- ℃ 11 تركيا
- 21 ديسمبر 2024
عمرو حمزاوي يكتب: أولويات الصين الخارجية… الاقتصادي يسبق السياسي!
عمرو حمزاوي يكتب: أولويات الصين الخارجية… الاقتصادي يسبق السياسي!
- 30 مايو 2023, 4:09:46 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
تدير الصين سياستها الخارجية وفقا لمجموعة من الأولويات الصريحة والمبادئ المعلنة التي تجعل من توقع المبادرات والخطوات الدبلوماسية القادمة لبكين أمرا ممكنا.
بداية، توظف بكين سياستها الخارجية لخدمة أهدافها الداخلية المتمثلة في النمو الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي والسياسي والتقدم العلمي والتكنولوجي وحماية الأمن القومي. الأولوية الأسمى للسياسة الخارجية الصينية هي تحفيز النمو الاقتصادي في الداخل من خلال زيادة التبادل التجاري مع جميع دول العالم وزيادة الاستثمارات الموجهة إلى البنى التحتية ووسائل النقل والقطاعات الصناعية وتكنولوجيا الاتصالات في دول الجنوب. الأولوية الأسمى للسياسة الخارجية الصينية هي ضمان الاستقرار الاجتماعي والسياسي وحماية الأمن القومي بمنع تدخلات القوى الغربية في الشؤون الداخلية والدفاع عن مصالح بكين في جوارها الجغرافي المباشر في المحيطين الهادي والهندي. الأولوية الأسمى للسياسة الخارجية الصينية هي تطوير قوتها الصلبة وقوتها الناعمة بحيث ينظر العالم للعملاق الآسيوي في المستقبل كمصنعه الأكبر ومطوره العلمي والتكنولوجي الأهم وكمصدر لثقافة ملهمة يفهمها ويقدرها الناس في الجوار المباشر وتدريجيا في كافة نواحي المعمورة.
تأسيسا على ذلك، تعطي السياسة الخارجية الصينية أهمية كبرى لتوظيف مواردها ومصادر قوتها الصلبة والناعمة في جوارها المباشر حيث تايوان والدول الآسيوية القريبة منها وحيث العلاقات التاريخية المعقدة مع اليابان وكوريا وفيتنام وحيث التنافس الجيو-استراتيجي والعسكري مع الولايات المتحدة. كذلك، تهتم الصين بمنطقة الخليج بشقيه العربي والإيراني حيث تستورد ما يقرب من 60 بالمائة من إمدادات الطاقة وتحتاج إلى الاطمئنان لحضور ترتيبات أمنية تحول دون تهديد شبكات النفط والغاز الطبيعي ودون تهديد تجارتهما. كما أن اهتمام السياسة الخارجية الصينية بعموم الشرق الأوسط وبالقارة الإفريقية يعود إلى أولوية التبادل التجاري والاستثمارات والمساعدات التنموية بين الصين وبين المنطقتين اللتين فيهما أسواق واسعة ومواد خام هائلة ونقص بالغ في البنى التحتية الأساسية وشبكات المواصلات والنقل والاتصالات ولا تحصلان على الكثير من الاستثمارات الغربية.
لا تنظر الصين إلى السياسة الخارجية كمجال لفرض انحيازاتها الايديولوجية على الآخرين إن بتصنيفات الصديق والعدو أو بالربط بين التجارة والاستثمار وتقديم المساعدات التنموية وبين الاستجابة إلى شروط سياسية أو اقتصادية بعينها أو برهن العلاقات الجيدة مع دول إقليم معين بحضور علاقات سلام وتعاون بين تلك الدول وبعضها البعض. وتقدم منطقة الخليج على وجه خاص ومنطقة الشرق الأوسط في العموم أمثلة واضحة على غياب المشروطية عن السياسات الصينية.
الأولوية الأسمى للسياسة الخارجية الصينية هي تحفيز النمو الاقتصادي في الداخل من خلال زيادة التبادل التجاري مع جميع دول العالم وزيادة الاستثمارات الموجهة إلى البنى التحتية في دول الجنوب
فالصين صارت الشريك التجاري الأول لجميع دول المنطقتين، وتستورد احتياجاتها من الطاقة من إيران والسعودية اللتين تورطتا في حرب بالوكالة في اليمن إلى أن توسطت بينهما دبلوماسية بكين، ولها اتفاقات تعاون استراتيجي وشراكات واسعة مع إيران والسعودية وإسرائيل وتركيا دون أن تلتفت إلى طبيعة العلاقات بين تلك الدول وبعضها البعض. سياسة الصين الخارجية هي أقرب ما تكون إلى ما يشار إليه أحيانا في أدبيات العلاقات الدولية بسياسة «الخيمة الكبيرة» والتي تعني بناء التحالفات وزيادة التجارة والاستثمار وتقديم المساعدات مع دول الجوار والدول في المناطق الهامة لمصالح الصين دون نظر لانحيازات ايديولوجية أو لاعتبارات سياسية.
