- ℃ 11 تركيا
- 21 نوفمبر 2024
عبد الحليم قنديل يكتب: إذا أردنا حوارا
عبد الحليم قنديل يكتب: إذا أردنا حوارا
- 16 يوليو 2022, 4:31:44 ص
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
ليست القصة في ترتيبات مؤتمر الحوار الوطني المزمع عقده في مصر، ولا في تشكيل مجاس أمنائه المعقول نسبيا، لكن الأهم يبقى في مضمون الحوار، وفي نتائجه المنتظرة، وفي مدى ملامستها للتحديات الأكثر إلحاحا للبلد وأهله.
الحوار كما هو معروف، جاء بدعوة رمضانية من الرئيس المصري عبدالفتاح السيسى، الذي تعهد باحترام ما تنتهي إليه المناقشات، وإن طلب استبعاد جماعات اليمين الديني من «الإخوان» وغيرهم، وعلى قاعدة اتهامات ووقائع تورطهم في أعمال إرهابية «قتالية»، وهو ما صادف حماسا عند أغلب المشاركين المدعوين، وإن أثار اعتراضات البعض، في ما يسمى معارضة الخارج، لكن ما يبدو ضروريا عاجلا، حتى قبل انطلاق جلسات الحوار رسميا، هو تفكيك الاحتقان السياسي، وتصفية ملف المحتجزين سياسيا وراء أسوار السجون.
وفي تقديرنا الذي نداوم على ذكره من سنوات بعيدة، شفاهة وتحريرا، وفي المنابر المصرية الداخلية قبل غيرها، أن موضوع المحتجزين، لا يصح أن ينتظر بدء الحوار وتفاوت وجهات النظر، وأن الملف إنساني قبل وبعد أي اعتبار آخر، وأنه معلق بقرار من الرئيس السيسي، باعتباره رأسا للدولة، وأن المطلوب ببساطة، ليس التعامل بالقطعة على طريقة «لجنة العفو الرئاسي»، التي جرت إعادة تنشيطها، ويؤدي عملها إلى الإفراج عن عشرات ومئات المحتجزين، بل لا بد عندنا من التعامل بالجملة، وإنهاء مأساة آلاف مؤلفة من المسجونين، وعلى أساس موضوعي صرف، يضع خطا فاصلا بين معنى السياسة ومعنى الإرهاب، وإصدار «قانون عفو شامل»، يملك الرئيس صلاحياته، وفرص تمريره السلس عبر البرلمان، ويخلى بموجبه سبيل المحتجزين كافة لأسباب سياسية وقضايا رأي، وأيا ما كانت ألوانهم الفكرية، ولا يستثنى منه سوى المتهمين والمدانين في عمليات عنف وإرهاب مباشر.
نعم، إخلاء سبيل المسجونين السياسيين بالجملة، هو نقطة البدء الواجبة، وهو الإجراء الطبيعي الممهد لأي حوار يحتاجه البلد، فليست القصة في موقف ما من فصائل مشاركة أو مستبعدة، بل في إنهاء معاناة طالت المحتجزين السياسيين وأسرهم، تقادمت عليها السنوات، ومن دون بارقة أمل في مغادرة ظلام السجون، ولا في نهاية تحقيقات ومحاكمات يجري استنساخها وتدويرها، ويتعلق الكثير منها بتهم غير منضبطة في توصيفها القانوني، من نوع تزكية التشاؤم، أو نشر أخبار كاذبة، أو الشروع في مظاهرات سلمية، أو كتابة رأي مخالف على وسائط التواصل الاجتماعي، أو غير ذلك مما يتنافى بداهة مع مبدأ إشاعة الحوار واحترام الدستور، ومع حظر الحبس في غالب قضايا النشر بنص الدستور، وتنقية قانون العقوبات، وإلغاء التمديد اللانهائي لفترات الحبس الاحتياطي، من دون محاكمات، وضبط تعريف «الإرهاب» في قانون مكافحته، وفي إضافات مغلظة جرت بعد وقف الرئيس العمل بحالة الطوارئ قبل شهور، وإعلان اقتلاع الشتلة الرئيسية للإرهاب في سيناء بالذات، وبتضحيات جليلة، سقط فيها نحو الثلاثة آلاف ونصف الألف من الشهداء العسكريين، ومن مبادئ السياسة الصحيحة، أن يرتبط كل إجراء بوقته، وأن يكون لدى المعنيين حس التصحيح الذاتي، والتفكيك المنتظم لظواهر الاحتقان عموما، وإخلاء سبيل المحتجزين السياسيين بمبادرة رئاسية مطلوبة، يتيح مناخا مواتيا لإجراء مراجعات وإصلاحات تشريعية، يلزم أن تعطى لها الأولوية الملزمة في مجلس النواب الموجود على علاته وتواضع تمثيله الشعبي.
