عبد الحليم قنديل يكتب: توابع زلزال اردوغان

profile
  • clock 3 يونيو 2023, 6:31:29 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

ربما لا يجادل عاقل فى امتياز الانتخابات التركية الأخيرة، وبالذات في الانتخابات الرئاسية، فقد وصلت نسبة المشاركة في التصويت في الجولة الأولى إلى 87% من الناخبين، وتراجعت قليلا في الجولة الثانية إلى 83%، وكلها نسب تصويت مهولة. وفاز الرئيس «رجب طيب اردوغان» بزائد 2% من الأصوات فوق حاجز النصف، بينما خسر مرشح المعارضة «كمال كليشتدار أوغلو» بناقص 2% من الأصوات تحت الحاجز نفسه، وهو ما يبرز استقطابا محتدما في المجتمع التركي، محوره شخص «اردوغان» نفسه، وبأكثر من خرائط الخلاف السياسية والثقافية والاقتصادية، على نحو ما بدا في دعم القومي المتطرف «سنان أوغان» لاردوغان في الجولة الثانية، في حين أيد رفيقه القومي الأكثر تطرفا «أوميت أوزداغ» مرشح المعارضة «أوغلو».
ومن الخطأ قراءة الانتخابات التركية بخلفيات عربية، فالرئيس «اردوغان»، الذي حكم تركيا عشرين سنة، يكملها إلى ربع قرن بعد فوزه الأخير، ليس «إسلاميا» ولا «إخوانيا» بمعاني الطبعات العربية. صحيح أنه من جذور إسلامية محافظة في السياسة التركية، وكان من تلاميذ المهندس «نجم الدين أربكان»، الذي لاحقته مواريث «كمال أتاتورك»، وألغت أحزابه الواحد تلو الآخر، لكن «أربكان» كان براغماتيا بما يكفي، وشارك في حكومات علمانية، وإلى أن أصبح زمن حزب «الرفاه» رئيسا للوزراء بالمناصفة مع اليمينية العلمانية «تانسو تشيلر»، التي اعتزلت السياسة فيما بعد، وأعربت عن دعمها لاردوغان في الانتخابات الأخيرة، في حين لم يستمر «أربكان» طويلا في رئاسة الحكومة التركية، وجرى انقلاب ناعم عليه، حل حزبه «الرفاه»، وأنشأ بعده حزب «السعادة»، الذي رفض «اردوغان» ورفاقه الشبان وقتها الانضمام إليه، وخرجوا على وصايا الأب، وأسسوا «حزب العدالة والتنمية»، المتخفف من إرث «أربكان»، والمنفتح على ضم فئات أوسع من اليمين القومي التركي ورجال الأعمال. وبدا في صيغة «محافظة»، لا ترفع شعار تطبيق الشريعة، بل تكتفي بفك القيود على ارتداء النساء للحجاب، مع ترك الحياة التركية على حالها «العلماني» المتفلت، مع دمج الحريات الدينية في بنية علمانية «اردوغان» على الطريقة «الأنغلوساكسونية»، الألطف من علمانية «الفرانكوفون» المعادية على نحو ثأري للأديان.

من الخطأ قراءة الانتخابات التركية بخلفيات عربية، فالرئيس اردوغان، الذي حكم تركيا عشرين سنة، يكملها إلى ربع قرن بعد فوزه الأخير، ليس «إسلاميا» ولا «إخوانيا» بمعاني الطبعات العربية

