عبد الحميد صيام يكتب: الانقلابات – ما خفي منها وما ظهر

profile
  • clock 4 فبراير 2022, 8:21:58 ص
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

ونحن نكتب هذا المقال وصلت أخبار عن محاولة انقلاب في غينيا، بعد أيام من استيلاء العسكر في بوركينا فاسو على السلطة، وعزل الرئيس روش كابوري وإقالة الحكومة وحل البرلمان وتجميد الدستور يوم 23 يناير. وبهذا يصل عدد الانقلابات الأخيرة في القارة الافريقية إلى خمسة انقلابات (أو ستة إذا اتفقنا على أن ما جرى في تونس انقلاب) خلال سنة واحدة.

 فقد استولى العسكر في تشاد ومالي والنيجر على السلطة خلال الأشهر الأخيرة، واستولى اللواء عبد الفتاح البرهان على مقاليد السلطة في السودان مستبعدا المكون المدني من السلطة الانتقالية. 

أما ما قام به الرئيس التونسي قيس سعيّد، من الاستيلاء على مقاليد الحكم، خاصة السلطة القضائية وتجميد البرلمان وإلغاء حصانة النواب، فقد وصف بأنه انقلاب دستوري مدعوم من العسكر، وهو ما سأبينه لاحقا حول أنواع الانقلابات. ولا ننسى أن انقلابا دمويا وقع في ميانمار في الأول من فبراير 2021 أغرق البلاد في مواجهات دموية، ووضع الحكومة المنتخبة قبل ثلاثة أشهر فقط في السجن بمن فيهم أونغ سان سو تشي، لمعارضتها حكم العسكر في تلك البلاد.


الانقلابات إذن بأشكالها المختلفة، ما زالت أسلوبا متبعا في تصفية علاقات القوى الداخلية ضمن البلد الواحد، وتقوم أساسا على تفرد مجموعة، غالبا عسكرية، بمقاليد الحكم بالقوة وتهميش بقية القوى وتعليق الدستور وإلغاء المؤسسات أو تجميدها. ولأن الانقلابات عديدة ومتنوعة، فعلينا أن ننتبه إلى تسمياتها، فقد تطلق على نفسها ثورة أو حركة تصحيحية أو عملية إنقاذ. 

بعض تلك الانقلابات يستند إلى القوة الجامحة، وبعضها يستخدم ثغرات في الدستور، ومنها ما يكون مستوردا من الخارج وينفذ لصالح أجندات خارجية، ومنها ما هو مصنع داخليا، منها ما جاء ضرورة لإنقاذ وضع فوضوي وانهيار اقتصادي، ومنها ما سبب أوضاعا فوضوية وانهيارا اقتصاديا، منها ما تلقفته الجماهير بالأحضان ومنها ما دفعت الجماهير حصة من دمها وأمنها ثمنا لرفضها.

يعتبر المتخصصون في علوم الانقلابات أن هناك نوعين أساسيين منها، نوعا مقبولا وضرورويا ونوعا آخر مرفوضا ومثيرا للفوضى وغير شرعي. لقد وضعت تحت الخانة الأولى أربعة انقلابات افريقية، نذكر منها على سبيل المثال، انقلاب المشير سوار الذهب في السودان على جعفر النميري عام 1985، حيث بقي في السلطة إلى أن أفرزت الانتخابات الحرة عام 1986 حكومة شرعية بقيادة الصادق المهدي. 

والشيء نفسه ينطبق على انقلاب العقيد علي ولد محمد فال في موريتانيا عام 2005 ضد معاوية ولد طايع، الذي، كما وعد، بقي في السلطة إلى أن سلمها لقائد منتخب في إبريل 2007 هو سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، الذي أطيح به في انقلاب آخر في أغسطس 2008 قاده العقيد محمد ولد عبد العزيز. وهناك انقلابات تبدو مرفوضة في حينها، لكن بعد مرور الوقت، يتبين أنها كانت ضرورية ومهمة وجاءت في وقتها وأنقذت البلاد من حالات الفوضى أو السيطرة الأجنبية. 

