- ℃ 11 تركيا
- 21 نوفمبر 2024
عبد الحليم قنديل يكتب: حرب الأقنعة في النيجر
عبد الحليم قنديل يكتب: حرب الأقنعة في النيجر
- 12 أغسطس 2023, 5:32:06 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
ليس صحيحا أن الغرب يدافع عن الديمقراطية في «النيجر»، ولا عن الرئيس المعزول «محمد بازوم»، الغرب يدافع عن مصالحه ومطامعه الاستراتيجية والاقتصادية والعسكرية، وفي أفريقيا المعاصرة، جرى أكثر من مئة انقلاب، وكان الغرب يسكت عن كل انقلاب يحقق أو يتكيف مع رغباته، ويفتح النار وأسطوانات الديمقراطية المشروخة إن لم يكن كذلك، ويشهر أسلحة العقوبات والتدخلات اللينة والخشنة وصولا إلى شن الحروب وتفكيك الدول.
ويقال إن القمة الطارئة لدول المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا «ايكواس» أعدت خطة تدخل عسكرى لردع انقلاب «النيجر»، وأنها تحظى بدعم غربي، وإن كانت التشققات الغربية تتزايد، على نحو ما بدا في مواقف إيطاليا وأسبانيا وغيرها، وهي ترفض التدخل العسكري تخوفا من تدفقات هجرة غير نظامية هائلة إلى الشواطئ الأوروبية، تعد «النيجر» واحدة من أهم مصادرها، بسبب الفقر الرهيب، والاستنزاف الغربي طويل المدى لموارد «النيجر» التعدينية، وأهمها «اليورانيوم» و»الذهب»، فى بلد يصل عدد سكانه إلى نحو 27 مليونا، وبامتداد جغرافى حبيس، تصل مساحته إلى مليون و 270 ألف كيلومتر مربع، ويعيش القسم الأكبر من سكانه جنوبا حول روافد «نهر النيجر»، بينما تتصارع القبائل والمجموعات العرقية في بلد غالبيته من المسلمين، منهم ما يفوق العشرة في المئة من أصول عربية، تنشط بينهم مجموعات إرهاب، تغطي سعيها لاقتناص فتات الحياة الشحيحة من وراء أقنعة دينية «داعشية» و»قاعدية»، تحركها دوائر مخابرات غربية عند الحاجة، وعلى طريقة ما يحدث اليوم في «النيجر».
لا يريد الغرب، ولا تريد واشنطن بالذات، أن تعترف بأن العالم يتغير، وأن دنيا تعدد الأقطاب زاحفة، وأصداء التحول الجاري تظهر في أفريقيا
وفي حين تتحمس فرنسا أكثر للتدخل العسكري، بدعوى إنقاذ حليفها وتابعها «بازوم»، ودرءا لقرارات «المجلس العسكري» بإلغاء الاتفاقات الأمنية والعسكرية المعقودة مع «باريس»، وهو ما يعني لدى تحققه، أن فرنسا تخسر وجودها وامتيازاتها المهولة في مستعمرتها السابقة، تماما كما جرى قبلها في «مالى» و»بوركينا فاسو»، في حين لا تبدو «واشنطن» متحمسة علنا لأولويات فرنسا، التي تملك قاعدة عسكرية مهددة في شرق «النيجر»، قوامها نحو 1500 جندي، بينما لأمريكا قاعدتان للطائرات المسيّرة والاستطلاع، وتعتبر وجودها في «النيجر» حيويا لعمل القوات الأمريكية في أفريقيا «أفريكوم». وربما يفسر ذلك امتناع واشنطن حتى تاريخه، وتحفظها في وصف حكومة الجنرال «عبد الرحمن تياني» بالانقلاب العسكري، وتفضيلها سياسة اللعب على الحبال، فهي تضع قدما في ملعب التفاهم مع الجنرالات، وتضع القدم الأخرى في حفز وتخطيط ودعم خطة تدخل «ايكواس» عسكريا، وبهدف «خض ورج» مواقف الحكام الجدد في «نيامى»، وإن لم يحقق سعي واشنطن للتفاهم الدبلوماسى تقدما ظاهرا إلى اليوم، فقد عوملت وكيلة الخارجية الأمريكية «فيكتوريا نولاند» بقدر ملحوظ من الازدراء، وقالت إن مساعيها لم تنجح للقاء الرئيس المحتجز، وإن قائد الانقلاب امتنع عن لقائها في زيارتها الاستكشافية الأخيرة، بينما التصريحات الرسمية للرئيس الأمريكي «جو بايدن» ولوزير خارجيته «أنتوني بلينكن»، تواصل مراوغاتها المنافقة عن دعم عودة الرئيس المعزول، والسعي للضغط على قادة الانقلاب بحثا عن حل دبلوماسي.
