د. طارق ليساوي يكتب: التجربة التنموية الماليزية غنية بالدروس التي يمكن الاستعانة بها لوضع خارطة طريق للمستقبل

profile
  • clock 24 يناير 2022, 7:18:17 م
  • eye 501
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

خلصت في مقال ” التنمية الفعلية بالبلدان العربية تقتضي السير على نفس الخطى التي سلكتها الصين بعد 1978..”فالتنمية الفعلية بالبلدان العربية خاصة والنامية عامة، تقتضي السير على نفس الخطى التي سلكتها الصين بعد 1978، بمعنى تشجيع الإنتاج وزيادة الصادرات و التقليص من الواردات.. لكن في الواقع، فإن تحقيق هذا التصور غير ممكن في الوقت الراهن، لأن الصين تغزو البلدان النامية بسلع منخفضة الكلفة و الجودة معا، و في ظل وضع كهذا من المستحيل الحديث عن التأسيس لبنية تحتية صناعية أو إنتاجية سليمة …و أرجو من صناع القرار في معظم هذه البلاد، إلى التعامل ببرغماتية مع الصين، و تغليب مصالح الوطن بالدرجة الأولى، و لست أرى من مصلحة أكبر من الحد من إغراق الأسواق المحلية بمنتجات يمكن فعلا تصنيعها محليا و برؤوس أموال محلية، و من تم خلق فرص عمل، و تقليص عدد الفقراء و العاطلين، و خلق دورة تنموية حميدة .. فالديون سواءا كانت صينية أو أروبية فهي تحمل الكثير من المخاطر على المدى المتوسط و البعيد…

و ليسمح لي القراء الكرام بختم سلسلة المقالات التي كتبتها بمناسبة الاتفاقية التي تم توقيعها بين المغرب و الصين قبل أيام، و بغرض الاستفادة من التمويل الصيني لتنفيذ مشاريع بالمغرب في إطار مبادرة الحزام و الطريق، وقد تابعت بعناية تعليقات القراء منذ البداية ، و لاحظت استغرابا من بعض الزملاء الذين اعتبروا أني بصدد هجوم على الصين و الدفاع عن المستعمر الأمريكي أو الفرنسي أو البريطاني، و الواقع أني ضد الهيمنة الأجنبية غربية أو شرقية، ضد الاحتلال و التدخل الأجنبي في تقرير مصير شعوبنا العربية و الإسلامية، ضد جعل بلداننا ساحة للعبة الشطرنج بين القوى الدولية و الإقليمية ، ساحة لتصفية الحسابات و تحقيق مكاسب تفاوضية على حساب دماءنا و أقواتنا وثرواتنا المنهوبة و المسلوبة، يكفي أننا كشعوب عربية من المحيط إلى الخليج لم نتمكن بعد من التعبير عن إرادتنا في اختيار من يمثلنا بحرية و استقلالية، من الواجب قراءة التاريخ القريب و البعيد بعناية، فالجزائر تم تدميرها عندما قرر الشعب التصويت على جبهة الإنقاد، نفس الأمر حدث في فلسطين المحتلة عندما صوت الشعب الفلسطيني بكثافة على حركة حماس ، نفس السيناريو تكرر في بلدان الربيع …

و حتى أجعل هذا المقال ختاما لخطر فخ الديون و الاعتقاد الخاطئ بأن الصين منقد للعالم العربي ، فعلينا أن نرى ما يحدث في سوريا و كيف تم تدمير هذا البلد و تشريد شعبها بأسلحة شرقية وغربية، وهذا التدمير و التهجير يصب في مصلحة من؟ هل حقا يصب في مصلحة المقاومة و في مصلحة سوريا؟

لكن دعوني من الخوض في هذا الأمر، و سأحاول جعل ختام هذه السلسلة من المقالات، باستحضار النموذج الماليزي في التنمية ، وهو ذاته النهج الذي إعتمدته الصين وغيرها من القوى الأسيوية، و التجربة التنموية الماليزية بخاصة، ينبغي للبلدان العربية و الإسلامية الاستفادة من دروسه و محاولة استنباط خلاصات مفيدة منه، خاصة و أننا استحضرنا منذ البداية موقف “محمد مهاتير” من مشاريع مبادرة الحزام و الطريق ، و كيف أنه بالمجرد عودته للسلطة عام 2018 اتخذ قرارا بوقف مشاريع تم الالتزام بها، بذريعة انها تثقل كاهل ميزانية البلاد وتغرق ماليزيا في المديونية..و ينبغي أن لا ننسى أن مواقف و قرارات الرجل و حكومته، بمناسبة الأزمة الاسيوية التي ضربت بلاده و بلدان النمور الأسيوية سنة 1997 ، كانت لقراراته المناهضة للمديونية و لتدخل المؤسسات المالية الدولية دور بالغ الأهمية في إنقاد بلاده من الأسوأ..

