- ℃ 11 تركيا
- 21 نوفمبر 2024
سراج دغمان يكتب: قراءة في المتغيرات الدولية ومدى انعكاسها على ليبيا
سراج دغمان يكتب: قراءة في المتغيرات الدولية ومدى انعكاسها على ليبيا
- 29 أبريل 2023, 2:46:28 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
يبدو أن خريطة التحالفات والاصطفافات الدولية والإقليمية في حالة تغير مستمر ولم تنضج بعد، في عالم أصبح ينصت لعوامل وأسباب القوى وليس لمسار المنطق والعقل والمصالح الحميدة، إننا اليوم على حافة عالم قارب على الأفول والانتقال للعالم الجديد، والجمهوريات الواسعة التي تغيب عنها الحدود بأنواعها.
لا شك في أن الحضارة الأنكلوسكسونية ما زالت مسيطرة إلى حدٍ كبير على خيوط اللعبة، بقدراتها العلمية والتكنولوجية والاقتصادية والمعلوماتية، وبقدرتها على صناعة الحدث وتغيير مساراتهِ بأشكال مختلفة وفي أوقات متعددة، ولكن البُعد المادي لهذه الحضارة قد استهلك إلى حدٍ كبير البُعد القِيَمي للإنسان، لحساب النظام الرأسمالي الكبير، الذي يذوبُ فيه الأفراد لصالح دوام الوفرة الإنتاجية والكسب، كما تذوبُ فيهِ القيمة المجتمعية لنظام الأسرة الأبوي (النظام البطريركي) لصالح مجتمعات أنتجها اقتصاد السوق والحداثة المُفرطة، الذي يقومُ على الفرد.
ولكن في النهاية حافظت هذه الحضارة على قيم متميزة، تتمثل في النظام السياسي الديمقراطي، ومنح قيمة راسخة ومقدسة للحريات، وفي التعددية الفكرية والعرقية داخل مكوناتها، كما طورت مفهوم الليبرالية الجديدة التي انبعثت في حقبة رئسة الوزراء البريطانية مارغريت ثاتشر والرئيس الأمريكي رونالد ريغان، بحيث تكون مفاهيم الليبرالية الجديدة هي المرجع الأساسي لهوية هذه الشعوب الحديثة، حيثُ استطاعت الأيديولوجية الليبرالية، كسب رهانها في خلق مجتمعات وأنظمة حكم متطورة ومتعايشة ومتعددة، على الرغم من اختلاف الأعراق والمعتقدات الدينية.
هناك صراع محتدم في العمق الافريقي، إذ بدأت قوى دولية مختلفة ومتعددة في الدخول لمرحلة الحرب الباردة الجديدة للسيطرة على المقدرات النفيسة في افريقيا
وإذا ما حللنا طبيعة الصراع العالمي اليوم الذي تقودهُ مجموعات دولية مختلفة تنقسم في بنائها الرأسي لقطبين، قطب تقودهُ الصين، وقطب آخر تقودهُ الولايات المتحدة، سنجد أن الصراع يتعدى حدود المصالح الاقتصادية ليدخل في عمق النظرية السياسية الحاكمة والنظرية الاجتماعية التي ترسم الهوية الإنسانية، فهذا صراع يوصف بالحِدي إلى حدٍ كبير، وصراع وجود لا يقتصر على نفوذ الاقتصاد والموارد النفيسة والجغرافية، بل يذهب بعيدا إلى نفوذ النوع الإنساني الحاكم والمحكوم، فيبدو أن الأفكار والأيديولوجيات السياسية التي انهزمت في الحرب العالمية الثانية وجدت في آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية، أي العالم الثالث ملاذا لتصنع نموذجا حديثا مختلطا؛ يتشارك فيه نظام السوق مع النظام الاجتماعي القديم ما قبل النظام الليبرالي، ولكن من عيوب هذه النظرية أنها ترسم مسافات شاسعة بين طبقة صُنع القرار والشعب، كما أنها تُثير النزاعات القومية والعِرقية والدينية، وهذا يعني انتهاء مفهوم المواطنة الحديث، والرجوع لتكتلات الإنسانية حسب نوع العرق والطائفة الدينية. وهذا الأمر ينعكسُ على النظام الاقتصادي المنتج وعلى البحث والابتكار العلمي، كما ستزول الشعوب ذات المحدودية في النوع أو الدين، والمُفرغة من أسباب القوى في حالة هيمنة هذا النموذج الأُحادي.
