- ℃ 11 تركيا
- 22 ديسمبر 2024
سعيد الشهابي يكتب: «الروح المرهفة» تجد خلاصها في الدين
سعيد الشهابي يكتب: «الروح المرهفة» تجد خلاصها في الدين
- 31 يوليو 2023, 5:17:55 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
ثلاث صور في الأسبوع الماضي أضفت قدرا من الغموض على المشهد الأوروبي وما ينطوي عليه من تشوش سياسي وثقافي. وربما مرت هذه المشاهد دون جذب انتباه الكثيرين، فلكل منها خصوصيته وأجواؤه، وليس من السهل جمعها في خيط واحد.
فمن جهة حظيت وفاة المغنية الأيرلندية الشهيرة، شينيد أوكونور باهتمام كبير أدهش الكثيرين ممن لم يعرفها. ولهذا الحادث انعكاساته وتبعاته وأجواؤه المرتبطة بعالم الغناء بشكل خاص وكذلك بتطور القناعات الفردية إزاء الانتماء الروحي والديني. أما المشهد الثاني فتمثل بتكرار حرق نسخ من المصحف الشريف في السويد والدنمارك، وحالة اللامبالاة في الأوساط الرسمية، وربما التواطؤ من قبل الجهات المعنية بإقامة حكم القانون. أما المشهد الثالث فيتمثل بالحديث عن الكنيسة ومدى حضورها في الحياة العامة، ومدى انحسار الانتماء الديني أو توسعه، وهو حديث جديد – قديم يتصل بالتوجه الديني عموما ولا يختص بالجانب الكنسي. قد تبدو هذه المشاهد غير متصلة ببعضها، لكنها يمكن أن تشكل نمطا من التوجه الثقافي والفكري والروحي لدى قطاعات واسعة من المجتمعات الأوروبية. هذا بالإضافة لتداخل الوضع الإسلامي ثقافيا وسياسيا بتطورات الساحة الأوروبية في مجالات شتى.
استُقبل رحيل المغنية الأيرلندية بموجة متميّزة من الحزن عمّت عالم الغناء والموسيقى، فنعاها كبار المطربين ومن بينهم أليسون مويت وجاه ووبل وسواهما. تميزت هذه المرأة التي رحلت عن الدنيا في عمر مبكر (54 عاما) بصفات عديدة. أولها صوتها الذي وصفته مويت بأنه «يحطم الصخر» ولذلك اشتهرت أغانيها خصوصا تلك التي أطلقتها في العام 1990 وجاء فيها «لا شيء يُقارن بك». لكن ما جعلها ذات صيت كبير امتلاكها وجهات نظر تطورت مع تقدمها في العمر. فبدأت بالتمرد على المؤسسة الدينية الكاثوليكية خصوصا بعد أن وُضعت في إحدى دور الرعاية المسيحية المخصصة للفتيات المتمردات. وفي العام 1992 أثيرت ضجة حولها عندما مزقت صورة للبابا جون بول الثاني على شاشة تلفزيون قناة أمريكية، كان ذلك احتجاجا ضد التحرش بالأطفال في الكنيسة الكاثوليكية. وفي العام الماضي توفي ابنها، شين في عمر السابعة عشرة. لكن اللغط الأكبر الذي دار حولها نجم عن أمرين: أولهما مواقفها السياسية، فقد تعاطفت مع قضية فلسطين بشكل واضح. وعندما شن الاحتلال الإسرائيلي في العام 2014 عدوانه على غزة ألغت حفلا موسيقيا بمنطقة تقع بين تل أبيب وحيفا قائلة: «ليس هناك شخص يملك ذرة من العقل، وأنا بينهم، إلا ويتعاطف مع الفلسطينيين. وليس هناك عاقل في الأرض يمكن أن يقر ما تفعله السلطات الاسرائيلية». ثانيهما أنها في العام 2018 أعلنت اعتناقها الإسلام في خطوة أدهشت المقرّبين منها وكذلك المولعين بغنائها. وقد وصف المغني المعروف، يوسف إسلام (كات ستيفنز) المغنية الأيرلندية بأنها «الروح المرهفة». ولا شك أن تحولها الفكري بعد تلك الحياة الموغلة في اللهو والعبث كان صدمة للكثيرين خصوصا من زملائها ومشجعيها. فكيف يمكن لفتاة متمرّدة وعابثة وبعيدة كل البعد عن الالتزام الديني والأخلاقي أن تجد نفسها فجأة راغبة في التحرر من كل ذلك والسعي لغلق ملف الماضي وفتح صفحة جديدة تبحث عن النقاء الروحي والبحث عن الذات والتحول نحو الالتزام بما في ذلك ارتداء الحجاب والحج إلى مكة المكرّمة.
