- ℃ 11 تركيا
- 21 نوفمبر 2024
عبد الحليم قنديل يكتب: حلف الشرق الجديد :هل سيتغير العالم؟
عبد الحليم قنديل يكتب: حلف الشرق الجديد :هل سيتغير العالم؟
- 25 مارس 2023, 3:02:50 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
محادثة قصيرة خاطفة جرت على باب قصر الكرملين، اهتمت بها وسائل الإعلام الغربية، واعتبرتها أهم من البيان الختامي لمباحثات الرئيس الصيني شي جين بينج مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كان الأخير يودع ضيفه الكبير، الذي بادر بوتين بمصافحة دافئة، وقال له عبر المترجم «التغيير قادم»، ولم يحدث منذ 100 عام، سنفعلها معا «، وردّ عليه بوتين «أوافق»، وأردف شي جين بينج» اعتن بنفسك يا صديقي العزيز»، ثم تمنى بوتين «رحلة سعيدة آمنة» لصديقه الأعز.
بدت الكلمات العفوية مصاغة بعناية، ومقصودة تماما، كما بدا تسجيلها وإشاعتها متعمدا، وفي «فيديو» متاح للكافة، حمل معنى وغاية حلف الشرق الجديد، الراغب في تفكيك الهيمنة الأمريكية على مصائر العالم، وبصورة أبعد من ترتيبات موقوتة، ومن عشر اتفاقات كبرى، جرى توقيعها في زيارة اليومين، وشملت ـ كما أعلن ـ مجالات الطاقة والاقتصاد والتعاون العسكري التقني، وأعمق من مناقشات مفصلة حول ما تسمى «المبادرة الصينية» للسلام في أوكرانيا، التي قيل إنها كانت نقطة رئيسية في مداولات اجتماع مغلق بين شي وبوتين، لعله أطول اجتماع من نوعه، فقد استمر لقرابة الأربع ساعات ونصف الساعة، لا يعقل أنها دارت كلها عن تفاصيل المبادرة الصينية، التي أعلنت بنقاطها المتعددة قبل أسابيع، وصدرت عليها تعليقات روسية مرحبة عموما، وعلق عليها بوتين باقتضاب ظاهر، وقال خلال الزيارة، إنه يتعامل معها باهتمام واحترام، وامتدح ما قال إنه «الكثير من بنودها»، ومن دون أن يعطيها موافقته الكاملة، ربما خشية إساءة التفسير لبند المبادرة الأول، الذي يركز على مبدأ السيادة واحترام وحدة الأراضي وميثاق الأمم المتحدة، وهو ما قد يعني ـ بتفسير شائع ـ دعوة الصين لروسيا إلى مغادرة الأراضي الأوكرانية، وإن كان للروس تفسير آخر، يعلي مبدأ «حق تقرير المصير» الوارد أيضا في ميثاق الأمم المتحدة، وتعتبره موسكو مدخلا لتأكيد «شرعية» حقها في ضم الأقاليم الخمسة، التي ضمتها بالقوة، بعد استفتاءات شعبية لأهلها، سواء في الأقاليم الأربعة (دونيتسك ولوغانسك وزاباروجيا وخيرسون)، التي جرت السيطرة عليها في الحملة العسكرية الحالية، أو إقليم شبه جزيرة «القرم» ومدينة سيفاستبول، التي جرى ضمها لروسيا قبل تسعة أعوام، وحرص بوتين على زيارتها، ثم زيارة مدينة ماريوبول في إقليم دونيتسك، عشية استقباله الحافل للرئيس الصيني في موسكو، وعلى الرغم من أن بكين لم توافق علنا على الضم الروسي القديم أو الجديد، إلا أنها لا تتغاضى عن أولويات الروس في أي اتفاق سلام وارد، وتطرح في مبادرتها مبادئ أكثر مناسبة للروس، من نوع إلغاء العقوبات الأحادية الجانب على روسيا، وضمان توريد الحبوب وسلاسل التجارة الدولية، وتعتبر أن مفتاح النقاش في الموضوعات كلها، هو البدء باتفاق لوقف إطلاق النار، تبدأ بعده المفاوضات، من دون شروط مسبقة، وهذا هو جوهر الموقف الروسي.
