د. محمد صالح الفتيح يكتب: مشكلة النقد السوري

profile
د. محمد صالح الفتيح محلل سياسي وعسكري متخصص في شؤون الشرق الأوسط.
  • clock 2 فبراير 2025, 10:25:37 ص
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

ذكرت في 27 ديسمبر/كانون الأول 2024، خلال حديثي مع الدكتور هيثم مناع والصديق مرام داود، أنه من الصعب زيادة الرواتب بنسبة 400% لأسباب عدة منها عدم توفر ما يكفي من الأوراق النقدية. مشكلة النقد السوري هي مشكلة مزمنة وتفاقمت منذ مطلع 2020 بسبب انهيار قيمة الليرة السورية مقابل الدولار. فباتت القيمة الاسمية للأوراق النقدية السورية منخفضة للغاية مقارنةً بحاجة المتداولين ومقارنةً بقيمة الدولار والأهم أنها باتت منخفضة بالمقارنة مع تكلفة طباعتها. هذا العامل الأخير هو ما تغفل عنه العديد من المؤسسات المالية العربية، بما في ذلك في سورية.

متوسط تكلفة طباعة الورقة النقدية الواحدة تتراوح بين 4 و10 سنتات أميركية وذلك بحسب الكميات التي تطبع منها والمزايا الأمنية في الورقة النقدية. ولكن هذه التكلفة عادةً ما تعادل حوالي 0.1% فقط من القيمة الاسمية للورقة النقدية. تكلفة الطباعة في الولايات المتحدة هي من بين الأقل في العالم بسبب الحجم الهائل للأوراق النقدية التي يتم طباعتها. فمتوسط تكلفة طباعة الأوراق الأصغر من فئة 1 و2 دولار هي 3.2 سنت أميركي فقط وترتفع التكلفة تدريجياً وصولاً إلى 9.4 سنت لورقة المئة دولار (الرابط في المصدر الأول). بالمقابل نجد أن تكلفة طباعة اليورو تتراوح بين 10 و15 سنت أوروبي (أي تتراوح بين 12 و18 سنت أميركي أو حوالي مثلي تكلفة طباعة الدولار والفارق يعود للفرق الهائل في حجم الطباعة).

في سورية، أكبر ورقة نقدية متداولة هي من فئة الـ5,000 ليرة وقد طبعت للمرة الأولى في 2019 ودخلت التداول أول مرة في 14 يناير/كانون الثاني 2021 (الرابط في المصدر الثاني). في مطلع 2021 كان الدولار يعادل حوالي 2,900 ليرة سورية (الرابط في المصدر الثالث) أي أن أكبر ورقة نقدية سورية كانت تعادل 1.72 دولاراً وهذه قيمة منخفضة جداً حتى في ذلك الحين. للتذكير كانت أكبر ورقة نقدية في 2010 هي من فئة الألف ليرة وكانت تعادل حوالي 22 دولاراً. وفي لبنان، قبل الأزمة المالية في 2019، كانت أكبر ورقة نقدية من فئة المئة ألف وكانت تعادل حوالي 67 دولاراً.

التصميم الأصلي لورقة الـ5,000 ليرة ويظهر أنها من السلسلة الأولى A.

الانخفاض الكبير في قيمة الليرة السورية مع التضخم المالي وارتفاع أسعار كل البضائع المتداولة والعقارات والذهب بات يتطلب وجود كميات هائلة من النقد السوري. ولكن لم يتم طباعة أوراق نقدية بقيم أعلى، بل تم التوسع بطباعة الأوراق من فئة الـ5,000. لا يوجد قوانين تحدد الكميات التي يمكن طبعها، ولكن كان هناك أعراف أو تقاليد في سورية. كان من المعتاد أن تطبع الأوراق النقدية ويكون عليها أرقام تحدد رقم السلسلة (Series number) وهو يكون عادةً حرف متبوع برقم بين 1 و99 – مثل A12. وعدد الأحرف هو 26 ومن كل حرف يمكن طباعة 99 سلسلة فرعية. وبالمجمل هناك حوالي 2,600 سلسلة يمكن طباعتها من أي ورقة نقدية. وضمن كل سلسلة، يوجد رقم تسلسلي يكون من ست خانات (أي أنه يمكن طباعة حوالي مليون ورقة نقدية من كل سلسلة) فيصبح الرقم الإجمالي – مثلاً – A12 987654. هذا ما كان مألوفاً مع أغلب الأوراق النقدية السورية منذ الاستقلال وحتى طباعة ورقة الـ2,000 ليرة.

ورقة من السلسلة B التي ظهرت في 2019.

ولكن مع طباعة ورقة الـ5,000 ليرة حصل تغييران. الأول هو طباعة أرقام تسلسلية من سبع خانات (أي أنه يمكن طباعة حوالي 10 ملايين ورقة من كل سلسلة). الثاني هو طباعة أغلب أرقام السلاسل وهذا ما لم يكن يحصل سابقاً. من يتفحص الأوراق النقدية المتداولة من فئة الـ5,000 سيجد أن الأوراق المطبوعة في فترة 2019 إلى 2021 كانت من سلاسل تبدأ بالحرفين A وB فقط. ولكن في 2023 و2024 تم التوسع بالطباعة لتشمل أغلب السلاسل الممكنة. فيمكن العثور على أوراق نقدية من السلسلة S (يمكن مراجعة الصور المرفقة). هذا التوسع الهائل في الطباعة كان يهدف لمواجهة التضخم المالي. ما كان يخشاه النظام السابق هو أن طباعة أوراق نقدية من فئة الـ10,000 أو الـ20,000 أو الـ100,000 سيحدث صدمة نفسية وسيعزز التضخم المالي. ففضل بدل ذلك اللجوء للمماطلة فتم التوسع بطباعة الأوراق من فئة الـ5,000 وتم تبرير هذه الطباعة بأنها إضافة لمزايا أمنية لهذه الأوراق (الرابط في المصدر الرابع). وعندما استنفذت السلاسل التي يمكن طباعتها بدأ في صيف 2024 بإعادة الأوراق النقدية القديمة من فئة الألف ليرة التي طبعت في نهاية التسعينات والتي سحبها في السابق. وفي الأيام الأخيرة، أعلن عن إعادة التداول بالأوراق النقدية من فئة 100 و200 ليرة (الرابط في المصدر الخامس). وهذه الأوراق خاسرة لأن قيمتها الاسمية أقل من تكلفة طباعتها.

