- ℃ 11 تركيا
- 12 ديسمبر 2024
عصام أبو بكر يكتب: ماذا بعد سقوط "الأسد"؟
عصام أبو بكر يكتب: ماذا بعد سقوط "الأسد"؟
- 9 ديسمبر 2024, 2:44:18 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
سقط "الأسد" الطاغية وسقطت معه حقبة من أسوأ الحقب في تاريخ سوريا، حيث شهد السوريون في الثامن من ديسمبر يومًا تاريخيًّا بسقوط نظام امتد لأكثر من ستة عقود، بعد صراعات ومعارك دامية خلال العقد الأخير أدت إلى نشوء تنظيمات مسلحة وموجة لجوء هي الأكبر في التاريخ الحديث. النظام الذي هيمن لستة عقود مظلمة على سوريا حكم فيه الأسد الشعب السوري بالحديد والنار، كما جعل بلاده مرتعًا ومسرحًا للتدخل الأجنبي من كل دول العالم، فكما قال ابن خلدون: الطغاة يجلبون الغزاة.
انهار هذا النظام الطاغية في 11 يومًا فقط بعد هجوم مفاجئ للفصائل المسلحة في الـ27 من نوفمبر الماضي، حيث تهاوت المدن السورية الرئيسة واحدة تلو الأخرى، بدءًا من حلب ثم حماة وحمص وصولًا إلى دمشق. ومع توسع سيطرة قوات المعارضة السورية على عدة مدن في أنحاء سوريا، تهاوت سجون النظام السوري مع ظهور فيديوهات تظهر اقتحام الثوار لعدد من السجون السورية، لتنهي بذلك فترة من أسوأ الفترات التي مرت على سوريا.
ومع الإعلان عن إسقاط النظام يبرز السؤال الأهم: ماذا بعد سقوط بشار الأسد؟
بعد سقوط الأسد ودخول المعارضة "دمشق" العاصمة، أعلنت المعارضة نيتها تشكيل مجلس عسكري لإدارة البلاد مع ضمان انتقال سلس للسلطة من الحكومة الحالية، حيث أكد رئيس الوزراء السوري محمد غازي الجلالي استعداد حكومته للتعاون لتأمين انتقال منظم يحافظ على مؤسسات الدولة.
ومع ذلك، فإن تعقيدات المشهد السوري تزداد بفعل اختلاف الأيديولوجيات بين الأطراف المسيطرة، إضافة إلى التحديات التي تواجه الأقلية العلوية بعد انهيار النظام. في الوقت الذي يبدو فيه أن النفوذ الإيراني وحزب الله في سوريا قد انتهى فعليًّا، حيث كشفت صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية أن الحكومة الإيرانية بدأت بسحب قواتها وقياداتها الميدانية من سوريا، مؤكدة أن المذكرات الداخلية التي صدرت عن الحرس الثوري الإيراني أوضحت قبول إيران بالأمر الواقع وتوقفها عن المقاومة نتيجة للوضع "الغريب وغير المعقول". كما انسحبت من مدينة القصير السورية على الحدود مع لبنان قبل فترة وجيزة من سيطرة قوات المعارضة عليها، وأزيلت رموزهم وصور قادتهم من السفارة الإيرانية في دمشق، وتم اقتحامها وتدميرها بعد سيطرة المعارضة على العاصمة وإعلانها دمشق "مدينة حرة"، ودعوة اللاجئين للعودة إلى سوريا الجديدة.
السيطرة على الأراضي السورية الآن باتت مقسمة بين قوتين رئيسيتين، حيث تسيطر هيئة تحرير الشام بقيادة أحمد الشرع المعروف بـ"الجولاني" على المدن الكبرى والساحل الغربي، فيما بسطت قوات سوريا الديمقراطية "قسد" بقيادة مظلوم عبدي نفوذها على مناطق واسعة شرق الفرات، مدعومة من واشنطن وعلاقات متينة مع إسرائيل، ما يمهد الطريق لها لتحقيق طموحها في إقامة دولة كردية على غرار إقليم كردستان العراق.
وقد يحدث تقاتل بين الجماعتين الإسلاميتين المسلحتين على حكم سوريا في الفترة المقبلة؛ قوات سوريا الديمقراطية "قسد" التي تسيطر على أماكن شاسعة شرق الفرات، وهيئة تحرير الشام التي يقودها أحمد الشرع "الجولاني" والمدعومة من تركيا والتي تسيطر على المدن الكبرى والعاصمة والساحل السوري. لكن هذا القتال لن يستمر طويلًا، وقد ينتهي سريعًا لصالح الجماعة المدعومة من تركيا نظرًا لسيطرة تركيا الكاملة على جميع الفصائل المسلحة وارتباطها "الوثيق" بهذه الكيانات القابلة للسيطرة.
ويعتقد أن الجماعات المسلحة ذات الأيديولوجية الإسلامية والمدعومة من تركيا هي من سيحكم سوريا في الفترة المقبلة باعتبارها أقوى الفصائل المعارضة على الساحة عدة وعتادًا وتنظيمًا، وتوافقًا مع الدول الإقليمية والعالمية، والمقبولة دوليًّا باعتبارها الفصيل الإسلامي المؤهل "سياسيًّا" لحكم سوريا ما بعد الأسد، وباعتبارها هي من أسقطت "الأسد".
