عبدالحليم قنديل يكتب: اتفاق النصر الفلسطينى

profile
  • clock 18 يناير 2025, 2:19:58 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01
الكاريكاتير للفنان الفلسطيني محمود عباس

قبل أكثر من ستة شهور، وفى صباح السبت 13 يوليو 2024، كتبت ونشرت مقالا فى هذا المكان نفسه عن احتمالات عقد صفقة وقف النار فى "غزة"، قلت فيه ببساطة، أنه لا فرصة لاتفاق من هذا النوع إلا مع أجواء تنصيب "دونالد ترامب " رئيسا فى 20 يناير 2025، ولم أكن وقتها أقرأ الرمل ولا أضرب الودع، بل كان التوقع مبنيا على سلوك "بنيامين نتنياهو" رئيس وزراء العدو، وعلى فرصه المتاحة للمناورة مع ساكن البيت الأبيض المنصرف "جو بايدن".

فقد كان "بايدن" وقتها لقى هزيمة مخزية فى المناظرة الأولى مع "ترامب"، وكانت الأصوات تتعالى لإخراجه واستبداله فى سباق الرئاسة، وكان "بايدن" فى وضع "البطة العرجاء" بل المشلولة تماما، وفى عام الرئاسة الأمريكية الأخير كالعادة، يصعد نفوذ "اللوبى الصهيونى" ـ "الأيباك" وأخواتها ـ إلى أعلى ذراه، وهو ما يفهمه جيدا "نتنياهو"، الذى صعد دوره إلى درجة إذلال إدارة "بايدن"، مع استغلال طموح "ترامب" لنيل رضا "اللوبى الصهيونى" و"نتنياهو" شخصيا، وبالغ "ترامب" على طريقته الفجة فى إبداء المحبة والولاء لكيان الاحتلال "الإسرائيلى"، ولقى "نتنياهو" استقبالا حافلا عامرا بمئات نوبات التصفيق خلال خطابه فى "الكونجرس" بمجلسيه يوم 24 يوليو 2024، وبدا "نتنياهو" كأنه سيد البيت الأبيض الأول، إضافة لرئاسته حكومة "إسرائيل" الفرعية فى "تل أبيب".

ومن موقع القوة المتضخمة، واصل "نتنياهو" تنفيذ خطته، أى (استمرار الحرب فى غزة، وربما مد الحرب إلى لبنان، حتى يأتى ترامب إلى البيت الأبيض) كما كتبت حرفيا فى مقال 13 يوليو الماضى.

ونفذ "نتنياهو" ما أراد، ذهب إلى الحرب البرية مع "حزب الله"، وإن لم يتمكن من جلب صورة "نصر ساحق" كان يحلم بها، واضطر للموافقة على "اتفاق هدنة"، وواصل بشراسة حرب الإبادة الجماعية على "غزة"، ولم يتمكن هنا أيضا من تحقيق أهداف حربه المجنونة، وإن أعاق التفاوض مرات حول اتفاق وقف النار وتبادل الأسرى، وتصدى بصلف وعجرفة لكل رغبات إدارة "بايدن"، ولكل اقتراحاتها "الإسرائيلية" أصلا، وأطاح بما عرف بعنوان صفقة "بايدن" المعلنة مساء 31 مايو 2024، ولترجمتها الحرفية فى قرار مجلس الأمن الدولى رقم 2735، ولكل مسودات اتفاقات التفاوض فى "باريس" و"القاهرة" و"الدوحة"، التى شارك وضغط بها كل مبعوثى إدارة "بايدن"، وأولهم "مايكل بيرنز" مدير المخابرات المركزية الأمريكية، وكان الاتفاق المطروح فى كل هذه الجولات، هو نفسه الذى اضطر أخيرا للموافقة عليه، بعد أن تغيرت معادلة التفاعل مع البيت الأبيض بعد فوز "ترامب" على نحو ساحق فى الرئاسة والكونجرس.

