- ℃ 11 تركيا
- 22 ديسمبر 2024
حسابات “مينسك”: ما أبعاد الدور البيلاروسي في الحرب الأوكرانية؟
حسابات “مينسك”: ما أبعاد الدور البيلاروسي في الحرب الأوكرانية؟
- 11 أبريل 2023, 2:20:38 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
دعا رئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو الحليف المقرب من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في أواخر مارس 2023، إلى هدنة في أوكرانيا، وإجراء مفاوضات دون شروط مسبقة بين كييف وموسكو؛ وذلك بهدف تجنب أي تصعيد آخر محتمل في الحرب الأوكرانية؛ إذ يطالب “لوكاشينكو” بضرورة وقف الأعمال الحربية، خاصة أنه يرى إمكانية تسوية كل المسائل الجغرافية ومسائل إعادة الإعمار والأمن وغيرها حول طاولة المفاوضات دون شروط مسبقة، متخوفاً في ذلك من احتمالات جر بلاده إلى ساحة المعركة بصورة موسعة؛ إذ إننا لم نشهد أي تحركات عسكرية موسعة بيلاروسية تدل على دخول محتمل في الحرب مع أوكرانيا حتى الآن؛ وذلك بخلاف التقارير الغربية التي تشير إلى انخراط بعض المقاتلين من بيلاروسيا في العمليات العسكرية داخل أوكرانيا، بيد أن المقترح البيلاروسي قد قوبل بالرفض من قبل روسيا وأوكرانيا؛ حيث استبعد الكرملين وقف هجومه على أوكرانيا، وفي المقابل استبعد مستشار الرئيس الأوكراني أي وقف لإطلاق النار في الحرب يتضمن بقاء القوات الروسية في الأراضي التي تحتلها الآن في أوكرانيا.
تدخل حذر
يأتي تدخل بيلاروسيا في الحرب الأوكرانية من خلال صور متعددة، ولكن تظل جميعها في مراحل حذرة من التدخل العميق فيها، ويمكن تناول أبرز هذه التدخلات كالتالي:
1- المشاركة في تدريبات عسكرية مع موسكو: بنهاية يناير الماضي، بدأت موسكو ومينسك أولى تدريباتهما الجوية العسكرية المشتركة لهذا العام في بيلاروسيا، وهي التدريبات التي اشتملت على جميع المطارات ومناطق تدريب القوات الجوية وأنظمة الدفاع الجوي. ولم تحدد وزارتا الدفاع في البلدين عدد الطائرات المشاركة، وضمن أي مفهوم أجريت هذه التدريبات. ومن جانبها، حرصت الخارجية الروسية – في محاولة منها على ما يبدو لمنع تأويل أهداف المناورات خارج السياق المعلن رسمياً – على تأكيد أن المناورات محاولة لردع التصعيد؛ وذلك رداً على أحد المسؤولين الأمريكيين الذي أوضح أن بلاده تراقب باستمرار التدريبات العسكرية الروسية البيلاروسية، وسط اعتقاد غربي بوجود إمكانية لمشاركة بيلاروسيا في الحرب، فور بدء هذه المناورات.
2- التلويح بإمكانية الانخراط في الحرب: بالرغم من أننا لم نشهد أي تحركات من بيلاروسيا تدل على دخول محتمل في الحرب مع أوكرانيا، أوضح مجلس الأمن البيلاروسي أن التدريبات المشتركة للقوات الجوية مع روسيا ذات طبيعة دفاعية بحتة، وستركز على مهام الاستطلاع وكيفية إحباط هجوم محتمل، مشدداً على أن مينسك مستعدة لأي أعمال استفزازية من جانب أوكرانيا. وتجدر الإشارة إلى أن قوام جيش بيلاروسيا يصل إلى نحو 48 ألف جندي وقرابة 12 ألف جندي في حرس الحدود، فضلاً عن وجود ما يصل إلى 1.5 مليون فرد جاهزين للقتال خارج القوات المسلحة، وفقاً لما أعلنه مسؤول رفيع المستوى هناك. كما سبق أن أمر لوكاشينكو بتشكيل قوة دفاع برية جديدة تضم متطوعين، ويصل قوامها إلى 150 ألفاً، وأكد أن جيش بلاده لن يحارب إلا إذا هوجمت بيلاروسيا، منوهاً في ذلك أن كييف تحاول جر بلاده إلى الصراع في أوكرانيا بأمر من واشنطن، مشيراً إلى أن ذلك لن ينجح.