و قد أشرت في أكثر من مقال ومحاضرة إلى أبعاد وخصوصية التجرية التنموية الماليزية، ذلك أن أهم ما يميز هذه التجربة ، تركيزها على تنمية رأس المال البشري، و تنمية قدرات الانسان-المجتمع الماليزي، ومن الطبيعي و المسلم به، أن هذا النموذج من التنمية لا يتحقق قسرا، أو في مناخ استبدادي أو بناءا على قرار سلطوي، و إنما يتحقق في إطار الحرية والمجتمع المفتوح، فالحرية بالدرجة الأولى هي عملية تحرير الانسان من ربقة الجهل و المرض، و الحرية تعني أيضا، تعزيز فرص ممارسة القدرة من أجل المشاركة الإيجابية الواعية المسؤولة… فالهدف و المعيار من التنمية وفقا للتصور الماليزي، توسيع فرص و نطاق الاختيار تأسيسا على حق المعرفة و التعليم.. بمعنى الزيادة في نطاق البدائل الفعالة المعروضة أمام الإنسان، و تهيئة الأسباب لسيطرة الإنسان على بيئته و مقدراته و قدراته لبناء حاضره و مستقبله، من واقع الشعور بالمسؤولية الايجابية الحرة و الانتماء الاجتماعي…و تحقيق هذه المعادلة التنموية يمر عبر دعم الحرية بمفهومها الواسع، الحرية الاقتصادية و السياسية و الدينية …و تأهيل الفرد- المجتمع لممارسة هذه الحرية بمسؤولية وفعالية، يمر عبر بوابة نشر التعليم و تقوية مدارك الانسان الماليزي، و دعم قدراته الفكرية والذهنية والمعرفية..

لذلك، فإن نهضة ماليزيا التي راهنت على العنصر البشري و اعتبرته غاية ومنطلق عملية التنمية والتحديث، انطلقت من واقع تحديث التعليم وتقوية المنظومة التعليمة، ووضع الخطط و البرامج الهادفة لتجويد مخرجات العملية التعليمية، و تأهليها لتخريج كادر بشري، مؤهل لحمل مشعل النهضة، و المشاركة بفعالية في المجتمع المحلي، و المجتمع العالمي…


هذا التوجه جعل من تجربة ماليزيا واحدة من أکبر التجارب العالمية الرائدة في مجال التنمية البشرية عامة و الاقتصادية خاصة، والنقطة الأساسية التي انطلقت منها ماليزيا في عملية التنمية الاقتصادية هي سياسة الاعتماد على الذات، وتعد التجربة الماليزية من التجارب التنموية الجديرة بالاهتمام والدراسة لما حققته من إنجازات کبيرة يمكن أن تستفيد منها الدول النامية کي تنهض من التخلف الاقتصادي، و في هذا الصدد يقول “جوزيف ستجليتز” :” أنه منذ أربعين سنة خلت کانت ماليزيا من أفقر الدول في العالم، وبعد استقلالها لم تتبع توجهات وتعليمات المؤسسات الدولية بل اختارت أن تتبع النماذج التنموية الناجحة لجيرانها الآسيويين …ولقد کان ناتجها المحلى الإجمالي، قريبًا من الناتج المحلى الإجمالي في هايتي وهندوراس ومصر، وأدنى من الناتج المحلى الإجمالي في غانا بحوالي 5%. ووفقاً لتقديرات عام 2010، فقد تضاعف دخل ماليزيا إلى 7 أو 8 أمثال الدخل في غانا، وأکثر من خمسة أضعاف الدخل في هندوراس، وأکثر من ضعفيّ ونصف الدخل في مصر. وتحتل ماليزيا الآن مرتبة عليا بين مجموعة الدول التي حققت نمواً هائلاً على مستوى العالم، فتقف إلى جانب الصين وتايوان وکوريا الجنوبية.

