- ℃ 11 تركيا
- 21 نوفمبر 2024
عمرو حمزاوي يكتب: اليمين المتطرف في كل مكان… حالة ألمانيا
عمرو حمزاوي يكتب: اليمين المتطرف في كل مكان… حالة ألمانيا
- 11 يوليو 2023, 3:54:51 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
خلال الأيام الماضية، نجح اليمينيون المتطرفون في ألمانيا وللمرة الأولى منذ هزيمة النازية (1945) في الفوز بمقاعد منتخبة في الحكومات المحلية بولايات الشرق. وأضاف حزب «البديل لألمانيا» بمكاسبه الانتخابية هذه بعدا جديدا لصعوده السياسي بعد نفاذه إلى البرلمان الاتحادي (البوندستاغ) وإلى بعض برلمانات الولايات ومع حضوره الاحتجاجي الواسع فيما خص ملفات الهجرة واللجوء وسياسات الاتحاد الأوروبي. وبذلك، يقترب مشهد اليمين المتطرف في ألمانيا من مشهده قبل سنوات في بلدان أوروبية مثل النمسا وإيطاليا والسويد والدنمارك والتي صارت اليوم إما مع حكومات يقودها اليمين أو يشارك بها أو يضمن لها الاستمرار كحكومات أقلية في النظم البرلمانية.
ويصبح السؤال المطروح على أحزاب يمين ويسار الوسط كالمسيحي الديمقراطي والاشتراكي الديمقراطي وعلى مجمل القوى السياسية في ألمانيا هو كيف يمكن تفادي وصول قوى اليمين المتطرف إلى مقاعد الحكم في بلد دمر بها اليمين من قبل الديمقراطية وحكم القانون وأغرق العالم في حرب مجنونة وكارثية وارتكب جرائم إبادة مفزعة وحمل بها المجتمع ذنبا تاريخيا لم يتخلص منه بعد؟
والحقيقة أن لصعود اليمين المتطرف في ألمانيا العديد من الأسباب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي لا تختلف عن أسباب الصعود في بقية البلدان الأوروبية. فمن التداعيات السلبية لتراجع معدلات النمو الاقتصادي والمتمثلة في ارتفاع معدلات الفقر والبطالة، مرورا بأزمات المهاجرين واللاجئين الذين دوما ما يستخدمهم اليمين المتطرف كوقود لمقولاته العنصرية ولدعاية الحفاظ على هويات وطنية «نقية» وصولا إلى فضائح الفساد التي تلاحق مسؤولين حكوميين وسياسيين وعدم الرضاء الشعبي عن الدور الكبير الذي صار للاتحاد الأوروبي ومجالسه المختلفة في حياة الألمان؛ على خلفية كل ذلك يصعد اليمين المتطرف ممثلا في حزب البديل لألمانيا ويضغط على الحياة السياسية الألمانية بمقولات شعبوية في الاقتصاد جوهرها الابتعاد عن الاتحاد الأوروبي وإقرار سياسات حمائية، وبخطاب عنصري في السياسة يرفض الهجرة واللجوء حتى وإن كان سوق العمل الألماني في أمس احتياج للأجانب (يحتاج سوق العمل الألماني إلى مليون أجنبي في العام لسد عجز الأيدي العاملة في أغلب القطاعات الاقتصادية والخدمية) ودعاية احتجاجية متشددة تزعم خطر الأجانب (خاصة العرب والمسلمين) على الهوية الوطنية الألمانية.
غير أن لصعود اليمين المتطرف في ألمانيا خلفيات خطيرة خاصة تتعلق، من جهة أولى، بجاذبية الفكر العنصري لدى دوائر شعبية ليست بالصغيرة في الولايات الشرقية التي انقلبت بعد انهيار الحكم الشيوعي في 1989 على المقولات اليسارية ولم تقترب من مقولات يمين الوسط ويسار الوسط سوى بقدر يسير وانفتحت على خطاب ودعاية اليمين المتطرف على نحو لم يتوقعه كثيرون. ومثلت موجات الهجرة واللجوء المتتالية من موجة الحرب الأهلية في يوغسلافيا السابقة في التسعينيات وصولا إلى الموجة السورية في 2015 والموجة الأوكرانية في 2022 القضية الكبرى الممكن استغلالها من قبل اليمين المتطرف للحصول على تأييد الناخبين وتحريك الاحتجاجات في الشوارع.
