- ℃ 11 تركيا
- 22 ديسمبر 2024
روسيا في البحر الأحمر.. لماذا تعثّرت خطط الكرملين لإنشاء قاعدة عسكرية في بورتسودان؟
روسيا في البحر الأحمر.. لماذا تعثّرت خطط الكرملين لإنشاء قاعدة عسكرية في بورتسودان؟
- 12 نوفمبر 2022, 11:03:05 ص
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
في مناجم الذهب في "العبيدية"، الواقعة شمالي الخرطوم، يجري العمل على قدم وساق صيفا وشتاء لاستخراج خام الذهب من الصخور. هنا يطلق السكان اسم "الشركة الروسية" على شركة "مِروى جولد"، التي تدير عمليات بيع خام الذهب وتُسلمها إلى المنشآت الصناعية التابعة لها. اللافت للانتباه هو أن سجلات الشركات والحكومة السودانية تشير إلى أن الشركة مرتبطة بمجموعة "فاغنر" شبه العسكرية المقربة من الكرملين، أما الذهب نفسه فيُهرَّب معظمه خارج البلاد من أجل إخفاء أصوله وبيعه في الأسواق. ويتم تسهيل عملية تهريب الذهب بواسطة شبكة تديرها قوات الدعم السريع بقيادة الجنرال "محمد حمدان دقلو" (حميدتي) وعائلته، التي تهيمن على تجارة الذهب في البلاد منذ سنوات.
يعود حضور الروس في مراكز التعدين السودانية وفي السودان عموما إلى العام 2017، حين منح الرئيس السوداني السابق عمر البشير امتيازات تعدين للروس بعد اجتماع بمدينة "سوتشي" بجنوب غرب روسيا على ساحل البحر الأسود. وبعد أسابيع قليلة، وصل جيولوجيون روس من شركة "مروي غولد" إلى السودان، بالتوازي مع تمدُّد "فاغنر" في شرق البلاد ضمن مساعي بناء قاعدة بحرية روسية على البحر الأحمر. أما في غرب السودان فقد وجد الروس منصة انطلاق لعمليات المرتزقة خاصتهم في البلدان المجاورة غير المستقرة، مثل ليبيا وموزمبيق وجمهورية إفريقيا الوسطى ومالي.
إثر هذا الحضور، رسَّخت "فاغنر" تعاونها مع القوات العسكرية، لذلك لم يؤثر عزل البشير كثيرا على المشهد، بل امتد لتلعب دورا واضحا حينما قدَّمت مساعدات عسكرية للقادة العسكريين وساعدتهم في قمع الحراك الشعبي السوداني في أعقاب ثورة 2018-2019. وبعد نحو خمسة أشهر من وقوع الانقلاب العسكري على المكون المدني في السودان (أكتوبر/تشرين الأول 2021)، حُلت هيئة مكافحة الفساد، التي أنشئت لتفكيك شبكات أتباع نظام البشير في البلاد؛ ما جعل السودانيين متلهفين لمعرفة ما يجري في قضايا الفساد، ومن ثمَّ بدؤوا متابعة حسابات اليوتيوب المعنية بتلك القضايا، وأبرزها حساب باسم "البعشوم" الذي تناول بالأدلة قضايا متعلقة بالامتيازات التي منحها عسكر السودان للروس في بلادهم.
العلاقات الروسية-السودانية
تعود العلاقات بين السودان وروسيا إلى زمن الاتحاد السوفيتي، حيث عُدَّ السودان بلدا مواليا للسوفييت منذ تولى "جعفر النميري" السلطة عام 1969. وقد نظر السوفييت، الذين كانت لهم بصمة عسكرية واضحة بطول البحر الأحمر في إثيوبيا والصومال وجنوب اليمن، إلى أهمية السودان بسبب موقعه وساحله الطويل على البحر الأحمر. وقد مثَّلت صادرات الأسلحة الروسية نقطة ارتكاز للعلاقة بين البلدين، إذ إن الخرطوم أحد المشترين الرئيسيين للسلاح الروسي في إفريقيا، وهي زبون دائم للمعدات العسكرية الروسية التي يعود بعضها إلى حقبة الاتحاد السوفيتي، بل إن روسيا التي أيَّدت حظر الأمم المتحدة لعام 2005 على صادرات الأسلحة إلى السودان (أثناء أزمة دارفور)، سرعان ما أرسلت دبابات قتالية من طراز "تي-72" وقاذفات قنابل يدوية وأسلحة صغيرة إلى الخرطوم عام 2008.