ويلفت النظر أن واشنطن التي تحرص على الزج باسم روسيا في كل أزمة، تميل في أزمة «النيجر»، إلى تبرئة ذمة روسيا و»فاغنر»، وتقطع علنا بغياب أي دور روسي في الانقلاب وما بعده، برغم أن مظاهر الاحتفاء بروسيا وبأعلامها طاغية غلابة في احتفالات مئات آلاف «النيجريين» بالقادة الجدد، وبطلبهم دعم روسيا وجماعة «فاغنر».
وما من تفسير للمفارقة سوى أن واشنطن تتحسب لاحتمالات فشل التدخل العسكري إنْ حدث، وتريد ترك نافذة للتفاهم مع حكم الجنرالات، ومع حكومة «على الأمين زين» رئيس الوزراء الجديد، والإبقاء على صلات تمكنها في وقت لاحق من تدبير الانقلاب على الانقلاب الحالي، يؤمن وجود قواعدها العسكرية، واستمرار التلاعب بحجة وأولوية «مكافحة» الإرهاب فى أفريقيا، بينما هي التى تدعم وجود ونشاط جماعات الإرهاب، ومن طرف خفي وظاهر، فقد تحولت دول حزام الساحل الأفريقي، وبينها «النيجر»، إلى أكبر ملاعب الإرهاب في العالم، وفي هذه الدول 43% من ضحايا الإرهاب في الدنيا كلها.
وقد أدى تدخل حلف «الناتو» عسكريا في ليبيا إلى تحطيم دولتها، وإلى جعلها معبرا ميسرا لجماعات الإرهاب إلى قلب دول الساحل الأفريقي، وأسوأ آثار التدخل العسكري، إن حدث، في «النيجر»، تحطيم ما تبقى من تماسك دولتها، ومنح جماعات الإرهاب فرص ازدهار مضافة، تبرر للغرب عموما، ولواشنطن بالذات، أن تواصل أحاديثها الملتوية عن مكافحة الإرهاب، ونشر «ديمقراطيات» التفكيك اللانهائي، وعلى نحو ما جرى في كل بلد دخلته أمريكا في العقود الثلاثة السابقة، فالسياسة الأمريكية معروفة بازدواج المعايير والوجوه، وما تعلنه واشنطن رسميا شيء، بينما ما تفعله أجهزة مخابراتها في مقلب آخر، تنكر علنا وجود دور روسي في «النيجر»، بينما تستحضر بأفعالها أشباح روسيا وعفاريت «فاغنر» إلى قلب الصورة، فقد لا يكون لروسيا بالفعل دور في التحضير لانقلاب «النيجر»، لكن الدور الروسي حاضر ويزيد في دعم الحكام الجدد، تماما كما في جهات عديدة من أفريقيا، تضيق بالعنت والاستعباد الغربي والأمريكي، وتتصور أن مد الصلات مع روسيا ـ والصين ـ قد يكون داعما لها ومنقذا.