فبعد أن ظل نتنياهو لشهور آمرا مطاعا يخضع له "بايدن" و"ترامب" معا، انقلبت الموازين إلى صيغة أخرى، يتحكم بها "ترامب" وحده، ويخضع له "بايدن" و"نتنياهو" معا، وبدا ظل "ترامب" حاضرا فى اتفاق هدنة لبنان وأكثر فى مفاوضات اتفاق "غزة".

وربما تنطوى القصة على مفارقة ظاهرة، فقد بدأ "ترامب" سيرته مع قصة "غزة" على نحو مختلف، وأطلق تهديدا بالذهاب إلى "جحيم"، تصوره ضاغطا على "حماس" وأخواتها فى التفاوض، وبدا التهديد وقتها مثيرا للسخرية، فما كان بوسع حكومة "إسرائيل" فى واشنطن أن تفعل أكثر، وهى شريك كامل الأوصاف فى حرب الإبادة الجماعية، وفعلت كل ما بوسعها من "جحيم" عبر نحو 16 شهرا من الحرب البربرية، ومن دون أن يتحقق شئ من الأهداف المعلنة والضمنية للعدو الأمريكى "الإسرائيلى"، اللهم إلا مضاعفة التوحش فى إبادة الحجر والبشر والشجر، ووضع أهل "غزة" فى عذاب أسطورى، ولكن من دون أن يخفت صوت المقاومة الأسطورية، التى زادت فى تحديها البطولى لحمم وقنابل وحمم متفجرات بلغت زنتها نحو مئة ألف طن، ألقيت على رأس "غزة"، وقتلت وأصابت وقطعت أشلاء نحو مئتى ألف فلسطينى معلوم ومفقود، أغلبهم من النساء والأطفال الأبرياء، فى أبشع مجزرة ومحرقة شهدتها الحروب، فقتلت الأبرياء بالقصف والتجويع والتجمد فى الصقيع، وحرمت الضحايا من كل إغاثة طبية بالتدمير شبه الكامل للمرافق والمستشفيات والمدارس والبيوت وحرق الخيام، ومنع فرق الإسعاف المدنى من الوصول إلى المصابين والشهداء، وترك الجثث فى الخلاء تنهشها الكلاب الضالة، وقتل النازحين فى كل مكان يذهبون إليه، حتى فى الأماكن الموصوفة كذبا بالآمنة.

ورغم كل هذا الهول الأفظع، كانت قوات الاحتلال تتلقى الهزائم المتلاحقة فى ميادين القتال المتلاحم، وكان المقاومون من "حماس" وأخواتها، يبدعون على نحو مذهل، ويعيدون تدوير قذائف العدو التى لم تنفجر، ويضيفون زادا جديدا إلى ورش التصنيع الحربى الذاتى، ويدبرون الكمائن المميتة لنخب قوات الاحتلال من شمال "غزة" إلى جنوبها، ويفشلون "خطة الجنرالات" الهادفة للتطهير العرقى الشامل فى "جباليا" و"بيت لاهيا" و"بيت حانون" شمال مدينة "غزة"، وإلى حد دفع العدو الأمريكى "الإسرائيلى" إلى حافة جنون، عبر عنه "أنتونى بلينكن" وزير خارجية "بايدن"، بإعلانه قبل أيام، أن قوات "حماس" عادت إلى حجمها الأول صباح 7 أكتوبر 2023، وأن آلافا متكاثرة جرى تجنيدها من قبل "حماس" وأخواتها، بينما ذهب الجنرال "جيئورا آيلاند" إلى إعلان فشل "خطة الجنرالات" التى وضعها بنفسه، وقال أنه لا أمل فى تنفيذها، وأنه لا بديل عن الانسحاب "الإسرائيلى"  بالكامل من "غزة".

وكان "ترامب" وإدارته يتابعون حقائق الميدان عن قرب، وأدركوا أن حرق "حماس" وأخواتها فى الجحيم غير ممكن ومحض وهم، فالمقاومة تنمو وتتوالد ذاتيا، ودونما حاجة إلى مدد لم يأت عبر الحدود، وأن استنزاف قوات العدو ماض إلى نهايته.