في ضوء ذلك، يمكن القول إن الروس وجدوا في تحالفهم مع الرئيس السوداني السابق "عمر البشير" فرصة لاستعادة النفوذ في منطقة امتلك السوفييت فيها بصمة تاريخية واضحة. من جانبه، كان البشير يدرك هذه الحقيقة حين صرَّح آنذاك بأن "السودان سيصبح مفتاح روسيا لإفريقيا"، وذلك لتحفيز الروس على إنقاذه من العقوبات والأحكام الدولية التي طاردت نظامه. وبالفعل، أبرم الطرفان وقتها العديد من الاتفاقيات الأمنية والاقتصادية التي سمحت للشركات المرتبطة بـ"يفغيني بريغوزين" (أحد حلفاء بوتين، ومالك شركة "فاغنر") والخاضعة للعقوبات الأميركية بالدخول إلى قطاعات الاقتصاد السوداني التي سيطرت عليها كيانات تجارية مرتبطة بالجيش وقوات الدعم السريع، وكذلك سمحت تلك الاتفاقيات بوصول مجموعة "فاغنر" إلى السودان لحراسة أصول التعدين في البلدين. لكن التطور الأهم كان توقيع كل من موسكو والخرطوم في زيارة سوتشي الشهيرة في نوفمبر/تشرين الثاني 2017 اتفاقا لإنشاء قاعدة بحرية روسية على البحر الأحمر في بورتسودان.
فلاديمير بوتين يتحدث مع عمر البشير خلال اجتماعهما في منتجع سوتشي على البحر الأسود ، 23 نوفمبر 2017. (رويترز)
بعد الإطاحة بالبشير، واصل الروس تعاونهم مع السلطة الجديدة، وأبدوا استعدادهم لضخ الأسلحة الصغيرة وإيفاد المرتزقة في مقابل الوصول إلى الذهب والماس. وفيما يبدو، فقد تكيَّفت موسكو مع الواقع الجديد في السودان الذي أوجد في البداية حكومة انتقالية ذات قيادة مدنية عسكرية مشتركة، وإن تجاهلت شركات التعدين الروسية ومجموعة "فاغنر" إلى حد كبير الشِّق المدني من الحكومة. علاوة على ذلك، شاركت موسكو في حملات التضليل الإعلامية في السودان لصالح القادة العسكريين حين نفَّذوا محاولتهم الانقلابية العام الماضي، وزوَّدتهم بأطنان من معدات مكافحة الشغب. وقد دفعت مخاوف العسكريين من أن تعود البلاد إلى العزلة الدولية لتعزيز العلاقات مع الروس بديلا للدعم الغربي غير المضمون، حيث أصبحت المساعدات الدولية الحيوية على المحك بعد أن أدى الانقلاب على المدنيين إلى تعليق 700 مليون دولار من المساعدات المالية الأميركية، قبل العدول عن محاولة الانقلاب في الأخير قبل أشهر، وإعلان العسكريين التراجع إلى خلفية المشهد وإفساح المجال للمدنيين من جديد.