ما تمارسه مجموعات التطرف باستهداف المسلمين أو مقدساتهم بهذه الأساليب يهدد المكتسبات السياسية والأمنية والثقافية التي تحققت على مدى ربع القرن الماضي
هذه الحقائق تقود للمشهد الثاني الذي يناقض المشهد الأول، وهو استمرار حرق نسخ المصحف الشريف في السويد والدنمارك. هذا المشهد يخلق اضطرابا ذهنيا لدى من يراقب التحولات الفكرية لدى قطاعات واسعة من المجتمع الأوروبي. فبموازاة استهداف الإسلام بالدعاية المضادة المستمرة والتنميط المتعدد الأشكال، تتجه الطبقات المثقفة والمهنية لاعتناق الإسلام. فما سبب ذلك؟ وكيف يمكن للأوروبي الذي يتحسس من الدين ويتفاخر بالتخلي عن الانتماء الديني أن يعتبر ذلك تطورا وتجسيدا لمفهوم الحرية؟ ولماذا ينجم عن ظواهر استهداف الإسلام ممثلا بشخص نبيه الكريم تارة وكتابه الحكيم ثانية وأخلاقه ثالثا، توسع دوائر الانتماء إليه؟ وثمة ملاحظة في هذا الجانب، مفادها أن الذين يستهدفون الإسلام ليسوا عادة من المفكرين أو العلماء أو النخب المثقفة بل كثيرا ما يكونون من الطبقات الجاهلة أو اليمينية المتطرفة. فاليميني المتطرف الألماني آرث واغنر كان عضوا بحزب «ألمانيا البديلة» المعادية للإسلام واللاجئين ولديها مقاعد في البرلمان الألماني، لكن في العام 2018 قام واغنر بأمرين، أعلن إسلامه واستقال من ذلك الحزب. وربما الأغرب من ذلك أن يعتنق السيد أرنوا فان دورن، عضو حزب الحرية الهولندي الذي يرأسه المتطرف جيرت ويلدرز المعادي للإسلام في العام 2012 هذا الدين بعد عام واحد من استقالته من ذلك الحزب، ويتوجه للحج بعد ذلك. وفي العام 2014 اعتنق ماكسنس باتي، عضو الجبهة الوطنية وهي حزب فرنسي من أقصى اليمين، الإسلام، الأمر الذي أدى لتجميد عضويته في الحزب. وهناك أمثلة عديدة لاعتناق الإسلام من قبل من كانوا محسوبين على اليمين المتطرف. صحيح أن هؤلاء يمثلون قلة من بين المتحوّلين للإسلام في العالم، إلا أنه مؤشر لتصاعد ظاهرة التحول هذه في ظروف يفترض أن تكتظ بالاجواء المعادية للإسلام.
إن حرق نسخ القرآن الكريم في السويد لا بد أن يؤدي لنتائج مضادة. فإهانة مقدسات الإسلام تدفع ذوي العقول للتفكير في هذا الكتاب الذي يحظى باهتمام العالم ويحترمه مليارات البشر. وعندما أقدم متطرفون دنماركيون على ذلك العمل المشين، اتضح تواطؤ الشرطة في القضية. فما أن سعت صحافية لمنع الحرق بانتزاع نسخة المصحف من المتطرفين، حتى هرع الشرطة لها وأعادوا النسخة للمتطرفين لحرقه. وقد كشفت هذه الحادثة الدور السلبي لبعض الجهات المعنية بضمان حكم القانون، الذين يفترض أن يمنعوا حدوث التوترات الاجتماعية أو الدينية. ويهدف الذين يقومون بحرق المصاحف لتهوين قيمة الكتاب المقدس من جهة في نفوس أتباعه والآخرين، ومن جهة أخرى تشجيع الآخرين على استهداف الإسلام بما هو متاح من الوسائل. وهناك اشمئزاز وتقزز من انتشار التصرفات التي تؤثر سلبا على قيم «التعدد الثقافي» و «التعايش السلمي» و «التحمل» و الاحترام المتبادل». فالمجتمعات الغربية بشكل خاص سعت لضمان أمن مجتمعاتها ببث تلك الثقافات، واعترفت بخصوصيات المجموعات المختلفة. ومن المؤكد أن ما تمارسه مجموعات التطرف باستهداف المسلمين أو مقدساتهم بهذه الأساليب يهدد المكتسبات السياسية والأمنية والثقافية التي تحققت على مدى ربع القرن الماضي، ومن غير اللباقة لحكومات هذه الدول الرضوخ لضغوط التطرف اليميني لفرض أجندته. وقد شعر الكثيرون بالارتياح بعد أن فشل اليمين في أسبانيا في تحقيق فوز كاف لتشكيل حكومة يمينية، وما تزال القوى السياسية تبحث عن تشكيل حكومة ائتلافية. ولو صعد اليمين الإسباني لربما وفر دفعة نفسية وسياسية للأحزاب المحسوبة على اليمين المتطرف في بقية الدول الأوروبية، وعندها ستكون بداية التوتر الداخلي في أوروبا الساعية لتقديم نموذج للتعايش السلمي بين مختلف المكونات.
أوروبا تجد نفسها، من جهة ثالثة، في أزمة مع إرثها المسيحي الذي يزداد تداعيا. وفي ظل غياب النماذج العملية للحالة الدينية تتراجع الظاهرة بشكل مضطرد. بينما يجد الذين يعانون من الضياع الروحي والنفسي نماذج مشجعة للتدين الإسلامي. وهذا يؤكد دور الفرد النموذج في تحبيب الآخرين لما يمثله. فإذا كان الفرد يحظى بشهرة شعبية سواء في المجال الرياضي أو التمثيل السينمائي فان أثره يتوسع ويصبح أداة جذب للآخرين. وفي عالم يتجه للمادة بشكل أكبر ولعالم المشاهير الذي يمثل الفرد فيه محل احتذاء للآخرين، لا يمكن التقليل من دور الفرد في توسيع دائرة الاهتمام بما يمثله من هوية وانتماء. أليست قصة «شينيد أوكونور» تستعصي على التفسير المنطقي وتحرج علماء النفس والاجتماع؟