- ℃ 11 تركيا
- 22 نوفمبر 2024
رابحة سيف علام تكتب| خطاب نصر الله: قواعد الاشتباك بين حزب الله وإسرائيل تبقى بلا تغيير
رابحة سيف علام تكتب| خطاب نصر الله: قواعد الاشتباك بين حزب الله وإسرائيل تبقى بلا تغيير
- 9 نوفمبر 2023, 6:22:08 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
حسن نصر الله
في إطلالته الإعلامية الأولى منذ بدء عملية طوفان الأقصى، شدد حسن نصرالله، الأمين العام لحزب الله، على جاهزية حزبه لتوسيع الحرب في أي وقت وإبقاء كل الاحتمالات مفتوحة لتحول الحرب الراهنة إلى حرب موسعة. ووجه التهديد للولايات المتحدة الأمريكية مقللاً من أهمية وجدوى القطع البحرية التي حشدتها واشنطن في شرق المتوسط للدفاع عن إسرائيل مؤكداً أنها ستكون مستهدفة هي الأخرى في إطار الحرب الموسعة.
كما أكد أيضاً أن ردود فعل حزب الله القادمة متوقفة على التطورات الميدانية التي تجري في غزة وعلى مدى استهداف إسرائيل للجنوب اللبناني، فمن أراد أن يوقف توسع الحرب إلى جبهات جديدة عليه أن يسيطر على السلوك الإسرائيلي في كل من غزة وجنوب لبنان.
لم يحمل خطاب نصرالله جديداً على مستوى تصعيد الحرب الجارية من عدمه، كما لم يُغير شيئاً من قواعد الاشتباك بينه وبين إسرائيل على حدود لبنان الجنوبية، ولذا تفاوتت ردود الفعل بشأن الخطاب. هناك من اعتبر أن حزب الله تقاعس عن أداء دوره الذي طالما تغنى به، وأنه لم ينفذ تهديده برفع درجة استهدافه لإسرائيل بما يخفف عبء القتال عن حماس في غزة وبما يتناسب مع مبدأ "وحدة الساحات" الذي روّج له سابقاً ولكنه لم يذكره مطلقاً في خطابه. فيما اعتبر آخرون أن خطاب نصرالله كان عقلانياً ومتوازناً وملتزماً بخطه الدفاعي المعتاد عن لبنان، ولم يندفع إلى الزج بلبنان في أتون الحرب بلا طائل، ولكنه في نفس الوقت أبقى كل الاحتمالات مفتوحة.
رسائل الخطاب
جاء خطاب حسن نصرالله بعد فترة صمت نسبي التزم بها حزب الله منذ بدء حرب غزة، فحزب الله لم يُفرد إطلالات إعلامية لأمينه العام بل اكتفى ببيانات مكتوبة تعلن عن عملياته التي ينفذها على جبهة جنوب لبنان وبعض التصريحات الرسمية لعدد من قياداته الوسطى. ولعل المقصود من الظهور الإعلامي المحدود الذي استمر في الفترة الماضية كان الرغبة في توجيه الرسائل بشكل محسوب في الميدان العسكري وعدم الذهاب إلى التصعيد الإعلامي غير المحسوب. ولذا عندما تم الإعلان عن ترقب كلمة لحسن نصرالله تصور البعض بأن إطلاق الكلمة في حد ذاته سيكون بمثابة التصعيد المنتظر في مجرى الحرب الدائرة في غزة، وهو ما لم يحدث.
شدد نصرالله على أن خطابه هذا ليس إشارة البدء في دخوله الحرب لأنه دخلها بالفعل منذ الثامن من أكتوبر وفتح جبهة لبنان على مصراعيها ولكن بشكل تصاعدي. بل جاءت كلمته احتفالية أكثر منها تصعيدية، حيث قال في نهاية خطابه إن أن كلمته هذه بمناسبة الاحتفال بشهداء المقاومة الإسلامية في لبنان وسيليها كلمات أخرى احتفالاً بانتصار المقاومة الفلسطينية عندما تنتهي الحرب[1].