لا تنظر الصين للسياسة الخارجية أيضا كمجال لاستخدام القوة العسكرية لتحقيق أهداف بعينها. تعارض دبلوماسية بكين الحروب وتدعو إلى الحلول السلمية للصراعات المسلحة وتعمل على الحفاظ على الأمن الإقليمي والعالمي، وهي لذلك توسطت بين إيران والسعودية وطرحت مبادرة سلام لإنهاء الحرب الروسية ـ الأوكرانية ويجول وزير خارجيتها هذه الأيام على العواصم الأوروبية الكبرى لحشد التأييد للمبادرة الصينية. أما في جوارها المباشر، فلم تلوح الصين أبدا بتوظيف القوة العسكرية إلا حين تصاعدت وتيرة التهديدات الأمريكية بحماية استقلال تايوان بالسلاح.
وفيما خص الشرق الأوسط، فإن الصين لم تأت إلى منطقتنا كقوة غزو واحتلال على عكس ما فعلت القوى الاستعمارية الأوروبية في الماضي البعيد وما فعلته الولايات المتحدة الأمريكية في الماضي القريب بغزوها الدامي للعراق واحتلالها المدمر له. كما أن الصين لم تدعم الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية في 1967 أو تصمت عن المطالبة بإنهاء نتائجه غير الشرعية أو تحمي كالولايات المتحدة دولة الاحتلال إسرائيل بدعم اقتصادي وعسكري هائل وبدعم دولي مستمر على الرغم من نظام الأبارتايد الذي يعاني من الشعب الفلسطيني تهجيرا واستيطانا وحصارا. على العكس من ذلك، تلتزم الدبلوماسية الصينية بالدعوة إلى تمكين الفلسطينيين من ممارسة حقهم في تقرير المصير وفي بناء الدولة المستقلة وفي رفع اليد المجرمة للمستوطنين عنهم وعن أراضيهم في القدس الشرقية والضفة الغربية وفي رفع الحصار عن أهل غزة.
في كافة هذه السياقات، وبمبادراتها السلمية وخطوات الدبلوماسية الهادئة، تكتسب بكين يوما بعد اليوم المزيد من تأييد عواصم الجنوب العالمي التي صارت ترحب بالتجارة والاستثمار والمساعدات الاقتصادية الصينية وصارت تعمل أيضا على الالتحاق بالمنظمات والتجمعات الاقتصادية الدولية التي تقودها كمجموعة البريكس ومنظمة شنغهاي للتعاون وتسعى إلى تشجيعها على التوسط لحل الصراعات وحفظ السلم والأمن إقليميا وعالميا.
تستطيع النخب السياسية في واشنطن والعواصم الأوروبية أن تقول ما تشاء عن بكين ودبلوماسيتها وأن تتهم السياسة الصينية باستغلال فقر دول الجنوب العالمي لتوسيع النفوذ تجارة واستثمارا وبنى تحتية وشبكات نقل ومواصلات وإتصالات مخترقة. غير أن الثابت، وفقا للعديد من استطلاعات الرأي العام، أن نخب وشعوب الجنوب العالمي تثق في الصين وترحب بها وبدورها بينما لا تشعر بأدنى درجات الثقة في سياسات وممارسات وأفعال الغربيين الذين لم يكفوا يوما عن الاستعلاء والتدخل في شؤون الغير بادعاءات إيديولوجية وسياسية ساذجة وبالغة التناقض. فاحتلال إسرائيل لأراضي الشعب الفلسطيني مقبول ولا ترفع في وجه تل أبيب رايات الشرعية الدولية، واحتلال روسيا لأراضي أوكرانيا مرفوض باسم القانون الدولي الذي يستدعى الآن بعد أن أهانته الولايات المتحدة وحليفتها بريطانيا بغزو واحتلال العراق في 2003.