إننا في الوطن الليبي الكبير، منغمسون في الصراع الداخلي والكره الداخلي وحالة العداء المفرط بين أبناء شعبنا وأمتنا، الذين لا خلاص لهم ولا نجاة لهم سوى الاتحاد على مبادئ الوطن العادلة والرشيدة، قبل مبادئ المصالح الصغيرة ضيقة الأفق، فنحنُ في موقعٍ جغرافي خطر، رغم تميزهِ، فالقارئ لتاريخ ليبيا بعمق سيخرج بأن الديمغرافيا السكانية لهذه الجغرافيا قد تغيرت على مرّ الزمن، حسب المتغيرات الجيوسياسية المحيطة بنا بحرا وبرا، التي تفرض عواملها القوى المنتصرة والمتحكمة في مناخنا الجيوبوليتيكي. اليوم هناك صراع محتدم في العمق الافريقي، حيثُ بدأت قوى دولية مختلفة ومتعددة في الدخول لمرحلة الحرب الباردة الجديدة للسيطرة على المقدرات النفيسة في افريقيا، ومحاولة إعادة صياغة الوجود الاستراتيجي لصالح قوى دولية نافذة جديدة متنازعة مع قوى النفوذ التاريخي، فنجد محاولات مختلفة من الجانب الروسي والصيني للوجود في شرق افريقيا، فيما تحاول فرنسا البقاء في الجانب الغربي من القارة، بينما تسعى الولايات المتحدة إلى إحكام سيطرتها المطلقة على مناطق نفوذها التاريخي في شمال إفريقيا وجنوبها، كما يأتي الدور الألماني والتركي كلاعب ثانوي في اصطفافات النفوذ داخل هذه القارة.
ولا شك في أن الصراع على القارة السمراء ليس بعيدا عن الصراع المحتدم في الشرق الأوسط، وفي أوكرانيا، ولهُ صِلة مباشرة بما يحدث من تحشيدات غير مسبوقة في بحر اليابان، وبحري الصين الشرقي والجنوبي، إذ ربما تبدأ حرب ترسيم الحدود المائية التي تتزعمها الصين، بتكوين وصناعة العديد من الجزر الاصطناعية في سعيها لتغيير تضاريس الهيمنة المائية لصالحها، ولعب دور أكبر في عالم البحار، وربما ستكون تايوان أوكرانيا جديدة، وإن حدث هذا الأمر سيكون انعكاسهُ بشكل مباشر على الصراع في افريقيا وتحول الصراع من صيغتهِ الباردة إلى الملتهبة. كما تواجه الوطن الليبي تحديات أخرى ليست باليسيرة في صراع كبير آخر على الغاز المتوسطي والسيادة المائية في أعالي بحار المتوسط، بين الدول ذات التفوق العسكري والمعرفي وكانت بوادرهُ واضحة منذُ ما قبل عام 2011. بهذهِ المعطيات نخلص إلى نتيجة واحدة: علينا نحنُ الليبييون أن نفيق من غيبوبتنا ومن صراعاتنا، لكي نحافظ على وجودنا ومستقبلنا، أن نتحد في مشروع الأمة الليبية ومشروع الوطن الليبي والدولة الوطنية الحديثة، متحدين متناسين الماضي لكي نستطيع أن نعبر عواصف الوقت الراهن إلى الغد المشرق، وأن تكون الرؤيا المحلية موحدة في خيار الاصطفاف الدولي، وفق رؤية وطنية واحدة يلتقي في طيّاتها التاريخ بالمستقبل، لبقاء وطننا جغرافية وشعبا.