ووضعت ماليزيا خططاً للقضاء على الفقر المدقع، وانخفض معدل الفقر إلى 2.8% عام 2010، ثم إلى 0.4% عام 2015. ونجحت ماليزيا في تقليص الفوارق في الدخول، بعد أن کانت تلك الفوارق سبباً في التوترات بين المجموعات العرقية فيما مضى. ولم تحقق ماليزيا هذه الغاية بإنزال الأعلى إلى الأدنى، بل برفع الأدنى إلى الأعلى…”


وکان أول المستفيدين من هذا النمو الاقتصادي هم الفقراء والعاطلين عن العمل والمرضى والمجموعات العرقية الأکثر فقراً في المجتمع، والأقاليم الأقل نمواً.

ونتيجة لهذه السياسات الناجحة فقد حققت ماليزيا طيلة العقود الماﺿية قفزات هائلة في التنمية البشرية والاقتصادية، فأصبحت الدولة الصناعية الأولى في العالم الإسلامي، وكذلك الحال في مجال التجارة الخارجية، من خلال تأسيس بنية تحتية متطورة، مما إنعكس في تنويع مصادر دخلها القومي من الصناعة والزراعة والمعادن والنفط والسياحة، ولذا حققت تقدماً ملحوظاً في معالجة قضايا الفقر والبطالة، والفساد…

تشكل ماليزيا حاليا إحدى أقوى النمور الآسيوية وأكثرها تقدما بالنظر إلى ما تم انجازه وما تخطط لتحقيقه على مدد طويلة، حيث تعد هذه التجربة الفريدة من نوعها إحدى أكثر الدروس التي ينبغي ان تحذو حذوها جميع الدول حيث مهدت من خلال الخطط الإستراتيجية التي وضعتها إلى إرساء منظومة متكاملة تنمويا وشملت شتى المجالات بدءا بالجوانب الاقتصادية والاجتماعية وصولا إلى الجوانب البيئية.. و بالرغم من الانفتاح الكبير لماليزيا على الخارج والاندماج في اقتصاديات العولمة، فإنها تحتفظ بهامش كبير من الوطنية الاقتصادية والسيادة التنموية …فتجربة ماليزيا تثير أسئلة عميقة جدا بأوساط الاقتصاد السياسي الدولي، هذا الجدل له صلة بدور الدولة الوطنية و صلاحياتها في سياق تيار العولمة النيوليبرالية ، فماليزيا بالرغم من أنها دولة صغيرة لكنها احتفظت بقدر كبير من الاستقلالية في مواجهة على شركاء اقتصاديين وماليين كبار ، فالسيادة الاقتصادية و السياسية و التنموية التي أظهرتها الحكومة الماليزية على مدى العقود الماضية يعد بحق نموذج ينبغي التعامل معه بجدية، فمنذ سبعينيات القرن الماضي ، ضاعفت ماليزيا سياسيًا مؤشرات و مقومات السيادة مخاطرةً بإزعاج أكبر المنظمات الدولية كصندوق النقد الدولي و البنك الدولي…

و لم يكن تحقيق ماليزيا لنمو اقتصادي وتنموي مثير للإعجاب، إلا نتيجة لاستثمارها في البشر، فقد نجحت في تأسيس نظام تعليمي قوي ساعدها على تلبية الحاجة من قوة العمل الماهرة. كما ساهم هذا النظام بفعالية في عملية التحول الاقتصادي من قطاع تقليدي زراعي إلى قطاع صناعي حديث، واليوم يتم المراهنة على التعليم الجيد لبلوغ مرحلة الاقتصاد المعرفي القائم على تقنية المعلومات والاتصالات …

فالتجربة التنموية الماليزية راهنت بفعالية على تنمية رأس المال البشري، لذلك إعتبرت قطاع التعليم قطاعا خلاقا منتجا للثروة الوطنية.. وتبعا لذلك، فهو محرك أساسي لعجلة التنمية الاقتصادية، كما أن إهتمام ماليزيا بالتعليم جعلها تهتم بتوسيع خيارات المواطن الماليزي، و الاهتمام بأنسنة الإنسان وتوسيع مداركه العلمية والحياتية في إطار النهوض بالرأسمال الفكري… و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون ..

*د. طارق ليساوي إعلامي وأكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني والشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية والسياسات العامة.

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "180 تحقيقات"

التعليقات (0)