- ℃ 11 تركيا
- 21 نوفمبر 2024
عبد الحليم قنديل يكتب: العائدون من الكهف
عبد الحليم قنديل يكتب: العائدون من الكهف
- 30 يوليو 2022, 4:31:44 ص
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
كيف يتصرف العرب مع الوضع العالمي الجديد المصاحب لحرب أوكرانيا؟ فلم يعد من أحد عاقل يجادل في تغير الموازين على القمة الدولية، ولا في كون القطبية الأحادية الأمريكية صارت من الماضي، بل إن هيمنة الغرب بشقيه الأمريكي والأوروبي دخلت من زمن في مرحلة الذبول، وهو ما تسلم به عقول الغرب الاستعمارية الكبرى، وكان آخرها صوت توني بلير رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، وقد نعتته الصحافة البريطانية وقت حرب العراق بأنه “ذيل الكلب الأمريكي”، وهو يقطع اليوم باستحالة فوز الغرب في الحرب العالمية الجديدة، وسبقه هنري كيسنجر، أفضل عقل استراتيجي غربي، الذي نصح مبكرا بإعطاء روسيا ما تريده في أوكرانيا، ومحاولة استمالة موسكو في تعبئة شاملة ضد الصين العدو الأخطر، وحين استبطأ كيسنجر رد فعل القادة الغربيين، راح ينعى عليهم تواضع شأنهم، ويتحسر على زمن مضى، كان الغرب يملك فيه قادة بوزن ونستون تشرشل وشارل ديغول ورئيسه الأسبق ريتشارد نيكسون.
ربما ما لم يدركه كيسنجر المتفجع صاحب المئة عام عمرا، أن حرب أوكرانيا لم تنشئ الوضع الجديد، وأنها فقط أزاحت الغطاء عن تحولات جوهرية في موازين قوة الاقتصاد والسلاح والتكنولوجيا، توالت سراعا في الأربعين سنة الأخيرة، وترسم صورة ما يمكن أن نسميها مرحلة “تجاوز الغرب”، أي امتلاك قوته المادية والتقنية ذاتها، ثم تخطيه بأشواط متلاحقة، دفعت “صندوق النقد الدولي” مثلا، وهو مؤسسة مالية غربية الهوى والتكوين، أن يعترف بالحقيقة البليغة في تقرير حديث، يجزم بأن الصين صارت قوة الاقتصاد الكونية الأولى فعلا لا احتمالا، وبحسب معايير القوى الشرائية، وتجاوزت الولايات المتحدة الأمريكية من سنوات، وكانت الصين قبل قرنين من الزمان، مجرد مرعى مفتوح لنهب وهيمنة القوى الغربية الاستعمارية، في “حروب الأفيون” وما تلاها، كانت الصين كغيرها من ضحايا مرحلة “سيادة الغرب”، التي بدأت صعودها مع اكتشاف الأمريكتين وسقوط “غرناطة” عام 1492، وثورات الصناعة وسباق الموارد، ودامت مرحلة سيادة الغرب في غالب القرون الخمسة الأخيرة، وإلى أن جرى إنهاك الغرب الأوروبي داخليا في ما عرف باسم الحرب العالمية الأولى، وفي الحرب العالمية الثانية بالذات، وهو ما خلق بيئة مواتية لحركات التحرير الوطني في عوالم المستعمرات الغربية، قادت لانتصارها، والدخول في مرحلة يمكن تسميتها “تحدي الغرب”، برزت في ظواهر ما عرف باسم المعسكر الاشتراكي، وحركة عدم الانحياز ورفض القواعد والأحلاف الغربية، وقد هزم وغاب الكثير منها في المواجهة الضارية مع القيادة الأمريكية للتحالف الغربي بعد الحرب الثانية، وكانت أمريكا وقتها تملك مؤهلات قوة جبارة، كان لديها نصف اقتصاد العالم كله، وفرضت قواعد هيمنتها الاقتصادية والمالية عبر “البنك الدولي” و”صندوق النقد الدولي” و”اتفاقية بريتون وودز”، التي كرست سيادة الدولار كعملة احتياط عالمية، ثم حين تقلصت كفاية الغطاء الذهبي الأمريكي، فرضت أمريكا مع عهد نيكسون وكيسنجر وضع هيمنة “دولارية” جديدة، بتقرير استخدام الدولار كأداة لتسعير البترول وغيره، وجعلت