- ℃ 11 تركيا
- 22 نوفمبر 2024
سعيد الشهابي يكتب: القدس تئن تحت الاحتلال… ولا تستسلم
سعيد الشهابي يكتب: القدس تئن تحت الاحتلال… ولا تستسلم
- 17 أبريل 2023, 3:16:35 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
ما هي أولويات حكومات العالم الإسلامي في الوقت الحاضر؟ لو طرح هذا السؤال بشكل رسمي وحظي بإجابات صريحة لاتضح بشكل مؤكد أن قضية فلسطين لن تتصدر قائمة تلك الاهتمامات، وقد لا تكون على القائمة. الأمر لم يكن كذلك قبل نصف قرن مثلا عندما كان العرب والمسلمون يعضّون على القضية بالنواجذ.
ما الذي حدث خلال نصف قرن ليحدث هذا التغيّر في أولويات أمة مترامية الأطراف ومتعددة الأعراق؟ أهو ناجم عن السياسات الغربية الهادفة لجعل احتلال فلسطين أمرا واقعا؟ أم عن تقصير علماء الأمة ومفكريها؟ أو قصورهم عن إبقاء القضية حاضرة في نفوس المسلمين؟ أم عن تغير في زعامة العالم الإسلامي أدى إلى ذلك؟ إن كلا من هذه العوامل ساهم في تراجع القضية على الصعيدين الرسمي والشعبي. ولكن الأمر المؤكد أنها لم تتراجع في نفوس أهل فلسطين وقطاعات رسمية وشعبية أخرى ما تزال قلوبها مشدودة إلى القدس ومصرّة على تحرير الأرض التي باركها الله وفق ما نصت عليه الآية الكريمة التي تُليت ملايين المرات خلال هذا الشهر الفضيل: «سبحان الذي أسرى بعبده من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله، لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير».
هذا الشعب الذي أذهل العالم بصبره وصموده وشجاعته وتضحياته ما يزال مستعدا لبذل الغالي والنفيس من أجل أرضه، برغم تصاعد الدعوات من المتراجعين والمتخاذلين والمستسلمين لما يعتبرونه «براغماتية» أو «واقعية» أو «عقلانية» تقتضي الانصياع للأمر الواقع والقبول بما تمنحه قوات الاحتلال لهم. وتكفي الإشارة إلى أن تضحية هذا الشعب منذ بداية العام فحسب تجاوزت المائة شهيد، ولم يظهر منه مؤشرات للتراجع أو التراخي أو الاستسلام.
ثمة حقائق يجدر تأكيدها لعرض القضية ضمن المعطيات الواقعية: أولا ـ أن من يسعى لكسب ود أمريكا والسائرين في فلكها من دول الغرب يفضّل أن لا يُغضبها بتبنّي قضية فلسطين، أو يطالب بتحرير القدس والمسجد الأقصى من الاحتلال. ونجم عن ذلك حالة استقطاب واضحة بين عدد من الأطراف لكل منها هويته ودوافعه.
ثانيا: الولايات المتحدة التي تصر على ضمان أمن كيان الاحتلال وتفوقه العسكري الإقليمي لردع من تحاول نفسه التفكير بشكل جاد في تحرير أرض المعراج. والطرف الثاني يتمثل بالأطراف التي تحمل مشروع التحرير، وفي مقدمتها الجماهير والمنظمات الفلسطينية التي تتصدى للعدوان يوميا بما لديها من وسائل متواضعة. ولكنها كذلك تملك سلاحا آخر هو «شرعية الحق» بالإضافة إلى كمّ بشري مستعد للتضحية والفداء بدون كلل أو نصب. ومن المؤكد أن مشاهد الأمهات الفلسطينيات وهنّ يودّعن شهداءهن يوميا يبعث الشعور بالكرامة والشموخ لدى عشاق الحرية والشهادة.
ثالثا: الدول التي تحمل مشروع تحرير فلسطين كسياسة ثابتة. رابعا: هناك شعوب غير عربية وغير إسلامية ما تزال تحتضن قضية فلسطين وترفض المحتلين. ففي الأسبوع الماضي هاجم مشجعون يونانيون فريقا إسرائيليا ومشجعيه خلال مباراة في أثينا مع فريق يوناني. وقام المشجعون اليونانيون بحرق العلم الإسرائيلي ورفع العلم الفلسطيني، الأمر الذي أدى إلى توتر دبلوماسي بين البلدين. خامسا: أن الحق الفلسطيني أصبح يفرض نفسه على العالم، حتى في أوروبا التي تدعم حكوماتها كيان الاحتلال، هناك تصاعد مضطرد لما يسمى «معاداة السامية».
في ظل هذه الحقائق يتضح فشل الاحتلال الإسرائيلي في إدارة الأراضي التي يحتلها، وأن هذا الفشل يؤكد أن الشعب الفلسطيني، بانتماءاته الدينية المتعددة، استطاع حرمان الاحتلال من الهيمنة المطلقة والاستقرار الذي يبحث عنه
ومن أسباب ذلك سياسات الغطرسة التي تمارسها حكومة الاحتلال ليس داخل فلسطين فحسب بل مع الدول الأوروبية نفسها. فما أن يظهر تعاطف مع الفلسطينيين أو انتقاد للسياسات الإسرائيلية خصوصا إزاء بناء المستوطنات حتى يتم تعبئة الأطراف الإعلامية والسياسية الصهيونية لاستهداف تلك الحكومات إلى مستوى التقزز. هذا التنمّر لا يخدم المصالح الإسرائيلية بل يثير حفيظة الأوروبيين كثيرا، وينعكس ذلك بتصاعد تلك الظاهرة.