على عكس توقعات إعلان التصعيد المنتظر، اهتم حسن نصرالله بوضع الحدث الراهن في سياقه الأكبر إقليمياً ودولياً وتفسيره من وجهة نظر محور المقاومة في المنطقة. إذ أشاد نصرالله في خطابه بصمود الشعب الفلسطيني والمقاومة الفلسطينية، كما ثمّن مشاركة المليشيات العراقية واليمنية المحسوبة على إيران في الحرب الراهنة سواء من خلال قصف جنوب إسرائيل من اليمن أو قصف قواعد أمريكية في العراق وسوريا. وهنا أكد نصرالله أن لا أحد في محور المقاومة كان على علم مسبق بموعد عملية طوفان الأقصى، وأنها كانت قراراً فلسطينياً خالصاً وأنه لا وصاية لطهران ولا لبيروت على حماس بل على العكس التحق حزب الله بجبهة غزة للمساندة والدعم.
ولكوّن جبهة لبنان هي فقط جبهة مساندة ودعم لغزة فإنها تتطور بحسب التطورات الميدانية في جبهة غزة، وأيضاً بحسب درجة استهداف إسرائيل لجنوب لبنان. وقد اعتبر نصرالله أن عملية طوفان الأقصى بمثابة الزلزال الكبير للنظام العسكري والأمني في إسرائيل وأنها غيرت شكل ووجهة الصراع للأبد وغيرت في معادلات القوة وفي مستقبل الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة.
ووصف نصرالله بالتفصيل أثر عمليات حزب الله في شمال إسرائيل منذ بداية حرب غزة، إذ اعتبرها غير مسبوقة في تاريخ الصراع مع إسرائيل بل إنها فاقت عملياته خلال حرب لبنان في صيف 2006، فاقتها في الكثافة والنوعية والأسلحة والتقنيات وحجم المشاركة، واستشهد هنا بأنها أوقعت عدداً كبيراً من عناصره بلغ 55 عنصراً. وقيمّ نصرالله الاشتباك التصاعدي الذي انتهجه حزب الله في شمال إسرائيل بأنه مغامرة ذات حسابات دقيقة وصحيحة، فهو في البداية استهدف المواقع العسكرية في مزارع شبعا وتلال كفر شوبا، ثم وسع الاستهداف على طول خط الحدود من البحر إلى تلال كفر شوبا شرقاً. كما ميّز بشكل دقيق استهدافه للمواقع العسكرية والتجهيزات الأمنية والاستخباراتية على الحدود بالإضافة إلى رفع الاستهداف إلى المواقع المدنية عندما استهدفت إسرائيل مدنيين في لبنان، وقد حذر نصرالله بأنه قد يعود لمعادلة المدني في مقابل المدني إذا ما أعادت إسرائيل الكرّة مرة أخرى.
اهتم نصرالله أيضاً بتأطير ما أسماه "الإنجازات" التي أحرزها حزب الله على جبهة جنوب لبنان، حيث اعتبر أن دخول حزب الله في الحرب منذ اليوم التالي لطوفان الأقصى قد أجبر الإسرائيليين على تغيير خططهم العسكرية فأخلوا 43 مستوطنة في الشمال بالكامل، وقاموا باستدعاء قوات الاحتياط وتخصيص ثلث القوات البرية الإسرائيلية لجبهة الشمال مع لبنان. بالإضافة إلى توجيه إسرائيل نصف قواتها البحرية وربع قواتها الجوية ونصف دفاعاتها الصاروخية الخاصة بالقبة الحديدية إلى الشمال لجبهة لبنان. وهكذا، اعتبر نصرالله أن مشاركة حزب الله في الحرب قد حققت الهدف المرجو منها وهو تخفيف الضغط على جبهة غزة، ولكنه شدد على أنه رغم أهمية هذا المستوى من الاشتباك فإنه "لا يمكن الاكتفاء به" وأنه قد يتصاعد وينزلق إلى حرب أوسع بحسب التطورات الميدانية في غزة.