وفي حين هجر «اردوغان» طريق أستاذه «أربكان»، الذي نعته بأوصاف قاسية قبل رحيله، لم تؤثر كثيرا في مسيرة صعود الابن، الذي اتجه لإضفاء صفة «عثمانية» قومية على عمله، ربما مواصلة لخط سلفه «تورغوت أوزال»، الذي مات في ظروف غامضة، وكان جوهر سعيه «العثماني»، أن يحيي جذور النزعة التركية في بلدان آسيا الوسطى، وهو ما واصله «اردوغان»، الذي كان عربون نجاحه في إنهاض الاقتصاد، وجعل تركيا واحدة من أكبر عشرين اقتصادا في العالم. وأضاف لسعيه «العثماني» امتدادا تركيا إلى الجنوب في العالم العربي، وتعامل ببراغماتية اقتصادية مع النظم العربية الحاكمة، وحين جرت ثورات على بعضها، بدت له فرص التوسع في النفوذ الأكبر ممكنة، في أوائل العقد الثاني من حكمه، مع ما بدا من صعود لجماعات «إخوانية» إلى كراسي الحكم، ثم كان ما كان، وأدى إلى ذبول ظواهر الحكم «الإخواني»، مما عانده «اردوغان» لسنوات قطيعة، عاد بعدها الرجل برشاقة إلى سيرته الأولى، وأعاد وصل ما انقطع مع خصومه، وانتهج سياسته الأولى ذاتها، وهو ما بدا من تطورات السنوات الأخيرة، وتحسن علاقاته تباعا مع نظم الخليج ومصر وسوريا وغيرها، فالأساس في حركته، هو المعنى القومي التركي المحافظ، وهو ما يفسر طبيعة تحالفاته في الداخل، وتكوين «تحالف الجمهور» الذي يقوده، والمكون أساسا ـ إضافة لحزبه ـ من «الحركة القومية» و»حزب الرفاه الجديد» و»حزب هدى بار» الكردي.
وقد تراجع حزب اردوغان قليلا في انتخابات البرلمان الأخيرة، وحصل على 267 مقعدا مقابل 295 مقعدا كانت له، لكن مقاعد الحلفاء ضمنت الأغلبية بواقع 325 مقعدا، في برلمان مكون من 600 عضو، في حين حصلت طاولة المعارضة السداسية على 213 مقعدا، قد تضاف إليها مقاعد تحالف «العمل والحرية» البالغة 66 مقعدا، والأخير يقوده حزب «الشعوب الديمقراطي» الكردي، الذي جرى حظره بعد سجن زعيمه «صلاح الدين دميرطاش»، وجرى استبدال الاسم إلى «حزب اليسار الأخضر»، وكان الحزب الكردي الرئيسي وراء دفع أنصاره لدعم مرشح المعارضة «كمال أوغلو»، مع انخفاض الدعم الكردي في جولة الانتخابات الثانية، ربما غضبا من لجوء «أوغلو» لطلب دعم القوميين الأتراك المتطرفين.
وفى حين بدا تحالف «اردوغان» أكثر اتساقا في تكوينه، وجامعا بين الاتجاه الثقافي المحافظ والاتجاه القومي، فقد بدا تحالف «أوغلو» السداسي أو «السباعي» خليطا غير مريح، ومفرطا في الانتهازية، فقد جمع العلمانيين المتطرفين من «حزب الشعب الجمهوري» الأتاتوركي وحزب «ميرال أكشنار» القومي والحزب الكردي، إضافة لأحزاب محافظة من نوع «حزب السعادة» وحزبي «أحمد داود أوغلو» و»على بابا جان»، والأخيران كانا قد انشقا عن حزب «اردوغان»، وإن احتفظا بالسمت المحافظ نسبيا، وبدا أغلب سعيهما «البراغماتي» وراء الحصول على مقاعد في البرلمان، وتخطى العتبة الانتخابية من تحت غطاء حزب «الشعب الجمهوري»، الذي أعطى لهما ـ ولحزب السعادة «الإسلامى» ـ من حصته البرلمانية الكثير، وكانت الحسبة في عمومها خاسرة، لم يحقق فيها «أوغلو» نصرا، سوى أنه دفع «اردوغان» لخوض جولة إعادة للمرة الأولى في تاريخ انتخابات الرئاسة التركية، وإن بدت السابقة مفيدة دعائيا لاردوغان، ومضعفة