للصين وروسيا مصلحة مباشرة في ردع أمريكا، وتحديها مع أتباعها في أوروبا والمحيط الهادئ، ما يجعل شراكة الدولتين ترتقى لمقام الحلف العسكري غير المعلن
والصين تعرف طبعا حقيقة الأولويات الروسية، وإن كانت تمنح نفسها، وباتفاق مع موسكو غالبا، قدرا من حرية الحركة، يمكنها من المناورة، ومد جسور تواصل مع أوكرانيا، التي قد يجرى رئيسها فلوديمير زيلينسكي لقاء عبر الفيديو مع الرئيس الصيني، طالب به علنا الرئيس الأمريكي جو بايدن، الذي يستعد هو الآخر للقاء مماثل مع الرئيس شي، الذي تبدو صورته كصانع سلام دولي، أكثر مصداقية بكثير من الأطراف الغربية الغارقة حتى آذانها في حرب أوكرانيا، والمنهمكة في مطاردة وهم إمكانية هزيمة روسيا في الحرب، ودونما أمل أكيد في تحقيق هدف استنزاف موسكو، أو شل الآلة العسكرية الروسية، التي لم تدخل الحرب بعد بأسلحتها الأكثر تطورا، وإن كانت حققت بالأسلحة السوفييتية المتقادمة تقدما عسكريا ظاهرا، تسعى موسكو لتحويله إلى حسم عسكري باتر في الشهور المقبلة، يصل بقواتها إلى إكمال الطوق في الحد الأدنى عند نهر دنيبرو، كمانع مائي طبيعي وكحدود دائمة، مع ترك الباب مواربا لإكمال الحملة العسكرية إلى أوديسا، أو حتى إلى حدود بولندا، وهو ما يعني أن موسكو تواصل حربها بنفس مستريح، وقد لا تتأثر حملتها بوقف إطلاق نار مؤقت أو مستديم، مما تسعى إليه بكين، ويعين موسكو على فرض الأمر الواقع بالتدريج أو بالجملة، مع إنهاء وهم عزل موسكو، الذي سعت إليه واشنطن، وتتهم الصين بنية دعم موسكو عسكريا، وهو ما لم يقم عليه دليل ظاهر إلى اليوم، وإن كان التعاون العسكري التقني بين العسكريتين الروسية والصينية واسع الآفاق متسع المجالات وتاريخي الطابع. والمعروف أن الجيش الروسي في المكانة الثانية عالميا بعد الجيش الأمريكي، وأن الصين نظريا في المرتبة الثالثة، وإن كانت أمريكا الأكثر إنفاقا بما لا يقاس، ولها مئات القواعد العسكرية حول الدنيا، بينما الأسطول العسكري البحري الصيني في الصدارة عالميا، يليه الأسطول الروسي، فيما تتمتع القوة النووية والصاروخية الروسية بالغلبة على كل ما عداها، وكما تحارب أمريكا روسيا في أوكرانيا، فإنها تخطط لمحاربة الصين في تايوان وفي بحر الصين، وللطرفين الصيني والروسي مصلحة مباشرة في ردع أمريكا، وفي تحديها مع أتباعها في أوروبا والمحيط الهادئ، وهو ما يجعل شراكة الصين مع روسيا ترتقى عمليا إلى مقام الحلف العسكري غير المعلن.