من جهة ثانية، انتقد نصرالله الدول العربية وحجم تفاعلها مع الحرب الدائرة في غزة مطالباً بالمزيد من الإجراءات الملموسة مثل قطع العلاقات الدبلوماسية ووقف التبادل التجاري خاصة في مجال الطاقة بالإضافة إلى فتح معبر رفح لإدخال المساعدات وإخراج الجرحى للعلاج دون انتظار إذن أو تنسيق. وقد اعتبر نصرالله أن الدول العربية يجب أن تحرص على انتصار غزة في هذه الحرب لأنه لن يكون انتصاراً لإيران أو لمحورها في المنطقة بل هو انتصار لحماية المصالح القومية لكل من سوريا والأردن ومصر وأيضاً لبنان.
وقد فصلّ نصرالله في وصف الاتصالات والتهديدات التي تلقاها منذ بداية الحرب من الأوروبيين والأمريكيين كي يُحجم عن التوسع في المشاركة، فالأمريكيون هددوا وفق روايته بضرب إيران ولبنان بواسطة القطع البحرية الأمريكية الراسية في شرق المتوسط إذا ما توسعت الحرب. ولكنه استهزأ بهذه التهديدات لأن حزب الله شارك بالفعل منذ اليوم التالي، بل وفتح المجال للفصائل الفلسطينية للمشاركة من الجبهة اللبنانية ولم تتحقق أياً من هذه التهديدات على حد تعبيره. وهدد نصرالله الأمريكيين في المقابل بأنه قد أعد العدة لاستهداف أسطولهم في شرق المتوسط في حال توسعت الحرب، وذكّرهم بأن مقاتليه الذين هاجموا مقر المارينز في بيروت خلال الثمانينيات لازالوا على قيد الحياة بل التحق بهم أيضاً أبنائهم وأحفادهم. وهو بذلك يُشير إلى تفجير مقر قوات المارينز في بيروت الذي وقع في أكتوبر عام 1983 وصُنف بأنه الخسارة العسكرية غير النووية الأكبر في تاريخ القوات الأمريكية لأنه قتل 241 من الجنود الأمريكيين في ضربة واحدة وأسفر عن انسحاب القوات الأمريكية من بيروت بعده بفترة وجيزة.
قراءة في ردود الفعل
لا شك أن الترقب الكبير الذي أحاط بخطاب نصرالله يُبين على وجه الدقة أهمية مشاركة حزب الله في الحرب الدائرة في الوقت الراهن. فقبل أن يلقي حسن نصرالله كلمته تعددت التصريحات الأمريكية والإسرائيلية المحذرة من ذهاب حزب الله إلى الحرب بشكل أكثر اتساعاً. إذ حذر المتحدث باسم البيت الأبيض من مغبة فتح أي جبهات جديدة من جانب حزب الله أو أي طرف آخر، بينما قال المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي إن الرد على حزب الله سيكون بالأفعال وليس بالأقوال[2].
أما في الداخل اللبناني، فقد تحسب الكثيرون لإمكانية إعلان نصرالله خلال خطابه هجوماً موسعاً على إسرائيل كما كان الحال خلال حرب 2006 التي كان يعلن فيها خلال كلمته المباشرة استخدام نوع جديد من صواريخ أو تفجير بوارج حربية قبالة الشواطيء اللبنانية. ولذا نشأ نوع من الجدل بين المشجعين على توسيع الحرب لإغاثة غزة والتخفيف عنها وبين من يخشى على لبنان أن يواجه تدميراً موسعاً بسبب الرد الإسرائيلي المتوقع في هذه الحالة[3]. ومن ذلك تصريحات سمير جعجع زعيم القوات اللبنانية الذي اعتبر أن إدخال حزب الله لبنان في الحرب الموسعة سيكون جريمة كبيرة لأنها ستتسبب في تدمير لبنان بالكامل[4]. وهي التصريحات التي استبقت خطاب نصرالله وتطابقت بشكل كبير مع تصريحات لرئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي قبل أيام يقول فيها إنه "سيُعيد لبنان للعصر الحجري إذا ما توسع حزب الله في مهاجمة إسرائيل"[5].