كيف يمكن تفادي وصول قوى اليمين المتطرف إلى مقاعد الحكم في بلد دمر بها اليمين من قبل الديمقراطية وحكم القانون وأغرق العالم في حرب مجنونة وكارثية وارتكب جرائم إبادة مفزعة وحمل بها المجتمع ذنبا تاريخيا لم يتخلص منه بعد؟
من جهة ثانية، لا يمكن الفصل بين الصعود السياسي لليمين المتطرف في ألمانيا وبين أعمال العنف العنصري التي تزايدت في الولايات الشرقية خلال السنوات الماضية وأسقطت ضحاياها من المهاجرين واللاجئين والأجانب. لا يعرف الكثيرون خارج ألمانيا حقيقة أن المحاكم الألمانية تنظر إلى اليوم في اتهامات جنائية ضد منتسبين إلى مجموعات نازية جديدة وشبكات إرهابية متطرفة تورطت في قتل مهاجرين ولاجئين ومواطنين من أصول أجنبية.
أما السؤال عن سبل تفادي وصول اليمين المتطرف إلى مقاعد الحكم أو بعبارة أخرى عن استراتيجيات احتواء البديل لألمانيا وأشباهه، فإجابته ترتبط قبل أي شيء آخر بدور اليسار الجديد ممثلا في حزب الخضر في الحياة السياسية.
فاليوم، ترتكز أجندة اليمين المتطرف في ألمانيا إلى خطابين للكراهية، كراهية الغريب وكراهية أوروبا. أما كراهية الغريب فتتجه إلى مئات الآلاف من اللاجئين الذين وفدوا ألمانيا خلال السنوات الماضية وملايين المقيمين ذوي الأصول الأجنبية، وتروج بين الناس للخوف منهم على الرخاء الاقتصادي والسلام الاجتماعي والنظام العلماني والهوية الحضارية ـ الثقافية في ألمانيا. من جهة أخرى، ترتبط كراهية أوروبا بالترويج لرفض السياسات الاقتصادية والمالية والقانونية للاتحاد الأوروبي التي يرى بها اليمين المتطرف ومعه قطاعات شعبية ليست بالمحدودة ظلما فادحا لألمانيا التي يختزل اليمين المتطرف علاقتها بأوروبا في المساعدات الاقتصادية والمالية للبلدان المأزومة في جنوب القارة، وفي فتح سوق العمل الألماني أمام عمالة رخيصة من وسط وشرق أوروبا على نحو يضر بأجور الألمان، وفي تدخل الاتحاد الأوروبي ومؤسساته الاقتصادية والمالية في قرارات الحكومة الألمانية. ثم يترجم اليمين المتطرف خطابي الكراهية هذين إلى مطالبة مباشرة بترحيل اللاجئين وإغلاق الأبواب أمام المهاجرين، وإلى تبني مقولات الانسحاب من الاتحاد الأوروبي والتوقف عن الإنفاق على عموم أوروبا من حصاد عمل ومدخرات الألمان.
موضوعيا، يتجاهل خطاب الكراهية ضد اللاجئين والمقيمين ذوي الأصول الأجنبية القدرة الاقتصادية والاجتماعية لألمانيا على استيعاب لاجئين لم يقترب عددهم الإجمالي أبدا من الملايين الذين يتوزعون في الشرق الأوسط على بلدان مثل تركيا ولبنان والأردن ومصر لا تمتلك الإمكانيات الاقتصادية والمالية لألمانيا، وينكر كذلك الإسهام الإيجابي لملايين الأجانب الذين يشاركون في صناعة التفوق الألماني ويقدمون نموذجا لألمانيا جديدة متنوعة ومنفتحة على العالم. موضوعيا أيضا يتجاهل خطاب الكراهية ضد أوروبا الاستفادة الاقتصادية والتجارية الكبرى لألمانيا من الاتحاد الأوروبي والتي تدركها بوضوح نخب السياسة ومجتمع الأعمال في ألمانيا مثلما تدرك خطورة انهيار الاتحاد، خاصة بعد ما سبق من خروج بريطانيا من الاتحاد.