ويندرج تحت هذا العنوان انقلابان عربيان أبيضان، الأول جاء بالضباط الأحرار في مصر عام 1952 على حكومة الملك فاروق، التي كانت خاضعة للسيطرة البريطانية، وأعاد الانقلاب إلى مصر روحها الحقيقية وحرر مصالحها، خاصة قناة السويس من أيدي المستعمرين وبدأ في بناء الدولة المصرية الحديثة، حتى أصبحت شعبية الرئيس عبد الناصر شاملة داخل مصر وخارجها بشكل غير مسبوق.

والانقلاب الثاني قام به هواري بومدين عام 1965 على حكومة أحمد بن بلة، التي كانت تتمتع بشعبية كبيرة لكنها أدخلت البلاد في حالة فوضى بعد ثلاث سنوات من الاستقلال. كانت الجزائر بحاجة إلى قيادة حازمة ترتب أوضاع ما بعد الاستقلال وتعمل على بناء الدولة والمؤسسات وتوحيد الجيش، والانطلاق نحو التنمية والتحرر الاقتصادي، وهو ما قام به بومدين. ولم تمض إلا عدة سنوات حتى أصبحت الجزائر دولة محورية تتصدر دول العالم الثالث، وتطرح نظرية «النظام الاقتصادي الجديد» وتصبح كعبة لحركات التحرر، خاصة في افريقيا وارثة دور مصر عبد الناصر.
قد يحدث الانقلاب بناء على أسباب محلية بحتة، كما هو الحال في القارة الافريقية التي شهدت نحو 90 انقلابا، أو تمردا مسلحا منذ نهاية الحرب الباردة فقط، لكن العالم شهد في العصر الحديث نماذج عديدة من الانقلابات ليست بالضرورة ناتجة عن أوضاع داخلية بحتة، بل نتيجة تدخلات خارجية. فالولايات المتحدة وروسيا وفرنسا لعبت كل منها أدوارا في العديد من الدول، لتثبيت حكومة أو التخلص منها.

 فكانت الولايات المتحدة، وراء انقلاب أوغستو بينوشيه في تشيلي في 11 سبتمبر 1973 على سلفادور ألندي أول رئيس منتخب بغالبية ساحقة في نوفمبر 1970. ذلك الانقلاب الذي أغرق البلاد في دوامة الموت والقتل والسجن لمدة 17 سنة. وكانت وراء انقلاب برويز مشرف عام 1999 ضد حكومة نواز شريف المنتخبة، وانقلاب هايتي للإطاحة بجان برتراند أرستيد، ودبرت تمردا ضد أيفو موراليس في بوليفيا وكذلك ضد هوغو تشافيز وخلفه نيكولاس مادورو في فنزويلا. ولا يكاد بلد في أمريكا اللاتينية ينجو من التدخلات الأمريكية.

 وهو ما كان يقوم به الاتحاد السوفييتي سابقا في أوروبا الشرقية، فكان يتدخل بالقوة المسلحة لإنهاء أي محاولة للانفلات من منظومة الدول التي تدور في فلكه مثل، هنغاريا 1956 وتشيكوسلوفاكيا عام 1968. وقد أرسلت روسيا قوات مؤخرا لإنقاذ حكومة قاسم توكاييف في كازاخستان، بعد أن تعلمت درسا قاسيا من التمرد المدعوم أمريكيا عام 2014 في أوكرانيا، فتركت حليفها فيكتور يانوكوفيتش يهرب من البلاد، دون أن تحاول إنقاذه وهي ما تدفع ثمنه الآن. 

