د.عصمت سيف الدولة : ثلاث نقاط على حروف الثورة .. 2

profile
  • clock 16 يونيو 2021, 2:30:13 ص
  • eye 847
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

النقطة .. الثانيـــــة

(1947)

   .. دق على الباب ،

ـ         على . ولد يا على ، اصحَ .

ـ         أبى . مازال الليل ليلا .

ـ         أى ليل يا كلب يا بن الكلب . قلت لك اصحَ . قم من جوارها لتدرك السوق . أمامك مشوار طويل لابد من أن تأخذ أول " معدية" . قم يا ولد .

ـ         طيب . طيب . دعنى لحظة فقط .

ـ         قم يا ولد . أنا عارف . لا فائدة فيك ولا فى جيلك مادمتم تعودتم النوم فى أحضان النساء . اتركيه يا امرأة .

          وخرج على الى أبيه . وعلى شاب كالرجال طولا وعرضا وبناءً متينا . ثم أنه قد زفت اليه زوجته منذ ثلاثة أيام .

ـ         أبى حرام عليك ما يزال الليل ليلا .

ـ         نحن فى الصبح يا أعمى .

   وابتسم على ابتسامة لم يرها والده الشيخ الضرير . وصحب أباه الى المسجد ليصلى بضعة عشرات من الركعات تعويضا لما فاته أيام الشباب قبل أن يصلى الفجر . وعاد به الى المنزل . طار النوم وعليه أن يدرك السوق . أمس خاطت له عروسه عشرين جنيها داخل جيبه حتى لا يسرق منه ثمن البقرة . أولاد الحرام كثير فى سوق المركز . والبقرة هى الركن المكمل لبناء الأسرة لا يكمل الزواج إلا إذا دخلت مع العروس بقرة . وها هو نصف المهر بأعلى و " النقطة " التى أهداها لك الناس يوم عرسك لتشترى البقرة فتصبح رجلا ورب بيت . هذا ما كان والدك يستعجله . أن يراك رجلا ورب بيت قبل أن تشرق شمس اليوم الرابع من زواجك . ولقد استعجل فى الحديث عن بقرتك أمس فعرف الذين صاحبوه فى صلاة العشاء أن عليا سيشترى غدا بقرة .

   ارتجف على . إن على الطريق من يتربصون به لاشك فى هذا . فليستعن بابن عمه . أحمد ، وأحمد " خفير نظامي " يحمل بندقية حكومية ويهابه الناس . ثم إن أحمد لا يقضى الليل فى أحضان إمرأته . إن إبنه الأبله أمين يشغل موقعه منذ بضع سنين . ولو أراد أن يشغله لما استطاع الا تحايلا . ولقد علمه أحمد قبل تزوجه كيف يحتال فى الوصول الى زوجه عبر أجسام البنات والأرامل اللاتى يملأن صحن الدار . ثمانى نسوة ورجلان وشيخ ضرير وغلام أبله هو أمين . تلك هى الأسرة التى أضيفت إليها بالأمس عروس وتضاف إليها اليوم بقرة .

   لا حول ولا قوة إلا بالله .


   بيت وخرب ..

   قال قائل : كان الجدعان يعبران القنطرة فوق الترعة الصغيرة عندما انطلقت الأعيرة النارية ، سقطا فى مياه الترعة . سقط على بثروته . وسقط أحمد وبندقيته . وعندما تجمع أهل القرية وانتشلوا الجثتين كان على وأحمد ينقصان الحياة والثروة والبندقية . اختلس الجوعى الملتاعون بقايا قتلاهم . الجوع كافر . نسوة القرية كلهن يولولن فى منازلهن يغرفن من الطين ويضعن على رؤوسهن ثم يدرن فى حلقة ينشدن أغانى تقطر حزنا على ايقاع ضرب خدودهن فهن القريبات من على وأحمد . عروس على غير مدربة . إنها تقع كثيرا قبل أن تتم الدورة . وتحت ظلال أشجار السنط  يجلس الرجال صامتون وقد دفنوا رؤوسهم بين أرجلهم. ولا تسمع الا همسا .

  لاحول ولا قوة الا بالله ..

   بيت وخرب ..

