- ℃ 11 تركيا
- 21 نوفمبر 2024
د. يوسف داوود يكتب: ما دلالات إعلان بولندا منع تزويد أوكرانيا بالسلاح؟
د. يوسف داوود يكتب: ما دلالات إعلان بولندا منع تزويد أوكرانيا بالسلاح؟
- 26 سبتمبر 2023, 12:57:21 م
- 533
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
منذ اندلاع شرارة الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير 2022، لطالما اعتُبرت بولندا من أهم موردي السلاح لكييف ومن أكثر المناصرين لزيلينسكي في مواجهة روسيا؛ فحتى تاريخه، قدمت بولندا مساعدات عسكرية ومالية وإنسانية تبلغ قيمتها نحو 4.27 مليار يورو (نحو 4.54 مليار دولار) لأوكرانيا، ومنذ الحرب، لعبت وارسو أيضاً دوراً محورياً في الضغط على أعضاء الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي الآخرين لإرسال المزيد من الأسلحة إلى أوكرانيا.
ومع هذا، شهدت العلاقات بين وارسو وكييف خلال الأيام الأخيرة توترات غير مسبوقة، وصلت إلى حد اتخاذ بولندا قراراً بمنع تزويد أوكرانيا بالسلاح. وفي خضم الخلاف الراهن، بدأت تطفو على السطح بعض التكهنات التي تحذر من أن ينقلب الخلاف الحالي إلى صدع مؤثر في وحدة صف حلفاء أوكرانيا؛ ما ينذر بعواقب وخيمة، في حين ذهب البعض الآخر إلى أن هذا الخلاف محكوم بعوامل ظرفية وسيزول بمجرد زوال الأسباب، وخاصةً أن بولندا لا تزال تنظر إلى روسيا باعتبارها تهديداً أمنياً كبيراً لها، ومن ثم ليس من مصلحتها إضعاف موقف كييف.
ملابسات القرار
تحيط مجموعة من الأبعاد بقرار وقف تصدير السلاح من المخزون البولندي للمجهود العسكري في أوكرانيا، وهي الأبعاد التي يمكن اعتبار بعضها أسباباً مباشرة لاتخاذ هذا القرار، والبعض الآخر أسباباً متراكمة غير مباشرة تتعلق بدوافع بعض الأطراف المنخرطة في الصراع:
1- حظر بولندا استيراد القمح الأوكراني: في الأسابيع الأخيرة، توترت العلاقات بين الحليفين إلى حد ما بعد أن فرضت وارسو حظراً على واردات الحبوب الأوكرانية، في محاولة لحماية المزارعين البولنديين من تدفق واردات الحبوب والمواد الغذائية الرخيصة. وانضمت الدولتان المجاورتان المجر وسلوفاكيا إلى بولندا في تمديد الحظر الوطني على واردات الحبوب والمنتجات الأوكرانية، وتم فرض القيود بعد أن قررت المفوضية الأوروبية الذراع التنفيذية للاتحاد الأوروبي، عدم تمديد حظرها على واردات القمح إلى تلك البلدان، بالإضافة إلى كل من بلغاريا ورومانيا. وقد اتخذت بولندا وجيرانها هذا القرار نظراً إلى أنه كان من المفترض أن تنتقل واردات القمح الأوكراني إلى الغرب، إلا أن المطاف كان ينتهي بها بالبيع في السوق المحلية؛ ما يسبب إضراراً للمزارعين المحليين.
2- الصدام الدبلوماسي في الأمم المتحدة: أدى القرار البولندي السابق إلى إدلاء الرئيس الأوكراني زيلينسكي بتصريحات أثناء مشاركته في اجتماعات للجمعية العامة للأمم المتحدة تفيد بأن بعض الدول المجاورة، رغم تأييدها العلني لأوكرانيا، تتخذ خطوات من شأنها مساعدة جهود روسيا في الحرب؛ وذلك في إشارة واضحة إلى بولندا، وهو ما حدا رئيس وزراء بولندا ” ماتيوز موراوسكي” إلى الإعلان صراحة عن توقف بولندا عن إمداد أوكرانيا بالسلاح، مستنداً إلى حاجة بولندا نفسها إلى تحديث قدراتها الدفاعية.