3- التريث في الدخول على خط المواجهة: يعتقد مدير “مجلس مينسك للحوار” يفجيني بريجيرمان، أن احتمال مشاركة القوات البيلاروسية في الحرب الأوكرانية غير وارد إلا إذا وجهت ضربة داخل بيلاروسيا يمكن اعتبارها مقصودة، وليس كما حدث في ديسمبر الماضي، عندما أعلنت مينسك أن صاروخاً أوكرانياً سقط في منطقة بريست، ولكنه لم يكن سبباً كافياً للتصعيد، كما في حالة سقوط صاروخ في بولندا في نوفمبر الماضي، خاصة أن قيادة وشعب بيلاروسيا لا يريدون المشاركة في الحرب الأوكرانية؛ لأنه إذا انضم الجيش البيلاروسي إلى القوات الروسية، فمن شبه المؤكد أن العمليات القتالية ستنتقل إلى الأراضي البيلاروسية.
4- توفير مساعدات لوجستية للقوات الروسية: سبق أن أجرى الجيش الروسي تدريبات مشتركة مع بيلاروسيا في الأسابيع التي سبقت بداية الحرب الأوكرانية؛ ما سمح ذلك لروسيا بنقل المعدات والقوات إلى الأراضي البيلاروسية بالقرب من الحدود الأوكرانية، وهي القوات التي قُدرت حينها بنحو 30 ألف جندي روسي في بيلاروسيا في ذلك الوقت؛ ما يجعلها أكبر حشد عسكري هناك منذ الحرب الباردة، وفقاً لما أوضحه الأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرج، وقد بقيت تلك القوات بعد انتهاء التدريبات؛ وذلك بهدف المشاركة في العملية العسكرية الروسية في شرق أوكرانيا. وفي مارس 2023، أعلن بوتين عن عزم بلاده نشر أسلحة نووية تكتيكية في بيلاروسيا؛ وذلك في أول عملية نشر للأسلحة النووية خارج حدودها منذ انهيار الاتحاد السوفييتي في 1991. ووفق وسائل الإعلام الروسية الرسمية، فإن الرئيس الروسي قال إن تلك الخطوة لن تنتهك اتفاقيات الحد من انتشار الأسلحة النووية، وقارنها بنشر الولايات المتحدة أسلحتها في أوروبا، موضحاً أن زعيم بيلاروسيا كان قد أثار منذ زمن طويل وضع أسلحة نووية تكتيكية في بيلاروسيا.
5- الترويج لخطاب التآمر الغربي: اتساقاً مع الخطاب الذي تتبناه موسكو، روجت مينسك لسردية التآمر الغربي عليها؛ حيث أعلن رئيس بيلاروسيا لوكاشينكو أن روسيا، التي قررت بالفعل نشر أسلحة نووية تكتيكية في بيلاروسيا، يمكنها إذا لزم الأمر وضع صواريخ نووية عابرة للقارات هناك. وفي خطاب سنوي أمام المشرعين والمسؤولين الحكوميين، قال لوكاشينكو إن خطط موسكو لنشر أسلحة نووية على أراضي حليفتها الوثيقة ستساعد في حماية بيلاروسيا المهددة من الغرب؛ حيث إن الهدف من هذه الخطوة ليس محاولة ترهيب أو ابتزاز أي طرف في الصراع، وإنما هو محاولة لحماية الدولة البيلاروسية وضمان السلام للشعب البيلاروسي. وعلى الرغم من إعلان بوتين أن الصواريخ التكتيكية ستظل تحت سيطرة موسكو، اقترح لوكاشينكو أنه يمكن استخدامها – بالاتفاق مع روسيا – إذا تعرضت بيلاروسيا لأي هجوم.