من جانب آخر، بدا أن حلفاء حزب الله التقليديين يتخوفون أيضاً من امتداد الحرب إلى لبنان، وفي مقدمتهم رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الوزراء نجيب ميقاتي وهما من يتلقيان بالأساس الرسائل والاتصالات من الأطراف الدولية ويمررونها للحزب لضبط إيقاع الاشتباك الراهن في الجنوب في حده الأدنى دون أن يعودون بأي وعد بعدم التصعيد من جانب الحزب.
ركزت بعض ردود الفعل الأخرى على أن نصرالله تجاهل في المطلق ذكر الدولة اللبنانية ومؤسساتها وخاصة الجيش اللبناني، كما تجاهل الحديث عن الجبهة الداخلية اللبنانية ومدى استعدادها أو حتى آراء الحلفاء والخصوم، ولم ينوه ولو لمرة واحدة إلى ثلاثية الشعب والجيش والمقاومة التي تُذكر في كل بيان حكومي وتُخوله القيام بدور المقاومة في الجنوب[6]، وهو في ذلك كان وفياً بالكامل لدوره الإقليمي الذي يمثل فيه لبنان في محور المقاومة الحليف لإيران وأغفل أن للدولة اللبنانية مؤسسات رسمية تمثلها ولم يأت على ذكرها على الإطلاق. فيما رأى آخرون أن هذا التجاهل لم يأت من فراغ بل هو انعكاس لرؤية نصرالله الذي يختزل فيها لبنان في حزبه فقط ويصادر قرار الحرب والسلم من الدولة. بينما اعتبر نديم الجميل (النائب عن حزب الكتائب) أن خطاب نصرالله جاء مثبطاً وأقل من المتوقع ودون مستوى الحدث وأنه قد أخل بدوره الذي طالما روّج له، وقد بدت هذه التصريحات لافتة خاصة أن حزب الكتائب من أهم القوى الرافضة لسلاح حزب الله ودوره الإقليمي في إطار المحور الإيراني.
بينما اعتبرت بعض وسائل الإعلام الغربية أن خطاب نصرالله كان دقيقاً ومتوخياً الحذر كي لا ينزلق بلبنان في حرب موسعة[7]. في حين رأى آخرون أن حزب الله حريص على إبقاء جبهة الجنوب مشتعلة ولكنه لا يستهدف عمق الشمال الإسرائيلي من المدن الكبرى وإنما يناور فقط في المناطق المحاذية للحدود، ورغم ذلك فإن الأمر لا يدعو للاطمئنان الكامل[8]. فيما ترددت تصريحات من البيت الأبيض ووزير الخارجية الأمريكية بعد خطاب نصرالله أكدت أن خيار توسيع الحرب في الإقليم قد تم تجنبه بالفعل ولم يعد خطراً قائماً، وهو ما يعني أن القراءة الغربية للخطاب تشير إلى أن الترقب الكبير الذي كان قائماً قبل بث الخطاب لم يعد قائماً بعده، وأنه يمكن توقع بعض الاستقرار في مستوى الاشتباك في جبهة إسرائيل ولبنان التي لن تشهد مزيداً من التصعيد عن المستوى الذي تشهده بالفعل.
