عبد العزيز عاشور يكتب : في سجن القلعة

profile
  • clock 2 مايو 2021, 10:20:11 م
  • eye 1129
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

 مع نهاية شهر مارس ١٩٧٣ وفى يوم الجمعة الأخير منه وبعد تناول الإفطار وبدء فترة الفسحة اليومية وقبل تاريخ جلسة تجديد الحبس بيومين اثنين اذ بنا فجأة نستمع لمن ينادى على اسمى واسم الصديق محمد سامى أحمد ..

خير يا جماعة ؟

إفراج يا أساتذة  ..

الفرحة لحظتها كانت تشبه الصدمة ..

فأنا أنتظر حضور جلسة تجديد الحبس بعد يومين بمحكمة جنوب القاهرة فإذ بى فجأة تنادينى قارعة الطريق ..

وفى غمرة الفرحة واللهوجة أخذ كل منا يلملم حاجياته ويرتدى ملابسه ..

ويا للمفارقة .. دون جدوى بحثت عن جوز شراب أضعه فى قدمى فلم أجد ..

فين شراباتك يا عبد ؟

تذكرت لحظتها ما ذا فعلت بها فى سجن القلعة ..

كنا فى سجن القلعة قد نفذنا اضرابا عن الطعام دام لعشرة أيام ..

الإضراب ده عمل قلق فى كل الدوائر ..

النيابة تتابعنا بشكل يومى ..

وطبيب يأتى يوميا صباحا بتكليف من النيابة لتوقيع الكشف الطبى على كل المضربين عن الطعام وكتابة تقرير طبى بحالتهم الصحية ..

تداعيات الإضراب كانت فى إقدام ادارة أمن الدولة التى تدير سجن القلعة بعيدا عن مصلحة السجون فى التفاوض معنا من أجل الوصول الى إنهاء الاضراب ..

لم تكن لدينا الرغبة الا فى استمرار الضغط عليهم للإسراع بتقديمنا للمحاكمة رغم الألم والمعاناة التى تحيط بنا جراء الامتناع عن الطعام ونحن ما زلنا فى عمر الزهور ..

انتهزنا الفرصة بكل ميكيافيلية ووضعنا شروطا لصالحنا تمت الاستجابة لها بكاملها ..

كان من ضمن وأهم المطالب والشروط عدم إغلاق الزنازين علينا طوال النهار وتركنا طلقاء ما بين الزنازين نستمتع بشمس الشتاء ..

وأنهينا الإضراب وبدأنا فى التحرك بحرية طوال النهار ..

كانت مساحة الطرقة بين صفى الزنازين تشجعنا على الحركة ..

طرح أحد الزملاء فكرة لعب كرة القدم ..

عددنا يكفى لتشكيل فريقين وأكثر ..

لكن تظل المشكلة فى كيفية إيجاد كرة قدم نلعب بها ..

وتفتقت الأذهان واتفقت على عمل كرة شراب ..

نعملها كيف ؟

تفتق الذهن عن استخدام خيوط النسيج فى بطاطين الصوف الميرى لدينا بالزنازين ..

كل واحد فينا اتقبض عليه لابس جزمة وشراب ..

وبدأ التبرع بفردة الشراب التى تم حشوها بفتائل الصوف الميرى ..

وبدأنا ننظم مباريات كرة قدم بشكل يومى ..

وكلما تلفت كرة أعددنا غيرها واستهلكنا فردة شراب أخرى ..

من المفارقات أن أمى رحمة الله عليها جاءت يوما لزيارتى فخرجت اليها فلمحت بعيون الأم وقلبها أصبع قدمى الأيمن ملفوفا بالشاش والضمادات والميركروكروم فانزعجت بلهفة الأم ظنا منها أن ولدها ربما قد تعرض للتعذيب ..

ولم يفارقها الانزعاج الا بعد أن أخبرتها وهى غير مصدقة أن زميلا لى فرم إصبع قدمى وهو يصد هجوما لى على مرماه ..

تذكرت وأنا أتفقد حاجياتى بحثا عن جورب أضعه فى قدمى أن فردتى جوربى قد استهلكتا فى سجن القلعة ..

وفيما بعد صدمة الفرح أخذونا الى نيابة أمن الدولة بلاظوغلى لإتمام الاجراءات ..

خرجت وزميلى محمد سامى يضمنا كلابش واحد ( قيد حديدى ) ..

باب سجن الاستئناف بباب الخلق بالقاهرة يفتح على شارع تجارى يكتظ بالناس فما بالك بيوم العطلة الوحيد الجمعة ..

بمجرد خروجنا من باب السجن ورؤية الناس لنا فوجئنا بالناس يقفون ويلوحون ويصفقون مهللين لنا وهم قطعا لا يعرفون أيا منا ..

وأخذ كل منا يلوح للناس بيده الوحيدة الطليقة من القيد فى مشهد لا ينسى ولا ينسى أثره حين تدرك أن المواطن العادى ليس فقط يتفهم ما تفعله

 ولا فقط يتعاطف معه او معك وإنما هو يحييك ويشد من أزرك وكأنه يقول لك أنت تعبر عنى ..

دقايق وكنا فى مبنى النيابة بلاظوغلى وبعد اقل من نصف ساعة كنا فى الطريق الى ميدان التحرير ..

وكما كانت للمفاجأة وقعها على نفسى كان وقعها أشد حين فوجئ أبى رحمه الله بى واقفا أمامه فلم يستطع منع دموعه من أن تذرف فرحا بعد أن غيبنى السجن عنه لثلاثة أشهر كاملة 

فقد كان هو الوحيد من أهلى الذى رفض زياتى بالسجن رغم زيارة الأم والجدة والأخ والخال رحمهم الله جميعا .. 

ولذلك حكاية اخرى قد نحكيها يوما ..

وصباح السبت كنت فى جامعتى أشرف بلقاء رئيس الجامعة ..

وصباح الأحد كنت أحضر جلسة تجديد الحبس بمحكمة جنوب القاهرة ليس بصفتى متهما بل لمتابعة ما سيجرى مع زميلى فى نفس القضية خليل رشاد وبقية الزملاء ..

وتلك حكاية أخرى نتمنى ان يسنح الوقت لسردها ..

ان كان هناك ما تبقى لنا من الوقت ...


التعليقات (0)