محفزات جوهرية
يأتي تدخل بيلاروسيا في الأزمة الروسية الأوكرانية مدفوعاً بجملة من الأهداف المتعددة تحقق – بلا أدنى شك – مجموعة من مصالحها الاستراتيجية، ولعل أبرزها ما يلي:
1- الشراكة الاستراتيجية مع موسكو: مع دخول الحرب في أوكرانيا مرحلة معقدة، وفي ضوء الشراكة الاستراتيجية القوية بين البلدين، تعمل كل من روسيا وبيلاروسيا على تكثيف التعاون العسكري بينهما في ظل الحاجة إلى اختبار مدى استعدادهما القتالي؛ حيث وصل التعاون الأمني بين موسكو ومينسك إلى مستوى غير مسبوق، نتيجة زيادة استفزازات كييف على الحدود الأوكرانية البيلاروسية، ولعل هذا ما تؤكده الزيارة الأخيرة للقائد العام للقوات البرية الروسية إلى بيلاروسيا، وكذلك القمة التي عقدت بين الرئيسين الروسي والبيلاروسي في موسكو شهر أبريل الجاري التي أكد خلالها الطرفان زيادة التعاون في مجال الدفاع والأمني.
وبعد أن أتقن لوكاشينكو فن الجلوس على الحياد، والمغازلة بسياسة خارجية متعددة الاتجاهات والتهديد بالاقتراب أكثر من الغرب، فقد تغير كل ذلك في عام 2020، عندما أدت الاضطرابات المتعلقة بالاحتجاجات ضد نتيجة الانتخابات الرئاسية إلى المزيد من التعقيد في الحوار مع الغرب. رداً على ذلك، توصل لوكاشينكو إلى الحصول على المساعدة من روسيا؛ فعلى الرغم من العزلة الجديدة لبيلاروسيا، لم تقطع روسيا مساعدتها لجارتها بالكامل؛ ففي الفترة ما بين أغسطس 2020 وفبراير 2022، تعهدت موسكو بتقديم قروض بقيمة 1.5 مليار دولار إلى مينسك، ووافقت على أسعار الغاز المنخفضة، ومدفوعات الديون المؤجلة؛ ما يوفر شريان حياة آخر لمينسك التي تواجه ضغوطاً غربية علاوة على التحديات الاقتصادية التي تعايشها.
2- الاستفادة من القوة العسكرية الروسية: إن موسكو، من جهة، لا تحتاج – حتى الآن – إلى تدخل عسكري بيلاروسي مباشر معها في عمليتها العسكرية في أوكرانيا، ومن جهة ثانية، تتفهم تبعات هذا القرار على الداخل في بيلاروسيا غير الجاهز حالياً لتقبل فكرة المشاركة في الحرب وإعلان التعبئة. ويعيد إلى الأذهان تصريح الرئيس لوكاشينكو الذي أكد صراحةً أن مشاركة بلاده في الحرب تتوقف على التهديدات التي يمكن أن يتعرض لها أمنها القومي. لكن على الجانب الآخر، تهدف مينسك إلى استغلال الحرب في الاستفادة من القوة العسكرية الروسية؛ حيث أوضح الرئيس “بوتين” أن روسيا على وشك الانتهاء من بناء منشأة لتخزين الأسلحة النووية التكتيكية في بيلاروسيا بحلول يوليو المقبل. إلى جانب ذلك، تهدف بيلاروسيا إلى استخدام الصواريخ التي نشرتها روسيا على أراضيها لتوفير حماية لها، بعد ما وصفته بأنه حملة ضغط من الولايات المتحدة وحلفائها تهدف إلى الإطاحة بلوكاشينكو الموجود في السلطة منذ 28 عاماً؛ إذ كشف الأخير عن وجود مجموعات مسلحة يتم تدريبها في بولندا ودول البلطيق ومهمتها هي تدبير انقلاب في بيلاروسيا؛ لذلك فهو يعتمد أيضاً على موسكو للحصول على المال وإمدادات الطاقة والمساعدة الأمنية.