أما النتيجة السياسية العريضة فهي خصم صعود اليمين المتطرف على نحو مقلق من شعبية يمين الوسط في ألمانيا ممثلا في الحزب المسيحي الديمقراطي والحزب المسيحي الاجتماعي (الشريك الإقليمي للمسيحي الديمقراطي والمقتصر تنظيميا وانتخابيا على ولاية بافاريا الجنوبية) والحزب الديمقراطي الحر.
هذه الأحزاب الثلاثة تتحمل العبء السياسي المباشر لصعود اليمين المتطرف. فمن جهة، تتراجع بانتظام نسبة الأصوات الانتخابية التي يستحوذ عليها يمين الوسط. ومن جهة أخرى، تحت وطأة خطابات الكراهية ومقولات الخوف على «هوية ألمانيا ودخول مواطنيها الأصليين» التي ينشرها اليمين المتطرف تنحرف الأجندات السياسية ليمين الوسط تدريجيا في اتجاه أكثر تشددا وتخرج من بين صفوفها أصوات تطالب أيضا بترحيل اللاجئين وإغلاق أبواب الهجرة والامتناع عن «الإنفاق» على بلدان أوروبا المأزومة. والنتيجة هي، من جهة، تراجع معدلات تأييد الناخبين لأحزاب يمين الوسط التي خسرت الانتخابات البرلمانية الأخيرة ولم تعد تسيطر على مؤسسة المستشارية. ومن جهة أخرى، يغير يمين الوسط من تفضيلاته السياسية بشأن استقبال اللاجئين ويقبل الإغلاق النسبي لأبواب الهجرة وينتقد الاتحاد الأوروبي وقراراته وتدخلاته بين الحين والآخر.
أما اليسار التقليدي ممثلا في الحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب اليسار، فيدفع أيضا ثمنا لصعود اليمين المتطرف وللرفض الأخلاقي والسياسي لليسار لمجاراة خطابات الكراهية. انتخابيا، تنجرف بعض القطاعات المهنية والعمالية والمجموعات السكانية محدودة الدخل إلى التصويت الانتخابي لليمين المتطرف بعد أن استمرت لعقود طويلة على ولائها للحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي يظل مهددا سياسيا وانتخابيا على الرغم من فوزه بالانتخابات البرلمانية الأخيرة.
ولا ينجو من مقصلة صعود اليمين المتطرف سوى حزب الخضر الذي يحصد تأييد الشباب والعديد من سكان المدن الكوزموبوليتية كالعاصمة برلين والمدن الشمالية هامبورج وبريمن ومدن الجنوب الغنية كشتوتغارت وفرايبورغ. تدريجيا، يقترب حزب الخضر من منافسة الحزب الاشتراكي الديمقراطي على موقع الأخير كممثل اليسار الأهم في السياسة الألمانية. والسبب في ذلك هو أجندة الخضر القاطعة في تقدميتها الليبرالية الرافضة لخطابات الكراهية والمدافعة عن الحقوق والحريات والقيم الإنسانية، وليبرالية وبراغماتية الطرح الاقتصادي للخضر الذي لم يعد به من الرؤى اليسارية التقليدية الشيء الكثير. اليوم يشارك الخضر في الائتلاف الحاكم ويسيطرون على وزارات مختلفة من بينها الخارجية والاقتصاد ويدفعون الشريك الأكبر، الاشتراكي الديمقراطي، إلى سياسات تقدمية في مجالات متعددة ستأخذ حتما الكثير من الوقت حتى تثمر، غير أنها تذهب في اتجاه احتواء اليمين المتطرف وإبعاده عن دوائر الحكم.