- ℃ 11 تركيا
- 2 نوفمبر 2024
عمرو حمزاوي يكتب: السودان: عن صراعات المركز والأطراف وتهديد الميليشيات
عمرو حمزاوي يكتب: السودان: عن صراعات المركز والأطراف وتهديد الميليشيات
- 2 مايو 2023, 3:43:57 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
تتشابه تفاصيل الصراع العسكري الدائر اليوم في السودان مع تفاصيل صراعات تفجرت قبله زمنيا في بلدان إفريقية تجاوره كجمهورية جنوب السودان وإثيوبيا وإفريقيا الوسطى وليبيا أو تقع غير بعيدة عنه كالكونغو ورواندا وبوروندي.
في جميع هذه الحالات، ماضيا أو حاضرا، تنخرط قوى تمثل (أو تدعي تمثيل) مجموعات عرقية أو قبلية أو دينية أو جغرافية متناحرة في مواجهات مسلحة هدفها إما السيطرة على أدوات الحكم، أو احتكار المزيد من الثروات الطبيعية والموارد الاقتصادية، أو إقصاء الآخرين، أو الحصول على الحق الحصري للدفاع عن مصالح أطراف إقليمية ودولية كبرى بما يحمله ذلك من امتيازات عسكرية ومالية وسياسية، أو من أجل كل ما سبق.
وفي سياق المواجهات المسلحة، وهي إما ترتب حروبا أهلية جزئية أو شاملة قد تقصر مدتها أو تطول، تتشكل أو يشتد الساعد البشري والتسليحي والتنظيمي لكيانات عسكرية متناحرة تنافس الجيوش الوطنية على حق استخدام القوة الجبرية في البلدان المعنية ويمكن توصيفها إما كميليشيات أو كمجموعات من المحاربين المحترفين / المرتزقة الذين يقدمون خدماتهم نظير مقابل مادي أو مالي أو سياسي أو مجتمعي. وفي بعض الحالات، تتعاون الميليشيات ومجموعات المرتزقة مع الجيوش الوطنية التي توكل إليها مهام قتالية أو واجبات السيطرة في مناطق بعينها من البلدان المعنية إما لضمان تفرغ الجيوش لأمور أخرى أو بسبب الخوف من محدودية فاعلية القوات النظامية في مواجهات عرقية وقبلية ودينية وحروب أهلية عادة ما تكون إلى حروب العصابات أقرب.
تحضر كافة هذه التفاصيل في السودان اليوم. فالصراع الدائر بين الجيش الوطني بقيادة الفريق البرهان وبين قوات الدعم السريع بقيادة الفريق حميدتي هو، على مستوى أول، تناحر بين المركز في الخرطوم وبين الأطراف الكثيرة في البلد الكبير. منذ الاستقلال في خمسينيات القرن العشرين، سيطرت قوى المركز بمكونيها العسكري ممثلا في الجيش والمدني ممثلا في فاعليات قبلية ومجتمعية وسياسية مختلفة على الحكم، وسخرت الثروات الطبيعية والإمكانات الاقتصادية والمادية لخدمة مصالحها، وهمشت الأطراف متجاهلة متطلبات التنمية البشرية والحقوق العادلة لسكانها، وتورطت في خطاب تفوق عنصري زائف ضد مواطني السودان ذوي الأصول الإفريقية غير العربية وذوي الانتماء الديني غير الإسلامي.
دون جيوش نظامية تحتكر حق استخدام القوة الجبرية في البلد المعني لا بقاء للدول الوطنية ولا استقرار لمؤسساتها ولا أمل مستقبلي من ثم في حكم القانون وتناوب السلطة والديمقراطية
ولم تكن النتيجة غير تمرد الأطراف الكثيرة في الجنوب والشمال والشرق والغرب على هيمنة المركز ومطالبتها بالاقتسام العادل للسلطة والثروة، وهو ما نزعت قوى المركز إلى مواجهته عسكريا مرتبة بذلك حروبا أهلية طويلة المدى انتهت في الجنوب إلى استقلال جمهورية جنوب السودان في 2011، وهدأت في الشمال الغربي في دارفور بعد حرب دامية وتصفية عرقية وفظائع ضد الإنسانية بين 2003 و2011، وتظل قابلة للاشتعال مجددا في دارفور وكردفان والنيل الأزرق والنوبة وأطراف أخرى.