أما تدخلات فرنسا في القارة الافريقية فهي كثيرة ومنوعة، وتأخذ أشكالا متعددة تقوم أساسا على خلع لأنظمة واستبدالها بجماعات موالية لها عن طريق الجيش، حتى إن هناك انقلابات تحدث ضد انقلاب قبله للإطاحة بالدور الفرنسي، كما يحدث الآن في مالي.
شهد العالم العربي عشرات الانقلابات المسلحة، وكانت سوريا أكثر الدول التي شهدت انقلابات منذ الاستقلال ولغاية عام 1970 حيث وضع انقلاب حافظ الأسد نهاية للانقلابات كافة، وفصّل الدولة بعدها على مقاسه ومقاس أولاده، كما فعل انقلاب القذافي في ليبيا وعلي عبد الله صالح في اليمن. لكن الأنظمة العربية أضافت إلى علم الانقلابات أبعادا جديدة تقوم على أساس الانقلاب من الداخل، أي من دون تغيير في القوى، بل تغيير في الدساتير، وإعادة ترتيب الأوضاع الداخلية بالتدرج وصولا إلى حالة جديدة تماما لتثبيت حكم فرد أو فئة مستبدة. فالأخطر من انقلاب عبد الفتاح السيسي عام 2013 هو ما جرى لاحقا من تغيير جذري للدستور عام 2019 ليتيح تأبيد حكم السيسي في مصر، وإعطاء الجيش صلاحيات مطلقة وصلت مؤخرا استثناء الجيش من تحديد النسل.

انقلاب قيس سعيّد في تونس يندرج تحت هذا النوع من الانقلابات، فقد استغل قلق الشعب التونسي على حالة الفوضى وانتشار الفساد وتعدد التدخلات الخارجية والتذمر من «النهضة» فانقلب على الدستور مستغلا بندا لا يعطيه تلك الصلاحيات. 

 

لقد طلب من الشعب التونسي بعد حركة 25 يوليو، أن يعطيه شهرا واحدا فقط لإجراء التعديلات التي يطالب بها الشارع، لكن الشهر تحول إلى شهور طويلة والسيطرة الفردية تعمقت، وكتم الأفواه والاعتقالات تواصلت، والتحول إلى حكم الاستبداد أقرب الآن بكثير من النموذج الديمقراطي الذي ميّز ثورة الياسمين عن غيرها من بقية الثورات، التي تمكن محور الشر من إلغائها جميعا. الانقلاب الدستوري الآخر هو ما قام ويقوم به الرئيس الفلسطيني محمود عباس في مناطق الحكم الذاتي الذي يسميها دولة. فقد انتخب عام 2005 بغالبية 62% لمدة أربع سنوات انتهت عام 2009. 

لكنه بدل التوجه مرة أخرى للانتخابات ألغى كل مؤسسات منظمة التحرير، وحولها إلى هياكل عظمية فاقدة الروح وحل المجلس التشريعي المنتخب، وتدخل في القضاء وشكل محكمة دستورية على مقاسه وأبعد المعارضين، وأطلق يد الأمن لتعيث فسادا وتنشر حالة من الرعب في صفوف الشعب في مناطق السلطة، وساهم في حصار غزة اقتصاديا، حتى انتهى به الأمر إلى تحويل كل مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية، وحركة فتح والسلطة الفلسطينية قوة في يده وحده لا شريك له، في إدارة هذه المزق المقطعة من بقايا مناطق الحكم الذاتي، الذي سيسعى إلى تثبيته رسميا في دورة استثنائية لما يسمى المجلس المركزي المفصل على مقاسه، ليمرر أخطر القرارات في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية، وهي تثبيت قيادة جماعة التنسيق الأمني والموافقين على «سلطة الحكم الذاتي» المدعومين من إسرائيل وأمريكا والأنظمة العربية المطبعة وتلك التي في طريقها للتطبيع.
وبعد هذا فهل من فروق حقيقية في النتائج والمآلات والمخرجات بين انقلاب سعيّد الفج وعباس المتدرج والانقلاب الثاني للسيسي عن انقلابات السودان، أو بوركينا فاسو أو ميانمار أو مالي؟

*عبد الحميد صيام محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بولاية نيوجرسي


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)