والمعنى الأخير في ما نظن، كان المجرى الرئيسي لاتفاق شي وبوتين، في اللقاء المغلق الذي جمعهما على مدى الأربع ساعات ونصف الساعة في قصر الكرملين وعبرت عنه رمزيا محادثة الثواني الأخيرة على باب الوداع، فنحن بصدد تغيير العالم حقا، وليس مجرد البحث عن مخرج لإنهاء حرب أوكرانيا، والأخيرة ليست نزاعا إقليميا محصورا بين موسكو وكييف، بل تطورت إلى حرب عالمية الطابع، ربما تكون مقيدة جزئيا إلى اليوم، بحدود الجغرافيا الأوكرانية، وباستخدام أسلحة دون المستوى النووي، وهذه الحرب لا تغير العالم بذاتها ولا بمصائرها، هي فقط تكشف بوهج نيرانها ما جرى ويجري، فعبر عقود أخيرة خلت، كان العالم يتغير بضراوة وباطراد، وكان يعاد توزيع مراكز قوة الاقتصاد والتكنولوجيا والسلاح فيه، وكان الشرق يستيقظ بعد قرون من الغياب، وكانت الظاهرة الصينية بالذات، هي واسطة العقد في صحوة الشرق الجديد، وعبر الأربعين سنة الأخيرة، كانت الصين تصعد بقفزات كبرى، من بلد يصدر للعالم ما قيمته في السنة 10 مليارات دولار لا غير، إلى بلد يحوز وحده 35% من التجارة العالمية، ويصدر سنويا ما قيمته تريليونين ونصف التريليون دولار، ويمد شرايين حضوره إلى أربع جهات العالم عبر خطط «الحزام والطريق»، ويحول طاقته البشرية الضخمة المجاوزة لعدد سكان الغرب الأمريكي والأوروبي جميعه، إلى مدد لا ينضب لقوة إنتاج خلاقة، جعلت الصين مصنع العالم الأكبر، وبفوائض إنتاج صناعي تتجاوز ما تنتجه أمريكا وألمانيا واليابان مجتمعة، وكانت التكنولوجيا الصينية توالى طفراتها بطرق متعددة، وتقفز فوق أعناق التكنولوجيا الأمريكية، وتهدد بإطاحة عرشها، وهو ما دفع واشنطن إلى محاولة مذعورة لحصار شركات التكنولوجيا الصينية العملاقة، وعلى نحو ما فعلته مع شركة هواوى، التي نجحت أخيرا في استبدال الآلاف من المكونات الأمريكية في منتجاتها، فكل ضربة توجه إلى الصعود الصيني، تعود على أصحابها بخيبات مضافة، ولم تعد توجد إمكانية لمنافسة الصين، إلا بتبارٍ حر معها، تعجز عنه آلة الاقتصاد الأمريكي، الذي يفقد طابعه الإنتاجي باطراد، وتتعملق ديونه، ويضعف تحكم دولاره، ويتواضع ناتجه القومي الإجمالي وينزل عن عرش العالم، بل نزل فعلا من سنوات، فالناتج القومي الصيني صار الأول عالميا بمعيار تقابل القوى الشرائية الحقيقية، وسيصبح الأول عالميا حتى بالقيمة الإسمية في مدى خمس سنوات مقبلة، وهو ما يدفع واشنطن لاستفزاز عسكري محموم، تحاول به لجم حركة الصين، لكن التحرك الأمريكي فات عليه الأوان كما يبدو، بسبب حكمة السلوك الصيني، وتمدد قوة الصين من الاقتصاد إلى السياسة والسلاح، وتقدمها إلى فراغ تتركه أمريكا من ورائها، مع تركة مظالم تجعل أمريكا مكروهة عند شعوب الجنوب العالمي بالذات، في مقابل صورة الصين الخالية من أي أرث استعماري عدواني، والمتحالفة مع الشرق الأوراسي، ومع روسيا نصف الأوروبية نصف الآسيوية، وعبر تكتلات «بريكس» و»البنك الآسيوي» وسلة العملات الجديدة وغيرها، وتحاصر سلطان أمريكا الذي يشيخ، وتبنى عالما جديدا متخففا من تحكم القطب الواحد الأمريكي الغربي عموما، وهو العالم ذاته الذي تطمح روسيا اليوم لصناعته.