وقد كثَّفت الخرطوم جهودها لجذب الاستثمارات خاصة من دول الخليج ومن روسيا أثناء فترة العقوبات الأميركية. وفي هذا الصدد، أعربت الإمارات العربية المتحدة عن رغبتها بالاستثمار في دارفور، وعرضت قطر على الخرطوم إنشاء منطقة استثمارية، وبدأت المملكة العربية السعودية النظر في ملف الاستثمار في الزراعة. أما الروس فحازوا نصيب الأسد، إذ وقَّع البلدان مؤخرا عدة اتفاقيات في 10 قطاعات مختلفة، ناهيك بتزايد التجارة بين البلدين، إذ تجاوز حجم التجارة في المنتجات الزراعية بين روسيا والسودان 287 مليون دولار عام 2021، فيما تجاوز إجمالي التجارة في المنتجات الزراعية 137.7 مليون دولار في الفترة من يناير/كانون الثاني إلى يوليو/تموز 2022، وهي علاقات تجارية لا يُتوقَّع أن تنتهي بالضرورة تحت سيطرة المدنيين.
قاعدة روسية على أرض السودان
مع تنامي العلاقات بين موسكو والخرطوم طيلة العام الماضي، داعبت الكرملين خيالاتُ إنشاء موطئ قدم إستراتيجي روسي على طول البحر الأحمر لأول مرة منذ سقوط الاتحاد السوفيتي، من خلال القاعدة المقترحة في بورتسودان. وقد رسم بوتين بنفسه تفاصيل تلك القاعدة، وبناء على تعليماته أعلن أن البحرية الروسية ستضع 300 فرد فيها، وستوفر مساحة لإرساء ما يصل إلى أربع سفن حربية، بما في ذلك السفن التي تعمل بالطاقة النووية.
لكن أحلام روسيا لا تزال بعيدة عن التحقق، فبعد أن أسقطت التظاهرات الشعبية نظام البشير عام 2019، واجهت موسكو صعوبات في إقناع حلفائها العسكريين بإدخال مشروع القاعدة حيز التنفيذ. ورغم إبرام اتفاق بين البلدين في ديسمبر/كانون الأول 2020 مدته 25 عاما يقضي بإنشاء القاعدة الحُلم تحت مسمى "مركز للدعم اللوجيستي"، مع السماح لموسكو باستخدام مطارات السودان لنقل "الأسلحة والذخائر والمعدات" اللازمة، سرعان ما طُوي الحديث عن الأمر. وقد جادلت الكثير من وسائل الإعلام بأن الحكومة السودانية ألغت اتفاق التعاون العسكري مع روسيا، وقيل آنذاك إن السلطات السودانية طلبت من موسكو إخلاء جميع معداتها من بورتسودان بناء على إقرار البرهان بأنه "لا تزال هناك بعض الأخطاء التي يجب معالجتها"، دون تأكيد أو نفي رسمي بخصوص الواقعة من الطرفين.
مجددا، عاد الحديث عن القاعدة بعد الانقلاب العسكري الذي أطاح بـ"عبد الله حمدوك" في أكتوبر/تشرين الأول 2021 قبل التراجع عنه. فلم يقبل الجيش الذي تولى الحكم بعد إزالة الحكومة الانتقالية فكرة تجميد الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والبنك الدولي للمساعدات التي تعهَّدوا بتقديمها سابقا، أو الانصياع لمطالب المجتمع الدولي بتبني الإعلان الدستوري المُوقَّع مع القوى السياسية المدنية. ولذا اتجه العسكريون نحو الحليف الروسي، وعاد الاهتمام بمشروع المركز اللوجستي العسكري. وبعد عودة "حميدتي"، نائب رئيس المجلس السيادي السوداني، من زيارة إلى موسكو قُبيل الغزو الروسي لأوكرانيا بأسبوع واحد فقط، أعلن أنه "ليس لديه مشكلة" مع تدشين روسيا قاعدة على البحر الأحمر، شريطة ألا تشكل تهديدا للأمن القومي السوداني.