إخلاء سبيل المسجونين السياسيين بالجملة، هو نقطة البدء الواجبة، وهو الإجراء
الطبيعي الممهد لأي حوار يحتاجه البلد
ونظن أن مراجعة تركيب البرلمان نفسه، باتت من واجبات الوقت، إن كنا نريد إعطاء دفعة لإحياء السياسة من مواتها الظاهر، صحيح أن قصة موت السياسة في مصر قديمة، وعمرها نحو خمسة عقود، وتوالت انهياراتها عقب نصر أكتوبر 1973 للمفارقة، وانفتاح «السداح مداح»، وإحلال الركام محل النظام، وخذلان السياسة لنصر السلاح، والانزلاق إلى هزيمة حضارية شاملة، وتحالف حكم الرئيس السادات مع جماعات اليمين الديني في حملة تكفير شاملة لمواريث عبدالناصر، وتوالي خطوات تحطيم تجربة النهوض المصري، وخلع ركائزها، ودفع سواد المصريين إلى الهجرتين، الهجرة في التاريخ بظاهرة العودة الدينية العشوائية، والهجرة في الجغرافيا بحثا عن الرزق في ممالك الصحراء، وهو ما قاد إلى طمس ملامح المجتمع المصري، وتلاشي وضوح طبقاته وفئاته، والعصف بجوانب الاستنارة فيه، وتحوله إلى نوع من «الغبار البشري» التائه، وتتابع دورات موت السياسة بمعنى تمايز المصالح والاتجاهات والبرامج، وسيادة وضع هجين شاذ، تدهورت معه مكانة مصر حتى في داخلها، واعتلى كراسي السلطة تيار الفساد وشفط الثروة أو «اليمين الثروي»، من «القطط السمان» إلى مليارديرات الخصخصة ورأسمالية المحاسيب، بينما صعد إلى كراسي الشارع تيار اليمين الديني المنتفخ بالفتاوى والفلوس ومليارديرا ت اللحى المصنوعة، وتحول النظام الجمهوري من داخله إلى ملكية تمديد وتوريث عائلي، وهو ما أدى إلى ردة فعل احتجاجية عارمة في العقد الأول من القرن الجاري، سبقت إليها أصوات «حركة كفاية» وأخواتها، وانتهت إلى ثورة الثلاثين شهرا، من ثورة 25 يناير 2011 إلى ثورة 30 يونيو 2013، كانت جموعها المليونية الزاحفة تعرف ما لا تريد، وإن غاب عنها ما تريد بالضبط، فهي لا تريد حكم جماعة الفساد ولا تحكم جماعة الإرهاب، لكن طلائع الاحتجاج السياسية بدت أضعف تكوينا من دفقة الفوران الاحتجاجي، وتنقصها القدرة على نقل الثورة من الميدان إلى البرلمان، بما جعل حدث الثورة ذاته عرضة للتلاعب والاختطاف، وبديهي أن إحياء السياسة يلزمه إحياء المجتمع، وبناء نسق اقتصادي إنتاجي صناعي زراعي تقني، يسترد للمجتمع حيويته، فالمجتمع هو الذي يمد السياسة بماء الحياة، وهنا قد تبدو الإجراءات التشريعية مفيدة مرحليا، وبالذات في اختيار النظام الانتخابي، واجتذاب الناس للثقة في صناديق الانتخابات، وقد بدا ظاهرا للعيان، أن اختيار نظام القوائم المطلقة ومزجه بالنظام الفردي، أدى إلى مضاعفة ظواهر موت السياسة ونفور الناس، وضعف الطابع التمثيلي للبرلمانات، وتراجع نسب