على هذا المستوى الأول، يدور الصراع الحالي بين قوى المركز ممثلة في الجيش السوداني وقائده البرهان المنتمي إلى المركز في الخرطوم وبين قوى الأطراف ممثلة في قوات الدعم السريع التي يقودها حميدتي المنتمي عرقيا إلى القبائل العربية خارج المركز وجغرافيا إلى دارفور وينظر إلى قواته كمدافع عن مصالح السودانيين من سكان الأطراف، وذلك على الرغم من ماضي تورطها (ميليشيات الجنجويد) في التصفية العسكرية لحرب دارفور لصالح المركز (نظام الرئيس السابق البشير). هذا المستوى الأول هو الذي يفسر تحالف بعض فاعليات المركز القبلية والمجتمعية والسياسية في الخرطوم مع قيادة الجيش، في مقابل تحالف بعض فاعليات الأطراف ومن بينها قوى مندرجة في تحالف الحرية والتغيير المطالب منذ 2019 بالتحول الديمقراطي مع حميدتي وقوات الدعم السريع.
على المستوى الثاني، تحضر في صراع السودان كافة حقائق وملامح التناحر بين الجيوش النظامية من جهة والميليشيات ومجموعات المرتزقة غير النظامية من جهة أخرى. أجرمت نخب مركز الخرطوم حين نزعت منذ الاستقلال إلى عسكرة التعامل مع تمرد الأطراف عوضا عن قبول اقتسام عادل للسلطة والثروة، وأجرم الرئيس السابق البشير حين سمح بتكوين وتسليح ميليشيات لتحارب في الأطراف كبديل للجيش. فالنتيجة الكارثية هي تعدد الكيانات العسكرية وشبه العسكرية في السودان، وتفجر صراعات حاملي السلاح النظاميين وغير النظاميين على السلطة والثروات الطبيعية والموارد الاقتصادية، وتبلور شبكات مصالح إقليمية ودولية معقدة تدعم هذا الطرف أو ذاك.
وليس لكافة هذه العوامل غير أن تطيل من أمد الصراع الراهن وتضع السودان في مهب خطر حرب أهلية مدمرة، خطر انهيار الدولة الوطنية، والمزيد من التفكك الإقليمي، وتقضي حتما على كل فرص التغيير السياسي السلمي والديمقراطي. دون جيوش نظامية تحتكر حق استخدام القوة الجبرية في البلد المعني لا بقاء للدول الوطنية ولا استقرار لمؤسساتها ولا أمل مستقبلي من ثم في حكم القانون وتناوب السلطة والديمقراطية.
على المستوى الثالث، يعبر الصراع بين الجيش وقوات الدعم السريع، بين البرهان وحميدتي، عن تحول الأدوات العسكرية إلى مكون أساسي في إدارة قضايا الحكم والسلطة والثروة. طالبت جموع الشعب السوداني بالتغيير السلمي والديمقراطي في انتفاضة مبهرة بين 2018 و2019، ونجحت في إجبار قيادة الجيش على الإطاحة بالرئيس السابق البشير وعلى التفاوض مع القوى المدنية ممثلة في تحالف الحرية والتغيير بشأن انتقال آمن إلى تداول سلمي للسلطة وحكم القانون. غير أن ماضي وحاضر تدخل الجيش في السياسة والحكم في المركز في الخرطوم، وماضي وحاضر الحروب الأهلية في أطراف السودان الكثيرة والتنازع على السلطة والثروة، والتوظيف المتكرر للمعادلات الصفرية بين المركز والأطراف والمستندة إلى مقولات عنصرية ودينية شوفينية، أفشل مساعي الانتقال الآمن نحو حكم ديمقراطي بين 2019 و2023.
فأقصى تحالف بين البرهان وحميدتي القوى المدنية (ممثلة في رئيس الوزراء السابق عبد الله الحمدوك) في 2021 موظفين لأدواتهم العسكرية. ثم تورط الطرفان في صراع صفري على السلطة والثروة، انفجر خلال الأيام الماضية صراعا بالأدوات العسكرية وباستدعاء الداعمين الإقليميين والدوليين ويهدد مجددا البلد الذي يعاني منذ الخمسينيات من غياب الاستقرار بحرب أهلية طويلة المدى.