ورقة من السلسلة S التي ظهرت في 2024

تحتاج سورية منذ سنوات إلى أوراق نقدية جديدة (كتبت عن هذا منذ سنوات وهناك روابط في المصدر السادس). الآن هناك خياران لا ثالث لهما:

الأول، التوسع في طباعة الأوراق النقدية الحالية من فئة 1,000 و2,000 و5,000 ليرة. ويمكن حل مشكلة الأرقام التسلسلية إما عبر اعتماد سلاسل فرعية جديدة مثل AB21 أو استخدام ترقيم فرعي من ثمان خانات (أي طباعة مئة مليون ورقة من كل سلسلة). هذا الحل مكلف جداً. فتكلفة طباعة الورقة الواحدة ستتراوح بين 5 و10 سنتات أميركية أي ستكون تكلفة طباعة الورقة الواحدة بين 650 و1,300 ليرة (وفق السعر الرسمي للدولار). وهذه تكلفة عالية جداً حتى بالنسبة للورقة من فئة الـ5,000 التي لا تعادل سوى ما بين 30 و40 سنت أميركي للورقة الواحدة وتكلف طباعتها حوالي ربع هذا الرقم. والمصرف المركزي لا يبيع الأوراق النقدية للمواطنين وبالتالي فعملية طباعة واستبدال الأوراق النقدية هي عملية خاسرة ويتحمل هو تكلفتها بالكامل. ميزة هذا الحل هي أنه لا يخلق صدمة نفسية جديدة للمواطنين ولا يعزز التضخم المالي بشكل سريع.

الثاني، طباعة أوراق نقدية من فئات أعلى، من فئة 10,000 و20,000 و50,000 على الأقل. وورقة 50,000 ستكون قيمتها الاسمية حوالي 3.8 دولاراً ونسبة تكلفة طباعة هذه الورقة إلى قيمتها الاسمية ستكون حوالي 2%. هذه نسبة مرتفعة بالمقارنة مع السائد حول العالم، ولكن يمكن تحملها. ولكن مشكلة هذا الخيار هي أنه سيخلق صدمة نفسية لدى السوريين وسيعزز التضخم المالي بشكل كبير. وفي الحقيقة، لو أردنا العودة لطباعة ورق نقدي يتناسب مع سعر الدولار ومع متطلبات التداول فيجب أن تكون هناك ورقة نقدية من فئة 250,000 على الأقل وهذه الورقة ستكون قيمتها أقل من قيمة الألف ليرة سورية في 2010. أما لو أردنا طباعة أوراق نقدية تشبه الوضع في لبنان (قبل الأزمة المالية) فيجب طباعة أوراق من فئة 500,000 أو 1,000,000 ليرة. علماً أن السعودية والإمارات تتداولان أوراق من فئة الألف ريال والألف درهم وهذه تعادل أكثر من 300 دولار أميركي. ومع تداول عقارات عادية في العديد من المحافظات السورية بأرقام تفوق المليار ليرة فطباعة ورقة من فئة المليون ليرة هو أمر مبرر. المشكلة كما ذكرت هي الصدمة النفسية.

الخياران سيئان. ولكن التعافي الاقتصادي يتطلب اتخاذ قرار سريع في أحد الاتجاهين.

ملاحظة: ما يتداول، من وقت لآخر، حول حذف الأصفار، لا يغير شيئاً في الحقيقة. فلو تقرر حذف ثلاثة أصفار من الأوراق النقدية السورية، ستصبح الأوراق المتداولة حالياً من فئة 1 و2 و5 ليرات وسيتحول راتب المليون ليرة إلى ألف ليرة. والأهم أن نسبة تكلفة طباعة الورقة النقدية الواحدة إلى قيمتها الاسمية ستبقى بدون تغيير. وأيضاً لا تتوفر في سورية البنية التحتية اللازمة للانتقال للتداول الإلكتروني بدل الورقي.


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
المصادر

1- تكلفة طباعة الدولار الأميركي - https://linksshortcut.com/wwWnJ.

2- خبر طرح ورقة الـ5,000 ليرة لأول مرة - https://linksshortcut.com/BQNmO.

3- سعر الدولار في سورية في يناير/كانون الثاني 2021 عند طرح ورقة الـ5,000 للمرة الأولى - https://linksshortcut.com/lOzIZ.

4- إعادة تداول ورقة الألف ليرة القديمة في صيف 2024 - https://linksshortcut.com/MKwjp.

5- إعادة المئة والمئتي ليرة للتداول منذ أيام - https://linksshortcut.com/CCUSv.

6- منشورات قديمة للكاتب عن النقد السوري:

- https://linksshortcut.com/moHpY.

- https://linksshortcut.com/zhyGS.
 

التعليقات (0)