- ℃ 11 تركيا
- 21 نوفمبر 2024
قراءة في كتاب شريعة الصحراء لرفعت الجوهري
قراءة في كتاب شريعة الصحراء لرفعت الجوهري
- 13 يونيو 2021, 2:31:47 ص
- 1676
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
في كتاب نادر.. حياة من لا نراهم وشريعتهم| حتى متى لا نعرف أرضنا وأهلنا؟!
ما الذي نعرفه عن صحارى مصر؟ عن أهلها وأعمالهم وعاداتهم وقوانينهم؟ هل البدو كما صورت لنا كثير من الروايات والأعمال الفنية رحل لا عمل لهم إلا الغزو والسلب؟ هل هم متشابهون متطابقون كحبات الرمل وأسنان المشط؟ من أين جاءوا؟ وكيف استقروا في هذه البيد المهلكات؟ ثم أليس لكل تجمع شريعة تحفظ وجوده.. ما شريعة هؤلاء التي حفظتهم عبر آلاف السنين؟ هذا ما يحاول هذا الكتاب عرضه.
"ولما كانت الحكومة الآن بصدد تعمير الوادي الجديد مما يتطلب أن يقف الأهالي، وبخاصة هؤلاء الذين سيرحلون إلى هذا الوادي على طباع وعادات سكان الوادي الأصليين.. نرجو التكرم بالموافقة على طباعة هذا الكتاب" تأتي هذه التوصية في تقرير (مكتب العادات والتقاليد التابع لوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل) بعد بيان أهمية الكتاب وعدم توفر معلومات كافية تسبقه؛ لتبرهن على الوعي المؤسسي بدور البحث والمعرفة، حول موضوع يشغل تسعة وتسعين بالمئة من مساحة مصر آنذاك؛ أعني الصحراء.
"والهدف الأول من وضع هذا الكتاب هو المساهمة في رسالة الإيمان للأمة العربية والقومية العربية وإشاعة الضياء أمام أعينهم والمشاركة في نهضة الأمة المباركة في هذا العهد الحديث، وتوجيه الباحثين لأسها السب في معالجة وتوجيه البدو توجيها صحيحًا علميًّا وعمليًّا" بهذه الكلمات قدم رفعت الجوهري كتابه الموسوم بشريعة الصحراء، وهو في الأصل مجموعة من الأبحاث والدراساات التي قدمها المؤلف في المؤتمر العام للتقاليد والعادات الذي أقيم في فبراير 1957.
أول ما يأخذ القارئ في الكتاب هو الموضوع النادر، ثم الشمول والإحاطة بهذا النادر شاسع الصعوبة؛ فالنيل شريط ضيقٌ ونظرًا للتركز السكاني حوله؛ فقد حظي بالاهتمام كله تقريبًا فيما لم تلق الصحراء المصرية الاهتمام الذي تستحقه، بل مما يلاحظه المؤلف أن هناك آبارًا وطرقًا استغلها اليونان والفراعنة وهُجرت في العصور الحديثة.
الكتاب يُصدَّر بشكر وإهداء وتقرير لجنة العادات والتقاليد، ويتضمن تعريفًا بصحراء مصر، وخمسة أبواب يتناول كل باب منها جزء خاص بالصحاري المصرية، ويحتاج كل قسم إلى الوقوف به وقفة متأنية.
في تعريف الكاتب بالصحراء يتحدث عما أسماه جاذبية الصحراء، وفيه يستعرض بشكل بلاغي قيمة الصحراء تاريخيًا – دون أرقام أو إحصاءات أو هوامش – فكأنه شاء بهذه المقدمة عمل جسر إنساني بينه وبين قارئه، وقد قسم الكاتب الصحراء ثلاثة أقسام؛ الصحراء الغربية، ولست أدري لماذا سماها بصحراء ليبيا؟! والصحراء الشرقية (صحراء البحر الأحمر) وصحراء سينا، وقد كتب الاسم هكذا مقصورًا لا على ما جرت به الكتابة الشائعة سيناء. ويمكن تشبيه هذا التعريف بنظرة طائر خاطفة وسريعة.تحاول ربط التاريخ بالجغرافيا بعلوم الإنسان بالآثار.
في الباب الأول الموسوم بـ"الشرائع والعادات والتقاليد العامة للقبائل البدوية" يقدم مسردًا لأهم ما يميز البدو عن الفلاحين والمدنيين؛ ويعطي هذا المسرد رؤية بانورامية لما يخص البدو من صفات خُلقية وجسدية واجتماعية، ومأكل ومشرب وملبس ومسكن وعلاقات اجتماعية وعقائد دينية، وحل وترحال ومرض وعلاج، ويبدو منذ هذا الباب ميل الكاتب إلى استخدام مصطلحات البدو التي يتضح أنه فقهها من طول معايشته لهم، فهو يتحدث عن "الخيوش" وهي الخيام التي يسكنها البدو، والعضلة والوخم..
هذا الباب يشبه التعريف في أنهما وصف عام، أحدهما للمكان وخصائصه، والثاني للسكان وطبائعهم.. ولو ضمهما الكتاب في باب واحد لكان أكثر قيمة، والتوغل في الكتاب ستقودنا إلى أن الكاتب قدم تقاريره المهمة للمؤتمر ثم جمعها في كتاب واحد، دون أن ينظر إلى الفرق الناتج عن هذا الجمع.