استمر الجدل حول إنشاء القاعدة لكن دون خطوات عملية واضحة، وكان آخره ما نقلته مجلة "فورين بوليسي" الأميركية في يوليو/تموز 2022 عن مسؤولي الاستخبارات الأميركية بأن "آمال روسيا في الحصول على قاعدة على البحر الأحمر انهارت في نهاية المطاف، وأنه يتعين على موسكو البحث عن خيارات أخرى في المنطقة لإنشاء معاقل بحرية". وعلى الأرجح أن قرار العسكريين في السودان التراجع إلى الوراء وإعادة الاتفاق مع المدنيين بعد تفاقم الاحتجاجات العام الماضي قد قلَّص من فرص تدشين القاعدة، إذ يُعرف "المدنيون في السودان" برغبتهم في الانفتاح على الاقتصادات الكبرى، على عكس قادة الجيش.
ومع ذلك، يبدو أن روسيا التي وقَّع رئيسها نسخة مُحدَّثة من العقيدة البحرية للاتحاد الروسي في يوليو/تموز 2022، لا تزال مهتمة بالحضور البحري في الجنوب رغم العراقيل المستمرة، وأنها تتخذ خطواتها بهدوء نحو وضع اللمسات الأخيرة على مجموعة من الشروط يمكن أن تؤدي إلى بناء منشأة بورتسودان في نهاية المطاف حال نجحت في إقناع الحكومة السودانية وقدَّمت لها ما يكفي من إغراءات، فقد عرضت موسكو على السودان شحنات أسلحة مجانية، وتزويدها بمعلومات عن حالة الأرصاد الجوية في البحر الأحمر، وبناء رصيف للسفن الحربية السودانية؛ لتحفيز قادة السودان على تفعيل فكرة القاعدة الروسية.
ورغم أن هذه العروض لا ترقى إلى مستوى المطالب السودانية، التي يقال إنها شملت أنظمة صواريخ مضادة للطائرات من طراز "إس-400" وطائرات "سوخوي" ومحطة للطاقة النووية، فإنها تظل قيد النظر حتى اللحظة، رغم أن الخرطوم صارت أقل اندفاعا وأكثر ميلا للتأني في علاقاتها مع موسكو، لا سيَّما أن الحكومة قد حصلت بدورها على الانفتاح الدبلوماسي الذي لطالما سعت له من الولايات المتحدة بعد تعيين واشنطن أول سفير لها في الخرطوم منذ 25 عاما في أغسطس/آب الماضي، وهو أمر يساهم في إبعادها عن روسيا، الواقعة تحت حصار اقتصادي خانق الآن بسبب العقوبات الغربية.
الخرطوم في قلب العاصفة
في 24 من أغسطس/آب الماضي، أعلنت واشنطن تعيين المسؤول السابق عن مكافحة الإرهاب في وزارة الخارجية الأميركية "جون غودفرَي" سفيرا لها في السودان. وقد أكد "غودفرَي" أنه "سيعمل على تعزيز العلاقات بين الشعبين الأميركي والسوداني، ودعم تطلعات الشعب (السوداني) إلى الحرية والسلام والعدالة والانتقال الديمقراطي"، كما جاء في بيان السفارة الأميركية.
أتى التعيين بعد نحو ربع قرن من القطيعة الدبلوماسية بين البلدين، وتحديدا منذ أن اتهمت واشنطن السودان عام 1996 بدعم الإرهاب وأدرجت البلاد في "قائمة الدول الراعية للإرهاب" لاستضافتها زعيم تنظيم القاعدة السابق "أسامة بن لادن" في ذلك الوقت. ويُعَد تسلُّم "غودفرَي" لهذا المنصب نقطة تحول رئيسية في سياسات إدارة الرئيس الأميركي "جو بايدن". فرغم إعلان "مايك بومبيو"، وزير الخارجية السابق لإدارة "ترامب"، تبادُل السفراء مع السودان في ديسمبر/كانون الأول 2019، وإعلان وزارة العدل السودانية بعد عام أن البلدين وقعا اتفاقا تاريخيا بشأن استعادة الحصانة السياسية للسودان بعد رفعه من قائمة الدول الراعية للإرهاب، ظلت خطوة تسمية السفير متأخرة إلى حد كبير.
كان هذا التأني أو التأخير الأميركي مبررا إلى حد كبير، فمن ناحية لا يعتبر السودان بلدا ذا أهمية إستراتيجية كبرى بالنسبة إلى واشنطن، كما لا توجد أهمية انتخابية أو اقتصادية للجالية السودانية في الولايات المتحدة، ولكن يمكن القول إن هناك دوافع حرَّكت الأميركيين نحو اتخاذ خطوات جدية في العلاقات مع الخرطوم، ويتعلق ذلك بوضوح بمواجهة التوغل الروسي المتفاقم في السودان، وهو بلد على صلة وثيقة بالاستقرار في ليبيا ومنطقة الصحراء الكبرى، كما أن موقعه مهم للاستقرار في الخليج، ويمكن أن يؤثر في ملف الصراع الجيوسياسي الهادئ الجاري في منطقة "الهندي-الهادي (Indo-Pacific)". وبينما تظل إدارة "بايدن" على اهتمامها بآسيا وبالقضية الأوكرانية، يبدو أنها تداركت أهمية مواجهة بوتين ومواقع تمدُّد الروس طيلة السنوات الأخيرة في خضم انشغال الأخير بحربه في أوكرانيا.
الجولة الناجحة التي قام بها وزير الخارجية الروسي "سيرغي لافروف" في أربع دول إفريقية (مصر والكونغو وإثيوبيا وأوغندا) في يوليو/تموز الماضي، ليُثبت أن العُزلة المفروضة على بلاده غربية ليس إلا. (رويترز)
من جهتها، ورغم انشغالها بأوكرانيا وتلقيها ضربات قاسية مؤخرا على أرض المعركة، علاوة على تضاؤل دورها الاقتصادي عالميا بسبب العقوبات المُشدَّدة، لا تزال موسكو حريصة على توسيع علاقاتها مع الدول الإفريقية، لا سيَّما الاستبدادية منها، التي تنجذب عادة إلى مدار الروس بوصفها دولة غير مهتمة بالضغط لأجل الديمقراطية أو حقوق الإنسان. ولا يبدو أن جهود روسيا خابت تماما في هذا الصدد، فقد نجحت "موسكو" في استمالة عدد من الدول إلى صفها أثناء التصويت على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في مارس/آذار الماضي بإدانة العدوان الروسي ومطالبتها بالانسحاب من أوكرانيا، وكانت نصف هذه الدول من القارة الإفريقية. وتُضاف إلى ذلك الجولة الناجحة التي قام بها وزير الخارجية الروسي "سيرغي لافروف" في أربع دول إفريقية (مصر والكونغو وإثيوبيا وأوغندا) في يوليو/تموز الماضي، ليُثبت أن العُزلة المفروضة على بلاده غربية ليس إلا.
لا تقف العلاقات الروسية-الإفريقية عند حدود الزيارات والدبلوماسية فحسب، فقد بذلت موسكو جهودا كبيرة طيلة العقد الماضي لتعزيز التعاون العسكري والاقتصادي والسياسي مع الدول الإفريقية الغارقة في صراعاتها أسوة بما حدث إبان الحقبة السوفيتية. فقد صار الكرملين أكبر مورد للأسلحة إلى إفريقيا، حيث يُزوِّد القارة بنصف الأسلحة التي تتدفق إليها تقريبا، كما أنه يوفد المرتزقة الروس والمستشارين السياسيين الذين يتوزعون الآن في أكثر من 10 دول إفريقية، علاوة على الاتفاقيات الأمنية وبرامج التدريب المشتركة للبلدان غير المستقرة والقادة المستبدين على السواء، ومحاولة ملء الفراغ الفرنسي في منطقة الصحراء الكبرى. وتتطلع موسكو حاليا، لا نحو بورتسودان فحسب، بل كذلك نحو ميناء "بربرة" على سواحل الصومال، وإلى بناء مركز لوجيستي بحري في إريتريا.