لاتهامه بالديكتاتورية والاستبداد وسحق المعارضين، فقد لامس خصمه «أوغلو» حاجز النصف أو كاد، برغم كونه متقدما في السن على «اردوغان»، وعديم الجاذبية الشخصية تماما، ومن الطائفة «العلوية» الأصغر في مجتمع «سني» بغالبه، وربما لو كان المرشح المعارض من نوع «أكرم إمام أوغلو» عمدة اسطنبول، الأكثر شبابا وكاريزمية، لتغيرت النتائج، مع وفود أكثر من خمسة ملايين شاب، بعد خفض سن التصويت إلى 18 سنة، والمزاج الغالب بين المصوتين الجدد، هو رفض اردوغان وسياسته «المحافظة»، وقد بدا لهؤلاء تأثير محسوس نسبيا في الانتخابات الأخيرة، ربما يتزايد في انتخابات البلديات المقررة بعد سنة، يحلم فيها «اردوغان» باستعادة بلدية «اسطنبول»، التي بدأ منها رحلة صعوده السياسي، وأطلق تصريحه الشهير «من يفوز في اسطنبول يحكم تركيا».
وقد تكون المعضلات الداخلية متضخمة أمام «اردوغان»، وأولها وضع الاقتصاد، الذي يترنح بشدة ماليا ونقديا، وإن كان طابعه الإنتاجي صامدا، فوق الامتياز التركي المستحدث في الصناعات العسكرية والتكنولوجية، وهذه وغيرها من شواغل الشعب التركي دون غيره، لكن آثار ما جرى على السياسة الإقليمية والدولية، هي ما يشغل بال غير الأتراك، وقد تجرى عليها تغيرات ملموسة في قابل الأيام، من نوع اندفاع أكبر للحكومة التركية للتطبيع مع النظام السوري، وربما نهاية السنوات السعيدة لملايين اللاجئين السوريين في تركيا، وقد كان السباق إلى هدف طرد اللاجئين عموما، والسوريين منهم بالذات، هو القاسم المشترك بين التحالفات المتصارعة انتخابيا، مع خلاف في التفاصيل، وطرق التخلص من اللاجئين، وما من فارق عملي بين «أوغان» الذي أيّد «اردوغان»، و»أوزداغ» الذي دعم منافسه «أوغلو»، كلاهما يطلب طرد السوريين فورا، وفي غضون سنة على الأكثر، وهذا هو الوجه الأخطر للاتفاقات الضمنية.
وقد نشهد في الفترة المقبلة للأسف تزايدا فى حوادث العنف «العنصري» تجاه السوريين المقيمين في تركيا إضافة لتوقع ضعف التجاوب التركي مع ائتلافات المعارضة السورية إياها، وهو ما قد يمتد إلى سواها من بقايا «معارضات» عربية أخرى، مع التحسن المطرد في العلاقات السياسية والاقتصادية مع نظم المنطقة، وبالذات في العلاقات المصرية ـ التركية، وفي العلاقات طبعا مع دول الخليج الأغنى بفوائض البترول المالية، و»تصفير» مشاكل كثيرة، ليس من بينها ـ غالبا ـ تواصل المطاردات التركية المسلحة لجماعات الأكراد في شمال العراق وسوريا، فوق احتمال تصاعد نبرة العداء لأمريكا والغرب عموما في تركيا، برغم أنها عضو قديم بالغ الأهمية في حلف شمال الأطلنطي «الناتو». وقد كان الغرب يأمل بوضوح في إزاحة «اردوغان»، وجاء فوزه في مقام الهزيمة لأمريكا، ولإدارة «جو بايدن» بالذات، ربما لرفضه الانخراط في سلاسل العقوبات ضد روسيا بسبب حرب أوكرانيا، وانفتاحه على علاقات «حارة» مع الرئيس الروسي «فلاديمير بوتين»، ودعمه لاتفاقات الحبوب وخطوط الغاز الروسي إلى تركيا، وقفزات التبادل التجاري والاقتصادي والعسكري مع موسكو، وهو ما يثير حنق أمريكا والغرب على الشريك المخالف.


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
كلمات دليلية
التعليقات (0)