حفيت أقدامك من الشوك ولا ارتجفت مفاصلك من لذع البرد وحرقة الشمس، كنت أعلم أنك تطارد وتطارد، تجري وراء جيش بأكمله تحاربه ومعك جيش الإستشهاديين، ويجري وراءك جيوش من السفلة وشذاذ الآفاق، من يهود البقرة وعرب النفاق الذين ربوا على النفاق. أخيراً اصطادوك، أغبياء هم وما أتعسهم، لقد اغتالوا فيك الجسد، لكننا - وقت السقوط - كنا عند رأسك ننتظر روحك نلفها بالحرير والطيب والحناء، وقت السقوط رحلت إلى عليين بإذن الله، لم تشأ إرادة الله أن تطال الأيدي الآثمة والأرجل النجسة منك، يا طهر البحر وطيب السماء.
أهي الحقيقة يا (أسدنا)، لن نراك بعد الآن وأهاً يا أمة العرب. ألن ترقص النساء في مخيم خانيونس على صوتك وأنت تهدر في أرضك (المسلوبة) في يبنا وتل الربيع، ألن تلقى (أبو العبد) لتهمس في أذنيه خلي بالك. (الشهيد الرنتيسي) ... ما أجملك وأنت تدخل بوابة القبر وقد اصطفت ملائكة السماء ، صفوفاً صفوفاً تنثر عليك الرياحين وتغمرك بالطيب، ثم ها هو الإمام الياسين (وهو الذى رأى في منامه وأنت معه ترفعون قواعد المسجد الأقصى) يقف من بعيد ينتظر إلى أن يصل إليه الدور ليطوقك بكلتا يديه، وقف على قدميه. يقبلك من جبينك ووجنتيك ويقول لك لم تتأخر عني حبيبي أبا محمد كما عهدتك، ثم صف الشهداء صلاح شحادة, إبراهيم المقادمة، إسماعيل أبو شنب، الجمالين وآخرين وصف من الكتائب يحيى و محي الدين وعدنان وآخرين، يدعونك الآن حتى تستريح من عناء الرحلة ، يدعونك تستريح من وعثاء السفر.
كانت رحلتك طويلة، آن لهذا الفارس أن يمد قدميه ويلصق ظهره بالأرض ويغمض عينيه وينام.