   أما الشيخ الضرير فقد شل حين بلغه النبأ . أما أمين الغلام فلا يعلم أحد أين ذهب . عشرون ساعة مضت قبل أن تنتهى النيابة العامة من التحقيق وتأذن بدفن الجثتين . كانت النيابة العامة قد وصلت بعد أن مضت خمسة عشرة ساعة . كانت قد علمت بعد أن مضت ساعتان . كان هاتف ( تليفون ) العمدة قد أبى أن يبلغ رسالته قبل أن تمضى ساعة .

  ودفن على ودفن أحمد . ومن يمت مقتولا لا تقام له جنازة ولا يقبل فيه عزاء الا يوم الثأر . ومن الذى يثأر . أذلك الغلام الأبله ؟..

   لاحول ولا قوة الا بالله .

   بيت وخرب

مات الشيخ . وتزوجت من تزوجت . والتحقت الصغيرات بخدمة موظفى الحكومة وانتقلن معهم الى حيث لا يعرف أحد كما فعلت من قبل مئات الفتيات الصغيرات . وغادر أمين القرية الى حيث لا يعرف أحد كما فعل من قبل مئات من الغلمان . من حين الى حين تتردد الشائعات أن بنت فلان أصبحت داعرا . وأن إبن فلان أصبح مجرما . ولا أحد يهتم فقد كان الموت جوعا أو غدرا هو البديل على أى حال .

  وفى ذات أصيل … بعد سنين ..

  كان " الأفندى " جالسا  على مقعده المريح يتأمل البحر أمامه ويراقب الشمس وهى تكاد تغيب فيه . ويتذكر . أين الأمس من اليوم . انقضت سنون طويلة منذ أن كان يتسابق هو ورفاقه ، عرايا كما ولدتهم أمهاتهم . فى الانزلاق على مجارى الطين التى يصطنعونها . إنه الآن يتأمل البحر على شاطئ " المنتزه ".


   " المنتزه "

   نعم المنتزه يا بن الهمامية . يا صبار الطين . يا برص الجبل الأجرد . فى المنتزه حيث كان يعيش فاروق الملك وأهله يا ابن الفلاحين . يا لها من دورة رائعة . لم تذق فى العشرين سنة الأولى من حياتك ماء صافيا من الطين أو الجراثيم ، وكان أهلك يعرفون أوصاف البحر من حجاج القرى الأخرى ولكنك الآن مزروع فى المنتزه منذ الصباح الباكر كأنك ورثته عن أهلك . ترى من الذى ورثك إياه ؟.

   وعندما يغيب الضوء تحتضن الظلمة أحلام الغرور ..

   من رحلة الحمار على  الطريق المترب الى ملاهى قصر المنتزه طريق طويل . قطعته بعقلك . باجتهادك . تعلمت فتفوقت فتخرجت فأنتجت فأصبحت من رواد المنتزه . لم يورثك أحد شيئا . كسبت كل شئ فلا فضل لأحد عليك .

   ويحجب ما بقى من أشعة الشمس عملاق من البشر يلبس ملابس العوم وتدس فتاة رشيقة يدها تحت إبطه . إنه لا يراهما إلا كجسمين عابرين على صفحة أرجوانية . ولكن الشاب يراه . يتوقف .  يلتفت ، يترك فتاته . يجثو على ركبتيه ليحتضن الجالس ويقبله قبلات حارة .

ـ     من ؟

ـ     أمين ..

ـ     أمين من ؟.

ـ     الا   تعرفنى ؟

عرفه الآن واحتضنه ، ونهض من مقعده فصافح زوجته .

   أصبح كل شئ واضحا بالرغم من غياب الشمس .

   فهناك بعيدا عن قرية . جنوب القاهرة . أنشئت قرية أخرى اسمها " عزبة الصعايدة " فيها أكثر من ألف شاب من أبناء قريته يلبسون ملابس الأفندية . ويقرأون الصحف . ويتجادلون فى السياسة . لأنهم قد أصبحوا عملا فى مصانع حلوان . وتحملهم سيارات المصانع دفعات دفعات كل صيف . الى الاسكندرية . وتنثرهم كالورد ، على شواطئ قصر المنتزه ، ومنهم أمين .

   يا أحلام الغرور ..

   وكيف ورث أمين بعد خراب بيتهم موقعا فى قصر فاروق ؟..



 القاهرة فى 1977

التعليقات (0)