التصويت في أوقات الانتخابات البرلمانية، وإلى نحو عشرين في المئة أو تزيد قليلا بحسب الأرقام الرسمية، ولم يعد من بديل، إن أردنا غرس معنى السياسة، إلا أن تتحول نظم الانتخابات إلى اختيار نظام القوائم غير النسبية المشروطة، فهي وحدها التي تحفظ لكل صوت مقابله التمثيلي، وهي وحدها الكفيلة ببعث بعض الحياة في الأحزاب المتكلسة، ودفعها بالمصالح الانتخابية إلى إنشاء تكتلات سياسية متنوعة البرامج، تقيم رؤوس جسور حية بدلا من موات الأحزاب وصوريتها الهزلية، وتتيح للمجتمع أن يعبر عن نفسه بنفسه، وبعيدا عن ضغوط الوصاية الأمنية وغيرها، والدستور المصري القائم، يعطي للمشرعين حق اختيار النظام الانتخابي المناسب، ولو صدقت النوايا وصحت، فقد يمكن البدء بإجراء الانتخابات المحلية بنظام القوائم النسبية غير المشروطة، وكان توقف إجراء الانتخابات المحلية في مصر منذ 15 سنة مضت، والدستور يلزم باختيار ربع المقاعد من الشباب وربع آخر من النساء في المجالس المحلية على تصاعد درجاتها، وفيها ما يزيد اليوم على ستين ألف مقعد خال، من شأن شغلها، أن يرسم خرائط مفصلة لأشواق المجتمع المصري وأحلامه المكبوتة.
وفي السطور أعلاه، بدا التركيز أكثر على الملف السياسي، وإن كانت تحديات مصر الراهنة أوسع نطاقا بكثير، وفي ظن كاتب السطور، أن إنجازات هائلة توالت في السنوات الأخيرة، لكن الإنجاز المقدر الذي تحقق حتى تاريخه، يقابله انحياز مقلوب لغير صالح الفقراء والطبقات التي كانت وسطى، جعل «مصر الغاطسة» بتعبير الراحل الدكتور رشدي سعيد، هي مصر الأغلبية بنسبة تجاوزت التسعين في المئة من السكان، وقد دفع هؤلاء أثمانا باهظة لبرامج ما يسمى «الإصلاح الاقتصادي»، ويدفعون المزيد مع العودة لبرامج «الخصخصة» و»التصفية» وبيع الأصول، الذي لا تستفيد منه سوى القلة المترفة في «مصر الطافية» المتحكمة، بينما الأغلبية في «مصر الغاطسة»، يعانون بطولة البقاء على قيد الحياة، وهي بطولة مرهقة مستنزفة، وصارت شبه مستحيلة، مع تصاعد موجات التضخم والغلاء، وتراكم ديون الاقتصاد، خصوصا مع جوائح «كورونا» وعواصف الأزمة الروسية الأوكرانية، وتضاعف فواتير استيراد القمح والزيوت والبترول، وهو ما يلزم في أي حوار، وإضافة للملف السياسي طبعا، بإعطاء الأولوية لمراجعة الاختيارات الكبرى، وبالذات في ملفات استكمال استقلال القرار المصري، ومنح الأولوية المطلقة للتصنيع الشامل، ورد الاعتبار لمبادئ واعتبارات العدالة الاجتماعية، وكنس جماعات امبراطورية الفساد، التي لا تزال تسرق ثروات البلد وأصواته، مع فسح المجال العام، وإطلاق حريات الإبداع والرأى والتعبير والإعلام، وفتح مسام مصر المسدودة.
كاتب مصري