- ℃ 11 تركيا
- 21 نوفمبر 2024
ساري عرابي يكتب: كيف تآكل الردع؟ وهل أنقذت المقاومة نتنياهو؟
ساري عرابي يكتب: كيف تآكل الردع؟ وهل أنقذت المقاومة نتنياهو؟
- 11 أبريل 2023, 2:25:53 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
لم يعد الحديث عن تآكل الردع الإسرائيلي دعاية فلسطينية مقاومة، قد توصف ممن يناهضها من العرب بأنّها تبجح زائف، ولا هو مادة للمزايدة الإسرائيلية الداخلية في ظرف من الاستقطاب الإسرائيلي غير المسبوق فحسب، بل صار موضوع إجماع إسرائيلي، وإن كان من موقع المزايدة كما هو من موقع القلق والتوجس الحقيقي، فبقدر ما اتهم ليبرمان نتنياهو بإضعاف الردع الإسرائيلي، أقرّ نتنياهو بضعف الردع، مرجعاً ذلك إلى سياسات سلفه نفتالي بينيت، الذي قال بدوره، رداً على نتنياهو، إنه ورث من نتنياهو دولة محترقة، في حين أنّ يائير لابيد، زعيم حزب "هناك مستقبل"، قال بعد لقائه نتنياهو إنه صار أكثر قلقاً مما كان عليه قبل لقائه إياه!
الوسط السياسي الإسرائيلي، كلّه، بحكومته ومعارضته، يجمع على تآكل الردع الإسرائيلي، وهو ما تجلّى في استطلاعات الرأي، التي يرى فيها 69 في المئة من الجمهور الإسرائيلي بنيامين نتنياهو سيئاً، وبقية أركان حكومته أخذوا التقييم نفسه تقريباً، بينما منحت استطلاعات الرأي حزب "المعسكر الوطني" الذي يقوده بيني غانتس 29 مقعداً، وحزب لابيد 21 مقعداً، ليكون الليكود بزعامة نتنياهو أقلهما بـ20 مقعداً. وهكذا فإنّ المقاومة الفلسطينية، لم تنقذ نتنياهو من أزمته الداخلية، ولم توحّد الوسط الإسرائيلي في مواجهة صواريخها، كما أنّ هذه الصواريخ هي التي تنْحت اليوم فيما يسميه الإسرائيليون "الردع"!
بقدر ما أنّ المقاومة لم تكن راغبة بالدخول في حرب طويلة، كان الكيان كذلك. وبغض النظر عن المستوى الذي يحظى به العامل الإقليمي والدولي في أمر من هذا النوع، وبغض النظر عن كون الانقسام الداخلي الإسرائيلي قد لا يسمح بالذهاب نحو مغامرة عسكرية لا يعرف لها آخر، فإنّ التجربة الإسرائيلية في المواجهات الكبيرة مع المقاومة في قطاع غزّة، تجعل الذهاب نحو مواجهة واسعة من هذا النوع بلا معنى، طالما أنّها بلا أهداف قابلة للتحقيق
ما الذي فعلته المقاومة الفلسطينية، لتربك الحالة الإسرائيلية على هذا النحو، وتدفع الوسط السياسي الإسرائيلي نحو المزيد من التأزّم؟! لم تفعل ما فعلته في المواجهات الكبيرة السابقة، كمعركة "سيف القدس" في العام 2021، كما لم تدفع عشرات الفدائيين إلى قلب الكيان الإسرائيلي، كما فعلت في "انتفاضة الأقصى"، فمن الناحية الشكلية الصرفة، ألقت فقط ثمانين صاروخاً محدود التأثير، مناصفة من قطاع غزّة ومن جنوبي لبنان. كان الأمر أشبه بالمناورة الحذرة، وبالغة الذكاء في الوقت نفسه، المناورة التي تلطم الإسرائيلي ثمّ تكبّل يده عن الردّ!
بقدر ما أنّ المقاومة لم تكن راغبة بالدخول في حرب طويلة، كان الكيان كذلك. وبغض النظر عن المستوى الذي يحظى به العامل الإقليمي والدولي في أمر من هذا النوع، وبغض النظر عن كون الانقسام الداخلي الإسرائيلي قد لا يسمح بالذهاب نحو مغامرة عسكرية لا يعرف لها آخر، فإنّ التجربة الإسرائيلية في المواجهات الكبيرة مع المقاومة في قطاع غزّة، تجعل الذهاب نحو مواجهة واسعة من هذا النوع بلا معنى، طالما أنّها بلا أهداف قابلة للتحقيق. فالنيران الإسرائيلية مهما عظمت وطالت، سوف تنتهي إلى صفر إنجاز عسكري، ما دامت غير قادرة على حسم حالة المقاومة في غزة، والسعي إلى حسمها يعني الاندفاع إلى غابة من السلاح في كثافة سكانية فريدة دون أيّ رؤية لليوم التالي. ومن هنا، كان الإنجاز الحقيقي في مجرد وجود بنية للمقاومة في مكان ما في فلسطين، هذه البنية قادرة على المراكمة في التسليح والتخطيط ومعاندة الظروف المستحيلة المحيطة بها.