وبالجملة، لا يريد الغرب، ولا تريد واشنطن بالذات، أن تعترف بأن العالم يتغير، وأن دنيا تعدد الأقطاب زاحفة، وأصداء التحول الجاري تظهر في أفريقيا، وتبدل معادلات تقادمت عليها العهود والعقود. وبرغم أن واشنطن تحاول أحيانا تدارك الموقف، وعقد قمم «أمريكية ـ أفريقية» في السنوات الأخيرة، وتقديم وعود بمعونات واستثمارات وتحالفات أمنية، فإنها تفعل ذلك وغيره بعد فوات الأوان على ما يبدو، فقد تضخم وتوسع الدور الصيني في أفريقيا، وإلى حدود لا تستطيع واشنطن مجاراتها، ليس لأنها لا تملك الموارد هي وحلفاؤها الأوربيون الأقربون، بل لأن النظرة الغربية لأفريقيا، لم تغادر أبدا مواقعها العنصرية الاستعمارية الاستعبادية، برغم محاولات تجميل في تغيير اللهجات والاقترابات، فما من فارق جوهري في العمق بين «رسالة الرجل الأبيض»، التي كانت عنوانا لمئات سنوات الاستعمار «الكولونيالي» القديم، وبين رسالة «الديمقراطية السعيدة»، التي يتستر خلفها الاستعباد الغربي اليوم، فما من فرصة ولا إغراء لحكم «ديمقراطي» المظاهر، في أوطان منهوبة الموارد معدومة الاستقلال، وفي دول بسلطات مركزية هشة، ولدى شعوب يأكلها الفقر، وتسودها المذلة الداهسة لكرامة الناس، إضافة لحروب الإرهاب والنزاعات الأهلية والعرقية، والنخب الأفريقية بأجيالها الجديدة، تريد أن تشعر أولا بوجودها وكرامتها الإنسانية، وتريد مصيرا آخر، غير الموت غرقا في رحلة الهروب إلى الشمال، وكثيرون بينهم، صاروا يعلقون الجرس في رقبة القط، ويدركون أن الغرب الذي يخدعهم بوعود فارغة، هو اللاعب الأول فى مآسي البؤس الأفريقي، وهم مستعدون للتجاوب مع أي صوت كاره للغرب، حتى لو كانت أصوات الانقلابات والجنرالات، وهو ما يفسر اندفاع الحماس الشعبي الظاهر لانقلاب «النيجر» وما قبله، ومعه الحماس لاستجلاب الروس وكسب مودة الصينيين، وهو اتجاه مرشح للتنامي، حتى لو افترضنا جدلا إمكانية نجاح التدخل العسكري بإزاحة جنرالات «النيجر» الجدد، فالشعور الجارف بالعداء للغرب سيظل حيا، وربما يوالي انقلاباته في أفريقيا جنوب الصحراء، فما بالك لو حدث ما هو وارد جدا، وجرى العدول عن التدخل العسكري من وراء أقنعة أفريقية، أو جرت هزيمته مبكرا، فقد تملك نيجيريا و»ايكواسها» قوة عسكرية كبيرة قياسا إلى «النيجر»، وجيش نيجيريا هو رابع أقوى جيش في أفريقيا، لكنه لا يملك الفرصة لفوز مؤكد ومستقر في «النيجر» المجاورة المحاذية بحدود طولها نحو 1500 كيلومتر مربع، عدا أن أصوات القلق والتخوف والرفض والضيق تتصاعد في «نيجيريا» ذاتها، ودفعت مؤسسات برلمانية ـ كمجلس الشيوخ ـ إلى المطالبة بكف اليد والحيلولة دون الخيار العسكري، فلم تجرؤ «ايكواس» على تدخل مماثل في أحوال كثيرة سابقة، وتدخلها اليتيم في «غامبيا» الصغيرة جدا عام 2017، كان الاستثناء الذي يؤكد القاعدة، ولم تحدث وقتها معارك تذكر، وقبل الرئيس «يحيى جامع» التنحي عن الحكم بعد خسارته الانتخابات، في سيناريو مختلف عن الوضع اليوم في «النيجر»، التى تعلن استعدادها للحرب مع الغزاة، ويصمم قادتها الجدد على إجلاء القواعد الأجنبية، ولا يملك شعبها شيئا يخسره، إن هو حارب المعتدين على كرامة بلاده المهانة.