وهو بعض ما دفع "ترامب" البراجماتى إلى وجهة أخرى، تضغط على "نتنياهو" لتجرع سم اتفاق وقف النار، بعد أن ثبت مرارا وتكرارا أن القوة الأمريكية "الإسرائيلية" الإبادية لم ولن تفوز أبدا فى المنازلة النارية مع الشعب الفلسطينى ومقاومته، وأنها لن تنجح فى تهجير الشعب الفلسطينى إلى خارج أرضه المقدسة، رغم كل هذا العذاب الأسطورى، وأنه لا سبيل لاجتثاث حركات المقاومة الأسطورية، وأن ما أخفقوا فى إحرازه بقوة السلاح قد يكون أيسر فى التحقق، لو تحولوا إلى السياسة، وانتقلوا إلى اتفاق ثلاثى المراحل لوقف الحرب، تدور عناصره الأساسية، كما صمم عليها المفاوضون الفلسطينيون، حول التدرج فى وقف النار من الموقوت إلى المستديم، وحول فتح سبل إغاثة الشعب الفلسطينى وإعادة الإعمار اللاحقة، وإطلاق سراح آلاف من الأسرى الفلسطينيين، وانسحاب قوات الاحتلال من "غزة" على مراحل، وفتح معابر الإمداد الإنسانى، وإعادة كل النازحين الفلسطينيين من جنوب "غزة" إلى سكناهم فى الشمال، وهذه هى الملامح الكبرى للاتفاق الجديد القديم، الذى دأبت حكومة الاحتلال على رفضه وإعاقته لثمانية شهور مضت، ثم يخضع له اليوم "ترامب" و"نتنياهو" معا، ربما على أمل الاستعاضة عن فشل حرب "غزة"، والانتقال إلى حرب العصف بالضفة الغربية، وعقد اتفاقات "إبراهام" جديدة مع دول عربية مضافة.

ومع وقف النار فى حرب "غزة"، وضعف الثقة فى ضمانات تنفيذ أى اتفاق مع كيان الاحتلال، إلا أن تكون المقاومة على الموعد فى أحوال الإخلال الإسرائيلى الوارد طبعا، وفى كل الأحوال، فجولة الحرب الأخيرة لم تكتب كلمة النهاية، ولم يحقق العدو فيها نصرا بأى معنى، رغم كل ما جرى من دمار وقتل، وهذه هى الخاتمة ـ التى صارت معتادة ـ لكل حرب تخوضها "إسرائيل" مع المقاومة الجديدة، وفى صورة حروب غير متناظرة، يملك فيها العدو ما لا تملكه المقاومة، والعكس بالعكس.

لكن النتائج تظل كما هى، فالعدو ينهزم حين لا تتحقق أهدافه، والمقاومة لا تهزم حين لا تفنى، وحين تثبت قابليتها للتجدد رغم قسوة الظروف، فبقاء المقاومة يعنى المقدرة على استئناف المواجهات الحربية، وبقاء المقاومة يعنى تجدد الأمل فى نصر كامل، تستعاد به الحقوق المقدسة للشعب الفلسطينى المظلوم، الذى أثبت مقدرته اللانهائية على الصبر وتحمل التضحيات بغير حدود، فقد أثبتت تجربة الحرب بعد "طوفان الأقصى"، أن بوسع الشعب الفلسطينى المحاصر، أن يتفوق ويهتدى بتجارب كفاح الجزائريين والفيتناميين، وأن يواصل الاستمساك بمقاومته العنيدة حتى تعود النجوم إلى مداراتها، ويستعيد حقه كاملا فى الحياة والحرية، مهما بلغت التضحيات وتضاعفت العذابات، ومهما خذله المتخاذلون، ومن حق الشعب الفلسطينى اليوم أن يفرح بالاتفاق الجديد، وأن يفخر بدماء الشهداء التى هزمت سطوة وجبروت سيف العدو، وأن يحلم بالنصر الكامل فى قابل الأيام والحروب.
 


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)