تطابقت هذه الانطباعات مع ردود الفعل التي ترددت في مواقع الإعلام الجديد ووسائل التواصل الاجتماعي في شقها العربي، والتي تتابع مجريات الحرب بكثير من التأييد لخط المقاومة في غزة، حيث استقبلت هذه الأوساط خطاب نصرالله بقدر من خيبة الأمل بل وحتى السخرية، خاصة مع ارتفاع منسوب التوقعات قبل الخطاب إلى حد اعتباره إشارة البدء لحرب موسعة. اعتبر بعض المغردين أن حزب الله قد تخلى عن غزة وتخلى عن دوره المقاوم وأنه قد تم تطويعه بعد الحرب السورية وأصبح غير قادر على تحدي إسرائيل كما كان الحال من قبل. ورغم أن ردود الفعل على وسائل التواصل الاجتماعي لم تكن تدخل سابقاً في دائرة اهتمامات ومتابعة حزب الله، ولكن كان لافتاً هذه المرة اهتمام بعض المحللين المقربين من الحزب بالرد عليها وتفنيدها والتنويه إلى حاجة حزب الله إلى استراتيجية إعلامية جديدة كي يكسب هؤلاء الناقمين عليه ويقربهم إلى صفه كي يكونوا عوناً له في معركته مع إسرائيل.
ثِقَل حزب الله في معادلة حرب غزة
تحدث نصرالله باسم محور المقاومة في المنطقة ككل وأشار عدة مرات للخميني ثم لخامنئي لتأكيد تبعية هذا المحور لطهران، ولكن الحقيقة التي باتت ثابتة بعد مقتل قاسم سليماني أن قيادة هذا المحور أصبحت في الضاحية الجنوبية أكثر منها في طهران. فوقع خطاب نصرالله وترقبه كان أقوى من التصريحات الرسمية المتعددة التي صدرت من إيران سواء من وزير خارجيتها أو حتى من خامنئي نفسه. وقد دلل على ذلك حجم الاهتمام الغربي والعربي بمتابعة خطاب نصرالله وتحليل رسائله والتعامل معه باعتباره مؤشراً على مجرى الأحداث في الحرب في الأيام المقبلة. ولعل الترقب والتشويق الذي أحاط بخطاب نصرالله كان جزءاً من عملية التفاوض التي تجري حالياً عبر وسطاء بين حماس وإسرائيل كي يتم التوصل لوقف إطلاق نار أو هدنة إنسانية على التوازي مع التفاوض حول الأسرى.
وفيما كانت إسرائيل تُصَعِد من استهدافها لغزة وأبنيتها السكنية ومستشفياتها ومدارسها كي تضغط على حماس بالكلفة الإنسانية العالية لاستمرار الحرب، كان حزب الله من جهته يلوح بورقة توسيع الحرب وتكبيد إسرائيل خسائر كبيرة في جبهتها الشمالية. ورغم ذلك لم تفلح هذه التهديدات المبطنة وبدا حزب الله ملتزماً أكثر مما ينبغي بالخط الذي رسمته إسرائيل للاشتباك فيما بينهما في جبهة جنوب لبنان وشمال إسرائيل.
كانت رسالة حسن نصرالله تتسم بالوضوح والغموض في نفس الوقت كما وصفها، فهو من جهة هدد بتوسيع الحرب ورهن ذلك بأمرين وكلاهما غير محدد المعنى، أولها حجم التطورات الميدانية في غزة، وثانيها حجم استهداف إسرائيل للبنان. فالنقطة الأولى تظل مبهمة إلى حد بعيد، فأي تطورات ميدانية ينتظرها الحزب تكون أخطر من مقتل ما يقارب عشرة آلاف مدني وتوغل بري إسرائيلي فصل شمال غزة عن جنوبها في اليوم الثلاثين للحرب. وفي محاولة تأويل مقصد حزب الله من التطورات الميدانية، يبدو أن الأمر يتعلق بالأساس بوصول حماس إلى العجز عن الاستمرار في وضعيتها الهجومية من حيث توجيه رشقات صاروخية إلى الداخل الإسرائيلي أو إخفاقها دفاعياً عبر التوقف عن تكبيد القوات الإسرائيلية المتوغلة خسائر فادحة من حيث عدد القتلى بين الجنود وعدد الآلات المستهدفة.