3- احتواء التهديد البولندي: من ضمن الأهداف الرئيسية من تحركات بيلاروسيا في الحرب سيكون احتواء التهديد البولندي، خاصة أن الجزء الغربي من أوكرانيا كان في الماضي تابعاً لبولندا، وهذا يعني أنه إذا اكتسبت بولندا موطئ قدم لها في تلك الأراضي فإن مينسك لن تكون في مأمن، يأتي ذلك في ضوء إعلان بولندا عن التعبئة العسكرية لزيادة عدد قواتها إلى 260 ألف جندي، في وقت حرج تمر به الحرب في أوكرانيا.
4- التخفيف من حدة العقوبات الغربية: تهدف مينسك إلى تجنب التدخل عسكرياً مباشرة في الحرب حتى لا يتفاقم حجم العقوبات الغربية المفروضة عليها، خاصة بعد إعلان الاتحاد الأوروبي عن تمديد عقوباته على بيلاروسيا حتى نهاية فبراير 2024، بسبب الانتقادات الغربية للأوضاع الحقوقية داخل بيلاروسيا ودعم رئيس بلاروسيا الحرب الروسية على أوكرانيا. وقد اشتملت حزمة العقوبات على منع الرئيس ألكسندر لوكاشينكو و194 شخصية أخرى قريبة من النظام من الإقامة في الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن تجميد أصولهم، كما تخضع بيلاروسيا لعقوبات اقتصادية محددة الهدف، تشمل قيوداً على القطاع المصرفي والتجارة والسلع ذات الاستخدام المزدوج والاتصالات والطاقة والنقل. ولذلك كانت تكلفة العقوبات على بيلاروسيا أكثر صرامة؛ حيث أثرت على نحو 70% من صادراتها إلى الاتحاد الأوروبي، أو ما يقرب من 17% من إجمالي صادراتها، خاصة أن روسيا لم تكن سخية بما يكفي لتعويض بيلاروسيا عن فقدانها الأسواق والمساعدات الغربية، بيد أن الحكومة البيلاروسية لا تزال مضطرة للجوء إلى تكثيف العلاقات الاقتصادية مع روسيا من أجل مواجهة أزمتها الاقتصادية.
خلاصة القول: مهما كانت العواقب طويلة المدى، فمن الواضح أن بيلاروسيا تتطلع إلى روسيا لمعالجة مشاكلها المتزايدة، وفي حين أن التعاون الأكبر مع موسكو قد يساعد مينسك في التخفيف من صعوباتها الاقتصادية الحالية، إلا أنه سيعمق أيضاً من اعتماد الأخيرة على اقتصاد كبير لكنه راكد في الوقت الحالي نتيجة الحرب الدائرة في أوكرانيا؛ ما سيجعلها عرضة أكبر لمزيد من المخاطر الاقتصادية، خاصة أن مينسك ليس لديها فرصة تذكر في الحفاظ على سياسة خارجية متعددة الأطراف، باستثناء ما يتعلق بالصين؛ ولذلك من المتوقع أن تظل بيلاروسيا حذرة من حيث التدخل مباشرة في الحرب؛ حتى لا تتفاقم أزمتها الاقتصادية، ولكنها لن تتردد في خوضها إذا د هددت أوكرانيا أمنها القومي، مستفيدة في ذلك من المساعدات العسكرية الروسية المقدمة إليها.