3- الخلاف في بولندا بشأن استمرار دعم أوكرانيا: إذا كانت أزمة الحبوب هي الفتيل الذي أشعل التوتر الحالي، فإنه يمكن اعتبار أن هناك أسباباً متجذرة طويلة الأمد داخل بولندا ساعدت على إذكاء الخلاف ليصل إلى ما وصل إليه خلال المرحلة الراهنة؛ فمنذ انخراط بولندا بشكل كثيف في تزويد أوكرانيا بالسلاح ولعبها دور نقطة العبور أو المرور للقوات والمعدات التي تصل أوكرانيا، بدأت الأصوات المعارضة داخلياً في وارسو تصف الحكومة بأنها تهدر الموارد وتثقل كاهل الاقتصاد البولندي المتعثر بأحمال عسرة الحمل.
ومع اقتراب انعقاد الانتخابات التشريعية البولندية في منتصف شهر أكتوبر المقبل، بدأت بعض القوى السياسية توظف هذه المسألة باعتبارها ضاغطة على الاقتصاد البولندي، وبالأخص الائتلاف المدني الليبرالي، وهو الكتلة المعارضة الرئيسية لحزب القانون والعدالة الحاكم؛ لذلك انتهزت الحكومة الحالية بقيادة “ماتيوز مواروسكي” أزمة الحبوب واتخذت قراراً بوقف تصدير السلاح باعتباره رد فعل، في نوع من المغازلة للرأي العام الداخلي قبيل الانتخابات.
4- الحاجة الملحة لتعزيز قدرات الجيش البولندي: مع طول أمد الحرب وإثارة مسألة مدى استعداد الدول الغربية – وبخاصة الولايات المتحدة – لتحمل فاتورة مساندة أوكرانيا ربما لعدد من السنوات القادمة؛ بدأت بعض دول الجوار الروسي، وعلى رأسها بولندا، تتحسب لأسوأ الاحتمالات؛ وذلك عن طريق تعزيز قدرات جيوشها الوطنية لتتمكن من الدفاع عن نفسها بنفسها.
في السياق ذاته، فإن الجيش البولندي لا يمثل استثناءً من هذه الحالة؛ حيث وقعت وارسو عدة صفقات أسلحة في الآونة الأخيرة، بما في ذلك مع الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية؛ إذ طلبت منهما دبابات K2 “بلاك بانثر” ومدافع هاوتزر K9؛ وذلك ليضاف إلى قدراتها الهجينة من منظومات التسليح الغربية والمخزون الاستراتيجي من السلاح السوفييتي. وفي سبيل زيادة هذه القدرات كماً وكيفاً، تسعى وارسو من وراء هذا القرار إلى مراكمة السلاح الموجود لديها حتى إن تقادم؛ وذلك لتوافر ذخائر هذه الأسلحة بكميات وفيرة مقارنة بمنظومات التسليح الحديثة التي تحتاج إلى سنوات لمراكمة مخزون معتبر من الذخائر.
تداعيات رئيسية
نجم عن القرار البولندي مجموعة من التداعيات الفعلية، كما أن من المتوقع أن ينتج عنه مجموعة من التداعيات المحتملة، التي قد تفوق في أهميتها التبعات الفورية المباشرة:
1- الحرص على تأكيد استمرار الصفقات السابقة: رغم ما سببته تصريحات زيلينسكي والقرار البولندي المتخذ على إثرها من احتقان بين الدولتين، فإن الرئيس البولندي حرص على تهدئة الأمور بتأكيد أن ما كان يقصده “ماتيوز موراوسكي” يخص صفقات التسليح الأكثر تطوراً فقط التي تتعاقد عليها بولندا مؤخراً؛ وذلك في إشارة إلى حرص بولندا على عدم تسبب هذه الأزمة في تداعيات لا يمكن تداركها مستقبلاً، وهو ما يرجح سيناريو التهدئة في مقابل سيناريو التصعيد.