وبتحليل الوضع القائم، فإن التطورات الميدانية في غزة لم تبلغ بعد الوضع الذي يستدعي من حزب الله الهجوم الأوسع وفق الشرط الذي وضعه. أما من حيث استهداف إسرائيل للبنان، فإن التأويل الذي يعتمده حزب الله لقواعد الاشتباك المستقرة يعني تبادل التراشق الصاروخي بين الجانبين بمسافة لا تزيد عن سبعة إلى ثمانية كيلومترات في الجانبين. وتتضمن أيضاً هذه القواعد استهداف الأراضي غير المأهولة وتقتصر على البنية التحتية العسكرية للطرفين، باستهداف حزب الله لتجهيزات المراقبة والرصد الاستخباراتي أو التحصينات العسكرية الإسرائيلية، بينما تستهدف إسرائيل في المقابل مصادر النيران وبنك الأهداف الذي يملكه حزب الله في المسافة المشار إليها. غير أن خرق أي منهما لهذه القواعد يستدعي تصعيداً متناسباً من الطرف الآخر، ولذا عندما استهدف الجيش الإسرائيلي تجمعاً للصحفيين أوقع قتلى، رد حزب الله باستهداف مستوطنات الشمال وأوقع إصابات مباشرة بين قتيل وجريح. وتجدد هذا الخرق بعد ساعات قليلة من خطاب نصرالله، إذ استهدفت إسرائيل سيارة مدنية تقل أسرة لبنانية مكونة من ثلاثة أطفال وامرأة، قبل أن يرد حزب الله بإطلاق صواريخ جديدة يستخدمها لأول مرة مثل صاروخ بركان وصاروخ جراد الذي لم يستخدمه منذ حرب 2006، وأوقع به قتيلاً واحداً على الأقل قرب مستوطنة كريات شمونة الشمالية.
بصفة عامة، يبدو أن حزب الله لم ينغمس بالكامل في حربه التضامنية مع غزة وأن حدود الاشتباك الحالية لم تستنفره بأي شكل من الأشكال وأنه لا يزال قادراً على مواصلة إلهاء إسرائيل في جبهتها الشمالية لفترة أطول وبشكل تصاعدي أكثر حسماً. ولكن ظروف تطور الصراع في غزة لا تزال حاكمة بشكل كبير لردود فعله خاصة أنه يريد أن يُعير حماس وزنه الاستراتيجي كي تستخدمه في التفاوض للوصول إلى صفقة مُرضية تضمن وقف إطلاق النار وتبادل الرهائن بالأسرى في سجون إسرائيل. وهو في ذلك يساهم ليس فقط في إنقاذ حماس كذراع مهمة للمقاومة في المنطقة بل أيضاً يُرسي معادلة جديدة تثبت نجاح نموذجه الذي كرسه منذ عام 2006 في صوابية ابتداء هجوم على إسرائيل لإحراز صفقة لتبادل الأسرى.
وفي هذه الإطار، يظل الحشد العسكري الأمريكي في المنطقة هو الوجه الآخر لتصاعد استهداف حزب الله للشمال الإسرائيلي، وهو أمر في حد ذاته يرفع من أسهم حزب الله بشكل كبير ويجعله ليس فقط نداً لإسرائيل بل أيضاً للولايات المتحدة التي حشدت عسكرياً من أجل ردعه. ولذا يبدو مفهوماً لماذا لم يذكر نصرالله جبهة لبنان الداخلية مطلقاً في خطابه، فهي نقطة ضعفه الوحيدة في هذا المشهد؛ فحزب الله بالتأكيد أقوى عسكرياً اليوم عما كان عليه الوضع عام 2006 ولكن لبنان كدولة ومجتمع واقتصاد وبنية تحتية أقل قدرة على تحمل الدخول في حرب، بل هم في وضعية تبعية كاملة تجاه المساعدات الغربية، مما يُضعف موقف حزب الله في هذا الإطار ويصعب من فرص توسع الحرب وتغيير قواعد الاشتباك.
المصدر:
مقال الباحثة رابحة سيف علام
مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية