- ℃ 11 تركيا
- 25 نوفمبر 2024
علي الصلابي يكتب: عوامل النصر والتمكين التي غفلنا عنها في السيرة النبوية (2)
علي الصلابي يكتب: عوامل النصر والتمكين التي غفلنا عنها في السيرة النبوية (2)
- 20 مايو 2023, 3:27:40 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
من السُّنن المهمَّة على طريق النُّهوض: السُّنَّة الَّتي يقرِّرها قول الله تعالى: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ﴾ [الرعد: 11] .
وارتباط هذه السُّنَّة الرَّبَّانيَّة بالتَّمكين للأمَّة الإسلاميَّة واضحٌ غاية الوضوح؛ ذلك أنَّ التَّمكين لا يمكن أن يتأتَّى في ظلِّ الوضع الحالي للأمَّة الإسلاميَّة، فلا بدَّ من التَّغيير، كما أنَّ التَّمكين لن يتحقَّق لأمَّةٍ ارتضت لنفسها حياة المذلَّة، والتخلُّف، ولم تحاول أن تغيِّر ما حلَّ بها من واقعٍ، وأن تتحرَّر من أسره.
"والإسلام يوم جاء أوَّل مرَّةٍ، وقف في وجهه واقعٌ ضخمٌ، واقع الجزيرة العربيَّة، وواقع الكرة الأرضيَّة، ووقفت في وجهه عقائد وتصوُّرات، ووقفت في وجهه قيم وموازين، ووقفت في وجهه أنظمةٌ، وأوضاعٌ، ووقفت في وجهه مصالح، وعصبياتٌ.
كانت المسافة بين الإسلام يوم جاء وبين واقع النَّاس في الجزيرة العربيَّة، وفي الأرض كافَّةً، مسافةً هائلةً، وكانت النُّقلة الَّتي يريدهم عليها بعيدةً بعيدةً، وكانت تساند الواقع أحقابٌ من التَّاريخ، وأشتاتٌ من المصالح، وألوانٌ من القوى، وقفت كلُّها سدّاً في وجه هذا الدِّين الجديد، الَّذي لا يكتفي بتغيير العقائد، والتَّصوُّرات، والقيم، والموازين، والعادات، والتَّقاليد، والأخلاق، والمشاعر؛ إنَّما يريد كذلك أن يغيِّر الأنظمة، والأوضاع، والشَّرائع، والقوانين، كما يريد انتزاع قيادة البشريَّة من يد الطَّاغوت، والجاهليَّة؛ ليردَّها إلى الله، وإلى الإسلام".
"ولا شكَّ: أنَّ ما حدث مرَّةً يمكن أن يحدث مرَّةً أخرى، فقد حدث ما حدث وَفْقَ سنَّةٍ جاريةٍ، لا وفق معجزاتٍ خارقةٍ، وقد قام ذلك البناء على رصيد الفطرة المدَّخرة لكلِّ من يستنفد هذا الرَّصيد، ويجمعه، ويطلقه في اتِّجاهه الصَّحيح".
إنَّ التَّغيير الَّذي قاده النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بمنهج الله -تعالى- بدأ بالنَّفس البشريَّة، وصنع منها الرِّجال العظماء، ثمَّ انطلق بهم ليحدث أعظم تغيير في شكل المجتمع، حيث نقل النَّاس من الظُّلمات إلى النُّور، ومن الجهل إلى العلم، ومن التَّخلُّف إلى التَّقدُّم، وأنشأ بهم أروع حضارةٍ عرفتها الحياة.
لقد قام النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم – بمنهجه القرآنيِّ – بتغيير في العقائد، والأفكار، والتَّصوُّر، وعالم المشاعر والأخلاق في نفوس أصحابه؛ فتغيَّر ما حوله في دنيا النَّاس، فتغيَّرت المدينة، ثمَّ مكَّة، ثمَّ الجزيرة، ثمَّ بلاد فارس، والرُّوم في حركةٍ عالميَّةٍ تسبِّح، وتذكر خالقها بالغدوِّ، والاصال.
كان اهتمام المنهج القرآنيِّ في العهد المكيِّ بجانب العقيدة، فكان يعرضها بشتَّى الأساليب؛ فغمرت قلوبهم معاني الإيمان، وحدث لهم تحوُّل عظيمٌ، قال الله تبارك وتعالى موضحاً ذلك الارتقاء العظيم: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: 122].
حقّاً إنَّه تصويرٌ رائعٌ عجيبٌ تقف الأقلام حائرةً في وصفه! وكذلك الأسلوب القرآنيُّ في كلِّ حينٍ تنهل منه الألباب، وتصدر عنه الأساليب، وتعجِز عن إيفائه حقَّه من التَّعبير؛ من الموت إلى الحياة، ومن الظُّلمات إلى النُّور، هل يستويان مثلاً؟! مسافةٌ هائلةٌ! ونقلةٌ عظيمةٌ لا يعرف عظمتها، ويدرك مقدارها إلا مَنْ تفرَّس في حالهم في ضوء هذا البيان القرآنيِّ المعجز.
كان تصورُ الصَّحابة -رضي الله عنهم- لله قبل البعثة تصوراً فيه قصورٌ، ونقصٌ، فهم ينحرفون عن الحقِّ في أسمائه، وصفاته: ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: 180]، فينكرون بعض صفاته، ويسمُّونه بأسماء لا توفيق فيها، أو بما يوهم معنىً فاسداً، وينسبون إليه النَّقائص، كالولد، والحاجة، فزعموا: أنَّ الملائكة بنات الله، وجعلوا الجنَّ شركاء له سبحانه: ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ﴾ [الأنعام: 100]، ﴿وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ﴾ [النحل: 57] .
فجاء القرآن الكريم لترسيخ العقيدة الصَّحيحة، وتثبيتها في قلوب المؤمنين، وإيضاحها للنَّاس أجمعين، وذلك ببيان توحيد الرُّبوبيَّة، وتوحيد الألوهيَّة، وتوحيد الأسماء، والصِّفات، والإيمان بكلِّ ما أخبر الله به من الملائكة، والكتاب، والنَّبيِّين، والقدر خيره وشرِّه، واليوم الآخر، وإثبات الرِّسالة للرُّسل – عليهم السَّلام – والإيمان بكلِّ ما أخبروا به.
فقد عَرَّف القرآن المكيُّ الناسَ مَنْ هو الإله الَّذي يجب أن يعبدوه، وكان النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يربِّيهم على تلك الآيات العظيمة؛ فقد حرص صلى الله عليه وسلم منذ اليوم الأوَّل على أن يعطي النَّاس التَّصوُّر الصَّحيح عن ربِّهم، وعن حقِّه عليهم مدركاً: أنَّ هذا التَّصوُّر سيورث التَّصديق، واليقين عند مَنْ صفت نفوسهم، واستقامت فطرتُهم. ولقد كان تركيز النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في هذا التَّصوُّر المستمدِّ من القرآن الكريم قائماً على عدَّة جوانب، منها:
1- أنَّ الله مُنزّهٌ عن النَّقائص، موصوفٌ بالكمالات الَّتي لا تتناهى؛ فهو سبحانه واحدٌ لا شريك له، لم يتَّخذ صاحبةً، ولا ولداً.
2- وأنَّه سبحانه خالق كلِّ شيءٍ، ومالكه، ومدبِّر أمره: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بَأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف:54] .
3- وأنَّه تعالى مصدر كلِّ نعمةٍ – دَقَّت أو عظمت، ظهرت أو خفيت – في هذا الوجود ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ﴾ [النحل: 53] .
4- وأنَّ علمه محيطٌ بكلِّ شيءٍ، فلا تخفى عليه خافيةٌ في الأرض، ولا في السَّماء، ولا ما يُخفي الإنسان، وما يُعلن: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الطلاق: 12] .
5- وأنَّه سبحانه يقيِّد على الإنسان أعماله بواسطة ملائكته، في كتابٍ لا يترك صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها، وسينشر ذلك في اللَّحظة المناسبة، والوقت المناسب: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: 18] .
6- وأنَّه سبحانه يبتلي عباده بأمورٍ تخالف ما يحبُّون، وما يَهوون؛ ليعرف النَّاسُ معادنَهم، ومن منهم يرضى بقضاء الله، وقدره، ويسلم له ظاهراً وباطناً، فيكون جديراً بالخلافة، والإمامة، والسيادة، ومن منهم يغضب، ويسخط، فيكون جزاؤه غضبَ الله، وعدمَ إسناد شيءٍ إليه: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ [الملك: 2]، وذلك مع علمه بالشَّيء قبل وقوعه.
7- وأنَّه سبحانه يوفِّق، ويؤيِّد، وينصر من لجأ إليه، ولاذ بحماه، ونزل على حكمه في كلِّ ما يأتي، وما يذر: ﴿إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ﴾ [الأعراف: 196] .
8- وأنَّه -سبحانه وتعالى- حقُّه على العباد أن يعبدوه، ويوحِّدوه، فلا يشركوا به شيئاً: ﴿بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ [الزمر: 66] .
9- وأنَّه – سبحانه – حدَّد مضمون هذه العبوديَّة، وهذا التَّوحيد في القرآن العظيم. (منهج الرَّسول -صلى الله عليه وسلم- في غرس الرُّوح الجهاديَّة، ص 10)
وتربَّى الرَّعيل الأوَّل -رضي الله عنهم-، على فهم صفات الله، وأسمائه الحسنى، وعبدوه بمقتضاها؛ فَعَظُمَ الله في نفوسهم، وأصبح رضاه سبحانه غايةَ مقصدهم، وسعيهم، واستشعروا مراقبتـه لهم في كلِّ الأوقـات، فكبحوا جماح نفوسهم من أن تـزلَّ؛ والله مطَّلعٌ عليهـا، وتطهَّر صحابـة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الشِّرك بجميع أنواعه، سواءٌ من اعتقاد متصرِّف مع الله -عزَّ وجلَّ- في أيِّ شيءٍ، من تدبير الكون؛ من إيجادٍ، أو إعدامٍ، أو إحياءٍ، أو إماتةٍ، أو طلب خير، أو دفع شرٍّ بغير إذنٍ من الله سبحانه، أو اعتقاد منازعٍ له في شيءٍ من مقتضيات أسمائه وصفاته، كعلم الغيب، وكالعظمة، والكبرياء، وكالحاكميَّة المطلقة، وكالطَّاعة المطلقة، ونحو ذلك.