من مجرد طباعة أوراق الدولار أداة للهيمنة، مع تسييد نظام “سويفت” للتحويلات المالية البنكية، ولم يكن لذلك أن يستمر للأبد، مع التحولات المتزايدة في موازين القوة الدولية، ومع صحوة الشرق الصيني وما حوله بالذات، وتبدل المواقع في نظام العولمة الاقتصادية، وتحول الصين إلى مصنع العالم الأول، وحيازتها وحدها لأكثر من 35% من مجموع التجارة العالمية، ولفوائض تجارية هائلة في موازين تعاملاتها مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، مع الضعف المتزايد للاقتصاد العيني الأمريكي، والاتجاه إلى “رأسمالية الكازينو” والبورصات والمضاربات، وإثقال الاقتصاد الأمريكي بديون فلكية داخلية وخارجية، جاوزت حتى اليوم رقم الثلاثين تريليون دولار، ففي الوقت الذي انتفخت فيه عضلات أمريكا العسكرية، وزاد إنفاق السلاح فيها إلى نحو 800 مليار دولار سنويا، ونشرت المئات من قواعدها العسكرية باتساع المعمورة، في الوقت الذي جرى فيه كل هذا التضخم العسكرى، وتوالت حروب واشنطن الخاسرة في عشرات الحالات، كان السند الاقتصادي يتخلخل في إطراد، اللهم إلا في باب شركات التكنولوجيا الكبرى، التي راحت شركات الصين تنافسها بشدة، وتتفوق كثيرا في منتجاتها التكنولوجية، وعلى نحو ما بدا في اختبار جائحة كورونا، التي نهشت البدن الأمريكي بضراوة، وجعلته الضحية الأكبر عالميا، وعرّت سوءات نظامه الصحي، فيما أظهرت الصين تقدما باهرا في سياسة “صفر كوفيد”، وامتيازا مذهلا في التعبئة والانضباط والكفاءة التكنولوجية، وواصلت زيادة فوائضها المالية التريليونية، ومد نفوذها الكوني عبر خطط “الحزام” و”الطريق”، وصارت “بكين” المانح الأول دوليا للقروض والمعونات، وأنشأت أطرا لنظام اقتصادي ومالي جديد، من معاهدة “شنغهاي” إلى تحالف “بريكس” إلى “بنك التنمية” وغيرها، وبلورت نظما بديلة لنظام “سويفت” الغربي المنشأ، وقادت وتقود نظما جديدة لاستبدال التعامل بالدولار، وبهدف كسر احتكاره، وتحطيم الأساس النقدي للهيمنة الأمريكية، وهو ما بدا طريقا مغريا بالاحتذاء، حققت فيه روسيا خطوات إضافية، واستنادا إلى “علاقة بلا حدود” جمعت بكين وموسكو، وهو ما يفسر الصمود المذهل للاقتصاد الروسي، المتوسط حجما، ولكن بميزات نوعية فارقة، وبجرأة واعية في مواجهة عشرة آلاف صنف عقوبات فرضت على روسيا مع حرب أوكرانيا، انتهت إلى عكس ما كانت من أجله، فلم يركع اقتصاد روسيا، وصار الروبل الروسي أفضل عملات العالم أداء، بينما امتد الأذى الثقيل إلى الاقتصاد الأمريكي والاقتصاد الأوروبي بالذات، وهو ما دفع ويدفع الغرب إلى التراجع، وإلغاء الحظر على استيراد الأغذية والحبوب والأدوية والأسمدة الروسية، فضلا عن إلغاء “عقوبات ليتوانيا” في إعاقة تجارة روسيا مع إقليمها “كالينينغراد” المنفصل جغرافيا، ولا تزال التراجعات متصلة، برفع الحظرعلى تداول شركات الطاقة الغربية الكبرى للبترول الروسي، وبيعه لأطراف ثالثة، خصوصا مع تكشف العجز العسكري الغربي في الميدان الأوكراني، وتدحرج رؤوس الحكومات الأوروبية، ومآزق الرئيس الأمريكي جو بايدن داخليا، وضغط روسيا بالتحكم في إمدادات البترول والغاز الطبيعي على دول أوروبا الكبرى، وتدفيعها ثمنا فادحا لانسياقها الأعمى وراء أمريكا في محاربة روسيا، والجري وراء أوهام إمكانية هزيمة روسيا وإضعاف رئيسها فلاديمير بوتين.