منذ اللحظات الأولى لرحيل البشير، التي حملت الكثير من الآمال للسودانيين بحياة ديمقراطية وانفتاح اقتصادي، تعثَّرت عملية التحوُّل الديمقراطي، وهو ما فتح باب العلاقات مع موسكو، وأعاد الحديث عن قاعدة بورتسودان. بيد أن التوجه نحو تقليص احتكار الجيش للسلطة مؤخرا، وموافقته على إعادة المدنيين إلى المشهد إثر تفاقم الاحتجاجات السودانية والضغوط الدولية (رغم عدم اتخاذ خطوات فعلية حتى الآن)، يعني أن ملف القاعدة سيُجمَّد على الأرجح، في حين ستتعزَّز علاقات السودان بالدول العربية والغربية على السواء من أجل الهدف الرئيسي للسلطة الآن، وهو إصلاح الأوضاع الاقتصادية والمعيشية لنحو 45 مليون سوداني.
ليس واضحا بعدُ إلى أين سيتجه السودان سياسيا، وكيف ستُقسَّم إدارة البلاد الفعلية مع الوقت خلف الأبواب المغلقة بين قادة الجيش والمدنيين، بيد أنه يمكن القول إن حرب أوكرانيا نفسها لعلها قلَّصت من الجاذبية الاقتصادية للاتجاه نحو موسكو، علاوة على أن العقوبات التي تطول كل من يتعامل مع روسيا ستُعقِّد المشهد بالنسبة إلى الخرطوم، التي ستميل على الأرجح إلى إصلاح علاقاتها بالعالم، وكذلك تدشين علاقات جيدة مع الدول التي تستطيع مساعدتها اقتصاديا مثل الصين ودول الخليج. أما واشنطن فإن رؤيتها لإفريقيا باتت وثيقة الارتباط أكثر من أي وقت مضى بتقليص النفوذ الروسي، حيث فرضت عقوبات على مجموعة "فاغنر" بسبب أنشطتها في السودان، ثم في جمهورية إفريقيا الوسطى. ومن المحتمل أن ينضم الاتحاد الأوروبي إليها في فرض عقوباته الخاصة على المجموعة في السودان، كما فعل مؤخرا في مالي.
لا شك أن الدول الغربية في الأخير مهتمة بأولوياتها الجيوسياسية وليس بدعم التحوُّل الديمقراطي الكامل في السودان كما أثبتت وقائع الربيع العربي، بيد أن التحالف المتزايد بين الروس والاستبداديين حول العالم يعني أن أهداف روسيا -رغما عنها- باتت مرهونة باستمرار قمع عدد متزايد من الشعوب حول العالم، وأن طموحاتها بالحضور هنا وهناك ترتبط بتقوية شوكة أنظمة تفتقد إلى دعم شعوبها، وقد تصبح في مهب الريح إذا ما انتفضت تلك الشعوب من أجل حريتها، كما جرى في السودان العام الماضي. أما الدول الغربية المنشغلة الآن بمعارك كبرى مثل احتواء الصين ودعم أوكرانيا، فيبدو أنها تمسك العصا من المنتصف، حيث تراهن على دعم الحركات والحكومات المدنية التي ستتمخَّض عنها أي حركات احتجاجية، ولكن دون أن تخاطر بتقويض علاقاتها مع الأنظمة الاستبدادية، وهو تحوُّل جديد بدأ من الربيع العربي وتداعياته، وتسبب في تغيير ملامح علاقة الغرب بالعديد من الدول النامية، إذ تسبَّب بنفسه أثناء الحرب الباردة وما بعدها في عرقلة تحوُّلها الديمقراطي خوفا على حلفائه من الاستبداديين الذين ساندوه ضد السوفييت يوما ما.