سعيد الشهابي يكتب: العراق بين ماض مؤلم وحاضر سقيم ومستقبل غامض

profile
  • clock 10 أبريل 2023, 3:03:29 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

ليس هناك خلاف كبير حول ما آل إليه العراق بعد سقوط النظام السابق قبل عشرين عاما، وأنه لم يستطع حتى الآن إقامة دولة حديثة قادرة على تلبية احتياجات مواطنيها السياسية والمادية.
هذا ما رشح من نقاشات مستفيضة في ليال رمضانية خاصة شاركت فيها ثلة من السياسيين والمثقفين المهتمين بشأن هذا البلد العربي الكبير، بعضهم ممن ارتقى مناصب وزارية عليا في «الدولة» العراقية الحالية، بل ربما أعلاها. كان الحديث يدور حول موضوع جوهري: ما هو مستقبل العراق؟
هذا المستقبل الغامض يُفترض أن يكون مؤسسا على تجربة العقدين الأخيرين، وأن يكون هناك توافق عام حول ضرورة التغيير، الأمر الذي ليس متوفرا في الوقت الحاضر. وقبل الحديث عن الإصلاح والتغيير كان من الضرورة بمكان تحديد الإشكالات التي تعتور المسار السياسي والإداري والتي تعتبر مؤشرات لفشل التجربة. من مظاهر ذلك قضايا لا يمكن استيعابها بسهولة. وعلى رأسها ظاهرة الفساد التي استشرت في أوصال المجتمع العراقي. فحتى منتقدو تلك الظاهرة ينطلق الكثير منهم ليس من موقف الرفض المطلق للظاهرة بل من حصريتها بمعنى أن المعترض يقول: أين حصتي.
قال تعالى: «فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون». وقال أحد المسؤولين الكبار السابقين: الفساد أصبح ثقافة شاملة، تتحرك في مفاصل الدولة وتتم ممارستها في المجتمع. ونظرا لسعة دائرة الفساد بدا الجميع عاجزا عن التطرق لأساليب التصدي له. يعتبر الفساد أهم مظاهر فشل الدولة العراقية الحالية وظاهرة تستعصي على محاولات الاقتلاع او الاحتواء. وآخر تجليات الفساد ما يسمى «سرقة القرن» التي كشف عنها الستار قبل شهور، وملخصها أن بضعة أفراد بوزارة المالية استخدموا نفوذهم لسرقة أموال مودعة من الشركات الأجنبية التي تنفذ مشاريع في العراق. فوزارة المالية تشترط على الشركات إيداع مبالغ في حساب خاص كضمان لعملها، تسترجعها بعد انتهاء عملها، وهي بالمليارات. وحاولت مجموعة من المتنفذين بالوزارة وضع اليد على هذه الأموال، الأمر الذي انكشف بعد اختلافهم على الحصص. واعتبرت واحدة من أبشع أساليب السرقة والنهب. كما حدثت محاولة أخرى بتحميل البنك المركزي العراقي (بنك الرافدين) خسائر مجموعة من رجال الأعمال الذين أودعوا أموالا بالدولار في المصارف اللبنانية. وحين حدثت أزمة الدولار في لبنان حاولوا إقناع إدارة البنوك اللبنانية بتحميل الخسائر لبنك الرافدين وليس للأشخاص أنفسهم. ولكن المحاولة باءت بالفشل.
اما الظاهرة الثانية فهي «الإرهاب» التي كادت تسقط التجربة العراقية كاملة. المسؤولون أوضحوا أن هذه الظاهرة ليست اعتباطية بل أن بعض أسبابها يتصل بأنماط تعامل أجهزة الدولة خصوصا الأجهزة الأمنية. هذه الأجهزة تعاطت بأساليب شجعت البعض على الانحياز للمجموعات الإرهابية، ومن هذه الأساليب المساس بمعتقدات الطرف الآخر المختلف مذهبيا ومقدساته.
هناك أرضية للعنف والإرهاب ساهم الاحتلال في تثبيتها، ولكن تصرفات المؤسسات الرسمية ساهمت في توسيعها، وذلك بتشجيع العناصر المأزومة على اللحاق بها. فعندما استوعب بعض المسؤولين الكبار خطر أساليب الاستفزاز والمعاملة غير المتوازنة تجاه الآخر المختلف مذهبيا، أصدر أوامره لتلك الأجهزة لتغيير أنماط تعاملها والتخلي عن العصبية المذهبية أو الدينية أو السياسية والتصدي لأداء المهمة بتجرد ووعي وتوازن، فكانت النتيجة انحياز الكثيرين لجهة الحكومة ونبذ الإرهاب. وثمة اعتقاد بأن الالتزام بالمعايير الأخلاقية والإنسانية والإسلامية كفيل بكسب الآخر بدلا من تشجيعه على الانحراف نحو المجموعات المسلحة.

قبل الحديث عن الإصلاح والتغيير كان من الضرورة بمكان تحديد الإشكالات التي تعتور المسار السياسي والإداري والتي تعتبر مؤشرات لفشل التجربة. من مظاهر ذلك قضايا وعلى رأسها ظاهرة الفساد التي استشرت في أوصال المجتمع العراقي