ماذا يعني ذلك؟ في الأسبوع الماضي كان هناك اهتمام ملحوظ بقضية مدينة القدس التي تتعرض لعملية تهويد متواصلة. هذا الاهتمام ارتبط بـ «يوم القدس العالمي» الذي أعلنته إيران بعد انتصار ثورتها في العام 1979، فأصبح يفرض نفسه على السياسات الإيرانية الخارجية والداخلية. وبشكل تدريجي تحولت المناسبة إلى حدث سنوي تتعدد فيه مظاهر الاحتفاء من ندوات ومؤتمرات وبيانات وتظاهرات. وأصدرت وزارة الخارجية الإيرانية بيانا دعت فيه إلى توحيد الصفوف لمواجهة الكيان الصهيوني الذي وصفته بـ: «الغدة السرطانية التي تزعزع الاستقرار والأمن في المنطقة والعالم، والعمل على دعم وحماية حقيقية للشعب الفلسطيني المظلوم». وقالت: «بعد مرور ما يزيد عن أربعة عقود على اختيار الجمعة الأخيرة من شهر رمضان المبارك بعنوان «يوم القدس العالمي» من قبل الإمام الخميني، فقد تحولت فلسطين والقدس الشريف اليوم إلى رمز لوحدة العالم الإسلامي وأنموذجا للدفاع عن حقوق المظلومين والأحرار في العالم بمختلف اعراقهم وأديانهم ومذاهبهم». البيان يؤكد استمرار إيران باحتضان القضية الفلسطينية على الصعيد الدولي، فلم تعد محصورة بالاهتمام المحلي الذي يتجلى في المظاهرات المليونية التي تجوب العاصمة والمدن الإيرانية الأخرى، بل أصبحت ممارسة في أغلب البلدان التي تستطيع إيران التأثير عليها. فمن بغداد إلى دمشق وبيروت وصنعاء والمنامة خرجت المسيرات العملاقة هاتفة باسم فلسطين والقدس. ونظمت مسيرات وتظاهرات في العشرات من العواصم والمدن العالمية ووصلت تلك الظاهرة إلى بلدان أفريقية مثل نيجيريا التي تتسم تظاهراتها بالحشود الكبيرة. ونظرا للبعد الديني المرتبط بالمناسبة، فقد انبرى كبار علماء الدين في إيران لدعمه وتشجيع الجماهير على الاحتجاج والتظاهر. فأصدروا بيانات تهيب بالجماهير المشاركة الكثيفة كمسؤولية دينية من أجل الدفاع عن الأقصى. ولا شك أن الاعتداءات الإسرائيلية الأخيرة على المصلين في هذا المسجد المقدس وما تبعه من مواجهات أدت لاستشهاد العديد من الشباب الفلسطيني قد ساهمت في زخم المشاركة في التظاهرات.
وعاما بعد آخر يصبح يوم القدس أكثر ارتباطا بالصراع الأيديولوجي والسياسي الهادف لتوسيع دائرة الاهتمام بالقضية الفلسطينية. وثمة إدراك واسع لأهمية ما يسمى «الحرب الناعمة» التي تهدف لتعميق الانتماء الأيديولوجي للأطراف التي تمارسها. فالتطبيع يتم الترويج له على أوسع نطاق من خلال البرامج الثقافية والفنية والزيارات المتبادلة بين الكيان الإسرائيلي والدول التي تمارس هذا التطبيع مثل البحرين والإمارات. هنا تتصادم الأجندات لدى الأطراف المعنية. فبينما تتسارع خطى التطبيع بين حكومة البحرين وقوات الاحتلال خرج المواطنون في مسيرات عملاقة من أجل القدس، انتشرت في أغلب مناطق البلاد يوم الجمعة الماضي، برغم القمع والاعتقالات الاستباقية.
في ظل هذه الحقائق يتضح فشل الاحتلال الإسرائيلي في إدارة الأراضي التي يحتلها، وأن هذا الفشل يؤكد أن الشعب الفلسطيني، بانتماءاته الدينية المتعددة، استطاع حرمان الاحتلال من الهيمنة المطلقة والاستقرار الذي يبحث عنه. فبعد ثلاثة أرباع القرن من الاحتلال تبدو القدس متألقة خصوصا خلال شهر رمضان المبارك، برغم معاناتها كمدينة مقدسة ترفض الاحتلال وتصرّ على الانعتاق. فها هي تهتف بأهازيج الحرية التي بقيت نبراسا للمناضلين برغم التخلي العربي الرسمي عن قضية فلسطين وقيام البعض بالتطبيع معه. وستظل كذلك حتى تتحرر أرض فلسطين وينتهي كابوس الاحتلال المقيت.