2- ضغط أمريكي متوقع على بولندا: بالرغم من التصريحات الرسمية التي أطلقتها وزارة الدفاع الأمريكية بأن قرار تزويد أوكرانيا بالسلاح من عدمه هو قرار سيادي يخضع لإرادة الدول، فإن من المتوقع أن تصاحب هذه التصريحات تحركات مغايرة على المستوى العملي؛ فمن المعروف أن مسألة استمرار تزويد أوكرانيا بالسلاح والعتاد هي مسألة ضاغطة ومكمن خلاف بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري؛ حيث يرى الأول عدم وجود بديل عن الاستمرار في ذلك حتى لو كان يمثل عبئاً على الموازنة الفيدرالية، بينما يرى الثاني أهمية دعم أوكرانيا بوسائل أخرى، خاصة أن الأوروبيين لم يتحملوا الفاتورة التي تحملتها الولايات المتحدة؛ لذلك من المتوقع أن تبذل إدارة بايدن بعض المساعي لثني بولندا عن قرارها، أو لإخراجه – على أقل تقدير – بشكل لا يحض دولًا أخرى على أن تحذو حذوه.
3- تعقيد مواقف الدول الأوروبية الأخرى: يتوقع البعض أن يؤدي هذا القرار إلى إثارة حفيظة بعض الدول الأوروبية المجاورة لبولندا والمنخرطة في إمداد أوكرانيا بالسلاح بشكل كبير؛ فكل من ألمانيا والمملكة المتحدة والتشيك وتركيا تعتبر هي أكبر الدول الموردة للسلاح لأوكرانيا بجانب كل من الولايات المتحدة وبولندا. وفي الوقت الذي لا يمكن الجزم فيه بأن هذه الدول ستحذو حذو بولندا نظراً إلى عدم مرورها بالظروف نفسها، فإن من المرجح على أقل تقدير أن تضغط على بولندا لمواصلة دعمها العسكري لأوكرانيا؛ وذلك إدراكاً منها أن الدعم الذي ستسحبه وارسو سيلقي على عاتقها مسؤوليات مضاعفة لتعويضه.
4- إضعاف آمال إحياء مبادرة البحر الأسود للحبوب: مما لا شك فيه، أن الخلاف الراهن بين وارسو وكييف يصب في مصلحة روسيا التي قدرت أن قرارها تعليق مشاركتها في مبادرة البحر الأسود للحبوب قد أتى بثماره؛ وذلك لأن اضطرار كييف إلى إيجاد مسارات بديلة لتصريف صادراتها من القمح مثَّل السبب الرئيسي في إشعال هذا الخلاف؛ لذلك من المرجح أن يؤدي هذا الخلاف إلى مزيد من تمسك روسيا بموقفها وعدم الإقدام على العودة إلى المبادرة باعتبار ذلك ورقة ضغط رابحة في الصراع الحالي.
الخلاصة: إذا كان قرار بولندا الحالي الامتناع عن تزويد أوكرانيا بالسلاح مستقبلاً قد أثار ضجة واسعة، فإن نطاق هذا الامتناع وآثاره المحتملة ستتضح أكثر مع مرور الوقت؛ وذلك أخذاً في الاعتبار أن روسيا على الأرجح اعتبرته انتصاراً مؤقتاً في مقابل ارتباك نسبي في المعسكر الغربي. صحيح أن بولندا تبنت منذ بداية الحرب موقفاً داعماً لأوكرانيا خشية انتصار روسيا، ومع ذلك فإن امتداد الحرب لفترة زمنية طويلة أفضى إلى معطيات جديدة في بولندا وغيرها من الدول الغربية، وفي مقدمتها أن ثمة ضغوطاً داخلية متصاعدة من التكلفة الهائلة، اقتصادياً وعسكرياً، ناجمة عن استمرار دعم أوكرانيا.