حرب أوكرانيا لم تنشئ الوضع الجديد، وأنما فقط أزاحت الغطاء عن تحولات جوهرية في موازين قوة الاقتصاد والسلاح والتكنولوجيا
ومع هذه التحولات العاصفة كلها، يبدو العرب عموما كأنهم من عالم آخر، فقد انقطعت صلات العرب بحس التاريخ الجاري منذ نحو خمسين سنة، وبالدقة منذ مقدمات ووقائع حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وقد جرى فيها انتصار عسكري لا ينكر، أعقبته للمفارقة هزيمة حضارية شاملة، خرج بها العرب من معادلات التاريخ وسباقات العصر، بأثر مما جرى من انهيارات في مصر بالذات، مصر ذاتها التي كانت في قلب تحولات التاريخ العالمي، وقطعت ذيل “الأسد البريطاني” في حرب السويس 1956، بينما مشت فيها السياسة بعد أكتوبر 1973 على العكس بالضبط من مغزى انتصار السلاح، وسادت خرافات من نوع ملكية أمريكا لمئة بالمئة من أوراق اللعبة، والاكتفاء بالعبودية لأمريكا قياما وقعودا، والمشي خلفها في حرب تحطيم العراق، ثم إدمان التطبيع مع كيان الاحتلال الإسرائيلي، وتواري مشروع النهوض القومي العربي بالجملة، وتوحش أدوار الجوار الإيراني والتركي على حساب قلب عربي كف عن الخفقان، وغرق طويلا في نومة أهل الكهف، ثم كانت صدمة الاستيقاظ المتأخر مع حرب أوكرانيا ومضاعفاتها، التي لم نشعر بتحولات العالم الجارية إلا معها، وفي لهيب نيرانها ومعاركها وانقلاباتها، وهو ما يفسر حيرة الحكومات العربية الظاهرة اليوم، فهي تشهد مصارع القطبية الأمريكية الأحادية المتحكمة، وكانت تظن أن واشنطن هي رب الكون المعبود، ثم حين أصبح الإله الموهوم صنما من “عجوة”، راحت تشك في جدوى الاعتماد على حمايته، وحفظه للوعود والدعوات، على نحو ما ظهر في قمة الرئيس الأمريكي بايدن مع قادة تسع دول عربية في جدة، ومن دون أن تقطع وصال الود معه، ولا أن تغلق الباب على تفاهمات ممكنة مع روسيا والصين، وحتى مع إيران حليفة القطب الشرقي الصاعد، وعلى نحو ما بدا في اتصالات بوتين مع حكام السعودية، وفي لقاء وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف في القاهرة، واجتماعه بالرئيس المصري، ثم مع المندوبين العرب في مبنى الجامعة العربية، بدا الزحف الدبلوماسي الروسي معاكسا في المغزى لـ”قمة جدة” المتعثرة، ووقع العرب المعنيون في حيرة الاختيار، أو الاكتفاء بإمساك العصا من المنتصف، ودونما مراجعة جدية حتى اليوم، تعيد النجوم إلى مداراتها الأصلية، وتجد للعرب مكانا تحت شمس العالم الجديد.
*كاتب مصري