وستكون تركيا اللاعب الرئيسي باعتبارها الداعم الأول لهذه الفصائل والراعي الرسمي لمرحلة سوريا ما بعد "الأسد"، لارتباطها المباشر بالواقع السوري وتفاصيله باعتبارها جارة سوريا الكبرى، فضلًا عن التوافق السياسي والفكري بين الجماعات المعارضة والدولة التركية، والتي من المنتظر أن تُقدم الحكومة السورية الجديدة للعالم وتعمل على دعمها أمام المجتمع الدولي.
الولايات المتحدة تحت رئاسة ترامب قد تقبل بحكومة سورية ذات مرجعية إسلامية. وقد صرح مسؤول أمريكي أن الولايات المتحدة قد تحذف "هيئة تحرير الشام" من قائمة الإرهاب دعمًا لاستقرار سوريا، كما سيتم التعامل معها دوليًّا وعربيًّا وبموافقة جميع دول الجوار السوري ليكون لـ"الإسلاميين" في المنطقة العربية "دولة" تخفف من العداء للولايات المتحدة وأوروبا من ناحية بسبب الدعم السابق للأنظمة العربية، ومنها نظام الأسد.
ومن ناحية أخرى، ستتعامل معها لملء الفراغ الذي تتركه إيران في منطقة الشام.
كما سيعمل حكم الجماعات الإسلامية لدولة كبيرة مثل سوريا على احتواء القضية الفلسطينية وتفريغها من مضمونها، بما يحقق الأمن لإسرائيل، باعتبار أن فصائل المقاومة الفلسطينية غالبيتها العظمى "إسلامية"، ومن ثم امتلاكها كوسيلة ضغط على حماس وحركات المقاومة في "غزة" لتنفيذ مخطط التهجير للفلسطينيين الذي فشل حتى الآن، رغم أنه هو الهدف الرئيسي لحرب التدمير في غزة التي اتخذت 7 أكتوبر ذريعة لتنفيذه. لذا، فمن المرجح جدًا أن تكون سوريا بعد حكم الإسلاميين بديلًا استراتيجيًّا لتحقيق "الوطن البديل" للفلسطينيين بجانب الأردن، حيث يذهب فلسطينيون غزة إلى سوريا وفلسطينيون الضفة إلى الأردن.
كما أن سقوط النظام السوري هو امتداد لموجة ما يسمى بـ"الربيع العربي"، الذي اندفعت موجته الأولى بإسقاط النظام العراقي، ثم الثانية بسقوط الأنظمة في تونس ومصر واليمن وليبيا، والرابعة بسقوط النظام السوداني، وهو المخطط الاستراتيجي الذي تم إعلانه رسميًّا من جانب الإدارة الأمريكية عقب أحداث 11 سبتمبر. وهو مخطط كونداليزا رايس "الفوضى الخلاقة" لتفكيك الشرق الأوسط، والذي هو امتداد لمخطط "برنارد لويس" عبر تغيير الأنظمة العربية الحاكمة عبر ثورات داخلية.
على أن تخلق الثورات الداخلية أنظمة حكم "مختلفة" ذات مذاهب طائفية، منها النظام الإسلامي "السني" في سوريا، الذي سيقوم باحتضان ميليشيات متطرفة لتكوين حرس ثوري سوري "سني" بجانب الجيش النظامي، الذي ستصبح مهمته الأولى حماية الثورة ومجابهة الحرس الثوري الإيراني "الشيعي". ولا مانع أن يبدأ من تنفيذ عملياته القتالية ضد ميليشيات الحشد الشعبي في العراق لمطاردة فلول إيران الإرهابية، ولا مانع أيضًا من إرسال قوات "الحرس الثوري السوري" إلى اليمن لقتال الحوثيين الشيعة وإنهاء الوجود الإيراني بالكامل في المنطقة، وهو هدف رئيسي لتقليم أظافر إيران في المنطقة، لتحجيمها في محيطها المحلي والقضاء على المشروع الفارسي.
وما يحدث في سوريا هو تنفيذ مشروع برنارد لويس الصهيوني الأمريكي الذي يتضمن تقسيم الشرق الأوسط إلى أكثر من ثلاثين دويلة إثنية ومذهبية وطائفية تقتتل فيما بينها لحماية المصالح الأمريكية وإسرائيل. ويرى برنارد لويس أن كل الكيانات ستشلها الخلافات الطائفية والمذهبية.
ومن هنا جاءت فكرة القتال بين السنة والشيعة، بتغذية الخلاف بينهما وتأجيج الفتنة. ويبقى الهدف الاستراتيجي من السماح للجماعات الإسلامية بحكم دولة بحجم سوريا هو تكوين "دولة سنية متطرفة" (سوريا) لمواجهة "دولة شيعية متطرفة" (إيران)، وبالتالي تغرق المنطقة في أمواج صراعات وحروب لا تنتهي؛ لتبقى إسرائيل ومعها الغرب في مأمن من أخطار الشرق "المنكوب".
والمستفيد الأول هو إسرائيل، لأنها بذلك ستبعد الأنظار عما يحدث في غزة، ويبتعد الضوء عنها رغم أنها هي أصل الصراع. وبصمت وبعيدًا عن الإعلام سيبدأ تهجير الفلسطينيين من غزة فيما يُطلق عليه "الحرب الصامتة"، كما سيكون هناك صراع على النفط والمياه والحدود والحكم بين كل هذه الكيانات، وهذا ما سيضمن تفوق إسرائيل في الخمسين عامًا القادمة على الأقل.