الفكرة إذن، في مجرد وجود قوّة عسكريّة مناهضة لـ"إسرائيل" لا تستطيع هذه الأخيرة اقتلاعها، لأنّ ثمن محاولة الاقتلاع أكبر من أن تحتمله، فضلاً عن كون هذا الاقتلاع يتاخم المستحيل، ولو أمكن فإنّ ما يتلوه من عواقب أشبه بالثقب الأسود الذي جرّبت "إسرائيل" مستويات محدودة منه، وفرّت منها، كما في لبنان 2000، وغزة 2005.
يمكن القول إنّ القصة بدأت من هنا، أي من إرادة التأسيس لبنية مقاومة تستطيع تعقّل الحدث، قراءة ومناورة واشتباكاً وامتلاكاً لزمام المبادرة أو رد الفعل، فكان واضحاً منذ العام 2021 أنّ هذه البنية، تحديداً تلك التي تقودها حركة حماس، لا تندفع بالاستفزاز الإسرائيلي ولا بالضغط الجماهيري ولا بالمزايدة الفلسطينية الداخلية. يمكن التذكير، والحالة هذه، بأنّ هذه البنية عملية مستمرة من "انتفاضة الأقصى"، أي أن الفضل في وجودها يعود إلى الفعل المقاوم نفسه وإرادة الاستمرار ورفض التسليم لتفوق العدوّ.
القصة بدأت من هنا، أي من إرادة التأسيس لبنية مقاومة تستطيع تعقّل الحدث، قراءة ومناورة واشتباكاً وامتلاكاً لزمام المبادرة أو رد الفعل، فكان واضحاً منذ العام 2021 أنّ هذه البنية، تحديداً تلك التي تقودها حركة حماس، لا تندفع بالاستفزاز الإسرائيلي ولا بالضغط الجماهيري ولا بالمزايدة الفلسطينية الداخلية
لكن هذه المقاومة تدرك كذلك، تعقيدات الظرف القائم، والهندسة التي فرضها الاحتلال على ملعب المواجهة، فالمواجهات المحدودة انطلاقاً من القطاع لم تعد مضمونة المسار بدورها، واحتمالات تحوّلها إلى مواجهة أضخم؛ أكبر من أيّ وقت مضى، في حين أن المقاومة تحتاج فرصة أطول لتعزيز قدراتها بعد مواجهة كبرى قريبة خاضتها، كما يحتاج المجتمع الذي تنبثق عنه فرصة لا تقلّ عن تلك طولاً لالتقاط الأنفاس، فكان لا بدّ من مدافعة العدوّ على هندسة الملعب نفسه.
يزعم العدوّ أنّ حركة حماس، باتت تسعى لتثبيت نقاط ارتكاز لها خارج الأرض المحتلّة، وحمّلها مسؤولية إطلاق الصواريخ من جنوب لبنان؛ بعد اقتحام شرطة الاحتلال للمسجد الأقصى بهدف تأمين اقتحام المستوطنين له. اتهام الاحتلال للجهد العسكري لحماس خارج فلسطين قديم، وتفيد تسريباته الدعائية عن حرب استخباراتية، تجري في الظلّ بينه وبين حماس، لا تقتصر على لبنان، بل تجوب العالم، وفي أثنائها ارتقى عدد من الفلسطينيين، في ظروف اغتيال غامضة، تشير المعلومات إلى قربهم من الحركة. إذا كان لإطلاق الصواريخ من لبنان، علاقة بحرب الظلال هذه، فإنّ ذلك يعني أنّ الحركة خطت خطوة واضحة في توسيع الملعب، بما يرفع شيئاً من العبء عن مقاومتها في غزة. سيكون هذا الملعب أوسع، ولا يتحكم بتقسيماته الاحتلال منفرداً؛ إذا كان إطلاق الصواريخ كذلك على الجولان من سوريا، وما قيل عن إحباط محاولة لإطلاق الصواريح من سيناء، وعملية مجدو الناجمة عن تسلل من لبنان إلى فلسطين المحتلة، متصلاً بذلك الجهد الذي يتهم به الاحتلال حركة حماس.