ويمثل الاقتصاد تحديا آخر لبلاد الرافدين. فلديها من المخزون النفطي كميات هائلة تضعها في المرتبة الثانية بعد المملكة العربية السعودية. ومن أسباب ضعف الاقتصاد برغم وفرة الموارد استخدام المال من أجل الكسب السياسي، وهذه ظاهرة خطيرة تعوّق نشوء منظومة سياسية فاعلة تلم شمل البلاد وتضعها على الخريطة الإقليمية والدولية. فهذا السياسي مثلا يسعى لكسب أصوات الناخبين بالإنفاق غير المدروس، وهنا تتم التضحية بإمكانات الدولة من أجل كسب سياسي شخصي. وهذه ظاهرة منتشرة في ظل غياب الحرص على إقامة الدولة كهمٍّ لدى النخب المثقفة.
ومن نتائج هذا التوجه غياب التخطيط لتحقيق نهضة اقتصادية وصناعية في بلد يستطيع أن يكون مكتفيا ذاتيا في جوانب عديدة من التكنولوجيا. فلديه من العقول العلمية الشيء الكثير، كما لديه الطاقة التشغيلية للمصانع، وربما المعادن المهمة كالحديد والنحاس والقصدير وسواها. يضاف الى ذلك أن العراق قادر على أن يكون في طليعة المصدّرين للمواد الغذائية خصوصا التمر والفواكه. ففي السبعينيات مثلا كانت الأسواق البريطانية تخلو من أي نوع من التمر سوى التمر العراقي الذي كان يباع على هيئة مكعبات مضغوطة. بينما تقدمت عليها لاحقا السعودية والإمارات وتونس والجزائر والمغرب في تصدير التمور.
وفيما يبحث البعض عن إمكانات التغيير، يرى البعض الآخر أن هناك انسدادا كاملا يمنع ذلك، وأن كل الأساليب تصل الى طريق مسدود. البعض يدعو للعمل ضمن النظام القائم من أجل إحداث تغيير من داخله، بينما يرى الآخرون أن المنظومة السياسية القائمة أصبحت مستعصية على التغيير والتطوير. ورأى البعض أن العملية السياسية التي تنطوي على الانتخابات ليست هي المشكلة، بل «مافيات» تمثل السلطة الحقيقية في البلاد.
فبموازاة المحاصصة السياسية هناك «محاصصة مالية» يتم بموجبها اقتسام للثروة بصور غير مشروعة، وهذه «المافيات» تحول دون التغيير بعد أن أصبحت مصالحها مرتبطة بشكل وثيق بالوضع الراهن. وتحدث البعض عن إمكان حدوث انقلاب عسكري يطيح بهذا الوضع، ولكن ثمة قناعة بعدم وجود فرصة لنجاح انقلاب عسكري خصوصا مع وجود الحشد الشعبي. كلا الاتجاهين مشروع، ويمكن لكل منهما أن يدعم الآخر. ومن خلال التجربة سيبقى العالم الخارجي موجودا دائما. ولكن هل يستطيع العراقيون الاستفادة من هذا التواجد. فالعمل التغييري له أرضية، وكذلك العمل التراكمي. والسؤال هنا: كيف يمكن التوفيق بينهما؟ هذا هو التحدي الذي يواجه المهتمين بشأن العراق، وكيف سيتعاملون مع دول الجوار التي تسعى للتاثير على العراق أو استغلال إمكاناته. هذا يقتضي طرح أجندة وطنية تتجاوز الفوارق الفئوية المحدودة. هذه الأجندة يجب أن تتضمن طريقة خطة واضحة لإخراج القوات الأمريكية من البلاد بعد أن أصبح هذا الوجود كابوسا على البلاد والعباد.
أما الفساد فيرى رئيس وزراء سابق شارك في النقاش أن تقليص حجم الماكنة الحكومية كفيل بتقليص الفرص أمام الفاسدين، فيتم تقليص المشاريع التي ينفذون من خلالها، وتصبح هناك شفافية أكبر في إبرام الصفقات وإدارة المشاريع. ويقدر البعض أن نصف عائدات البلاد النفطية ينفق على موظفي الخدمة المدنية الذين يزداد عددهم بشكل مضطرد. ويأخذ بعض المتحاورين على «الدولة» عدم اهتمامها بتنويع مصادر الدخل، واعتمادها المطلق على عائدات النفط، ويتكهن بحدوث كوارث اقتصادية فيما لو انهارت أسعار النفط لسبب او آخر. ويشير الى ارتفاع مستويات المعيشة لدى قطاعات واسعة من المجتمع العراقي، فالمطاعم الغالية مكتظة بالزبائن والطائرات مليئة بالركاب والمنتزهات لا تعدم مرتاديها. وبموازاة ذلك هناك طبقات معدمة لا تزال تعيش حياة بدائية وتفتقر لأدنى مقومات الحياة.
العراق بين أمجاد ماضيه ومرارة واقعه وغموض مستقبله أصبح همّا يشغل بال الفئة الصغيرة التي وطّدت نفسها على المعاناة وعملت من أجل التغيير منذ نصف قرن، على أمل الوصول إلى عراق قادر على الارتقاء الى ما يقتضيه حجمه وثقافته وتاريخه وحضاراته.
هؤلاء الذين يتدبرون مستقبل بلدهم يشعرون بالتعب والإرهاق ولا يتشبثون بأحلام وردية بعد أن اشتعل فيهم الشيب واحدودبت ظهورهم وضعف نظرهم. هؤلاء لا يستطعيون حتى الآن الاتفاق على منطلق للتغيير. بينما فضّل البعض الآخر البقاء خارج اللعبة السياسية حتى بعد التغيير الذي أفنى شبابه من أجله. وهنا تبرز صورة أخرى تميز كلا منهما. فالذين خاضوا التجربة يتحدثون بلغة الحكم والسلطة متكئين على مقولات «الواقعية» و «البراجماتية» ويصر بعضهم على ضرورة التحلي بما يسميه «المنهجية» في الطروحات، وبالتالي تستمر سجالاته مؤطرة بإملاءات التجربة. أما التيار الآخر فيطرح رؤاه وفق منطلقاته الفكرية والأيديولوجية التي أسس عليها حياته عندما كان شابا جامعيا.


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
كلمات دليلية
التعليقات (0)