ماذا فعلت حركة حماس؟ يتهمها الاحتلال بإطلاق صواريخ ومقذوفات محدودة الفعالية من غزة ولبنان، في حين أنّ الحركة أبقت علاقتها بذلك طيّ الغموض. إن صح اتهام الاحتلال، فإنّ الحركة أرادت القول إنّ الاستفراد بالمعتكفين في المسجد الأقصى غير ممكن، وأن الاندفاع الإسرائيلي اللحوح لتثبيت وقائعه في المسجد لن يمرّ كما يتوهم الاحتلال، بالرغم من كلّ تعقيدات "ملعب المواجهة"، وهي وبينما تقرأ أنّ العدوّ في ظرفه الراهن غير راغب في الذهاب نحو مواجهة، فإنّها أوصلت رسالتها له، مضمنة استعدادها للتصعيد لو ذهب بعيداً في الردّ، وقدرتها على إرباكه لو أراد الاستفراد بغزة، وجعلت ضربتها محدودة لتحفظ إمكانية الحدّ من ردّ العدوّ، وهكذا كان القصف من لبنان مدروساً للغاية مكاناً وزماناً وحجماً.
لا يمكن عزل ذلك كلّه عن مشهدية المقاومة في الضفّة الغربية، والتي لم تزل تزداد عناداً، إزاء الجهد الأمني والعسكري الهائل للاحتلال فيها، في سياق ما أسماه "كاسر الأمواج"، بيد أنّ موجات هذه الحالة صارت أسرع حضوراً وأكثر كثافة، من أي وقت ماض
لا يمكن عزل ذلك كلّه عن مشهدية المقاومة في الضفّة الغربية، والتي لم تزل تزداد عناداً، إزاء الجهد الأمني والعسكري الهائل للاحتلال فيها، في سياق ما أسماه "كاسر الأمواج"، بيد أنّ موجات هذه الحالة صارت أسرع حضوراً وأكثر كثافة، من أي وقت ماض، فقد بدأت عمليات إطلاق النار من الضفة الغربية تواكب مباشرة في ساعته اقتحام شرطة الاحتلال للمسجد الأقصى.
ما تضيفه حالة المقاومة في الضفة الغربية، الكثير من الناحية السياسية والاجتماعية، لكنها من حيث الفعل المباشر، الأسرع إلى كبح الاندفاعة الإسرائيلية في سعيها لتثبيت الوقائع التهويدية في المسجد الأقصى، وفي استعادة قدر من التوازن النسبي إزاء انتفاشة المستوطنين، حينئذ لملاحظة الإنجاز، ينبغي الأخذ بعين الاعتبار أنّ هذه المقاومة محاصرة بكلّ ما يمكن تصوّره من معيقات هائلة، ولم تزل تنزف الشهداء والأسرى، وتتسم بالعفوية والارتجالية، إلا أنّها، وبالرغم من ذلك، صارت واحدة من أهمّ عناصر الفعل في الملعب الذي توهّم الإسرائيلي الاستفراد في تدبيره.
لا يتوقف الحديث هنا. فإطلاق الصواريخ من لبنان يثقل حسابات الإسرائيلي الذي يدرك تماماً فداحة المجازفة لو تورّط في مواجهة مفتوحة مع "حزب الله"، وهو ما يحيل إلى السؤال إن كانت حركة حماس تستثمر في علاقتها المتجددة بحلفائها في الإقليم.
هل يعني تآكل الردع أنّ الإسرائيلي سيمتنع تماماً عن أي فعل عسكري تجاه غزة؟!
الإجابة بالتأكيد لا. فترميم ما يسمّيه الردع، واستعادة الكبرياء الجريح، ورفع الروح المعنوية للجمهور الإسرائيلي وتجديد ثقته بمؤسسته العسكرية والأمنية، وحرمان المقاومة في غزة مما تراكمه من قدرات، والعودة إلى سياسات "جز العشب" والضربة بين المعارك، فضلاً عن الأسباب السياسية للأحزاب الحاكمة، سيبقى حاضراً، ولكن بحسابات أثقل، فالصراع مع هذا النوع من الاحتلال، أكثر تعقيداً من أن تحسم بعض عناصره الجوهرية في هبّة، أو ضربة محدودة للمقاومة، لكنّ النفس الطويل في هذا الصراع هو المهم، وهو ما امتلكته المقاومة في غزّة منذ انتفاضة الأقصى إلى اليوم. فمهما كانت صورة الحدث قريباً، والفعل الإسرائيلي المحتمل، فإنّ الظاهر أنّ مقاومة الفلسطينيين باتت تزيد من ثقل حسابات الإسرائيلي على نحو غير مسبوق.