ويتضمن هذا الباب مبحثًا مهمًّا للغاية وهو القبائل البدوية، ويقدم فيه محاولة مهمة في البحث السكاني وإن كان يعوزها التنظيم والدقة والشمول والمراجعة الدقيقة، ولو حدث لكان هذا المبحث مرجعًا مهمًّا لكن وجود أخطاء مثل عنونة المبحث بالقبائل البدوية النازلة على ضفاف النيل، ثم حديثه عن بدو عمق الصحراء، ثم وجود عنوان عن البدو في مديريات مصر مع مسرد مختصر يرد فيه اسم المديرية ثم أسماء القبائل، وفيما يذكر أسماء 37 قبيلة (ص62) لا يتحدث عنها كلها، ولا يلتزم بالترتيب، ولا يسير على منهج واحد فيعطي بعض القبائل مساحة كبيرة متتبعا أماكنهم وأدوارهم التاريخية (أولاد سليمان ص63 – 64) يعطي الرماح ثلاثة أسطر منها سطر عن حمد الباسل! (ص67) وفيما يلتزم بترقيم القبائل حتى رقم ثلاثة يسقط ذلك الترقيم من 65، واللافت أنه لا وجود في محتويات الباب الأول (ص 25 ذكر للمبحث الخاص بالقبائل وأسمائها.
الباب الثاني الذي يعنون بصحراء سيناء والصحراء الشرقية ويقسم إلى خمسة أقسام ويلفت الانتباه تمميز الكاتب ووعيه من خلال؛ أولا ضم صحراء سيناء والصحراء الشرقية في باب واحد نظرًا لعدم وجود فاصل بينهما؛ فكلتاهما امتداد للأخرى، والثاني التقسيم الداخلي للصحراء الشرقية؛ إذ جعلها ثلاثة أجزاء؛ الصحراء الشرقية الشمالية وهي المحاذية لسيناء، والوسطى وهي المحاذية لمحافظات الصعيد وجبال البحر الأحمر، وهذان الجزءان متحدان في الملامح العامة (عروبة البدو – الارتباط بسيناء – الطباع العامة والأعراف السائدة) أما الجزء الثالث؛ الصحراء الشرقية الجنوبية، فيأتي فصله دليلا على خبرة الكاتب بالفروق السكانية وإن ضمها إطار جغرافي عام.
جعل الكاتب الباب الثاني خمسة أقسام، الأول عرض بشكل عام لوصف سيناء والصحراء الشرقية، وهو هنا أشبه بتحديد نطاق البحث العام، بعدها يخصص قسما للقبائل البدوية في سينا، ويتبعه بقسم عن القبائل البدوية في الصحراء الشرقية (الشمالية والوسطى) ثم يجمعهما في القسم الرابع حين يتحدث عن الرائع والعادات والتقاليد البدوية. ويأتي القسم الخامس الخاص بالجزء الجنوبي من الصحراء الشرقي تحت عنوان: قبائل البجه بالصحراء الشرقية الجنوبية وعاداتهم وتقاليدهم. ويحدد الكاتب في هذا القسم بدقة موقع هذه القبائل (حدها الشمالي الطريق بين قنا والقصير، وجنوبًا إلى حدود الهضبة الحبشية) كما يعتني بعددهم (ويقدر عددهم بمليونين ونصف المليون يقطن ثلثهم داخل الحدود المصرية.
يأتي االباب الثالث ويجعله الكاتب عن القبائل البدوية بالصحراء الغربية، ويقسمه قسمين الأول: قبائل الصحراء الغربية، والثاني القانون العرفي لقبائل أولاد علي والعادات والتقاليد، ويتلوه عرض لقضية بدوية.
يتناول المؤلف تاريخ أولاد علي وحركتهم من ليبيا إلى مصر وحروبهم ونزاعاتهم وعهودهم، والقبائل المتحالفة معهم، وعلى أهمية هذا القسم فإنه كان بحاجة إلى مراجعة تاريخية دقيقة خصوصًا فيما يخص أصول أولاد علي وأسباب رحيلهم من ليبيا؛ إذ يعتمد الكاتب على الروايات الطريفة الشفاهية في كثير من الأحيان، مثل قصة استعانة الحرابي بالحاكم لطرد أولاد علي.
ويحوي هذا الباب قسمًا قيما للغاية وهو المعني بالقضاء البدوي، ويورده الكاتب كاملاً ويتضح فيه عناية هذه القبائل بكل تفاصيل الحياة، كما يتضح في هذا القانون النضوج والدقة والتكامل، ويمكن ملاحظة هذا من تقسيم القتل والضرب فنرى مثلاً؛ ضرب سليم وضرب عديم ثم نرى تقسيم الضرب بحسب النتيجة: (الضربة الموضحة، والضربة الهاشمة، والضربة الميمونة، والضربة الجايفة) ثم يقسم أنواع الضربات فمثلا يقسم الضربة الهاشمة إلى نوعين؛ سلامة وعديم. ويستتبع هذا التقسيم، تقسيمًا موازيا في أنواع العقوبات، كما يتناول القانون تحت عنوان شرائع أخرى مجموعة مهمة من السلوكيات البدوية التي يندر معرفتها مع تتبعها قانونيًّا؛ مثل النزلة والصنيعة والنصرة، وقتل الحيوانات وتعديها، ويمكننا قراءة (حطاط المال والقتال) فيبدأ القانون بتعريف الحطاط، ثم يدرج العقوبات الواقعة عليه في كل حالة:
الحطاط في عرف العرب هو الشخص الذي يرشد السارق لمحل المال ليسرقه ويرشد القاتل عن محل المقتول ليقتله أي يعتبر أنه جاسوس.
1- إذا نتج عم إرشاد المرشد سرقة المال أو الجمال او المواشي أو النقدية فيكون الحطاط مسئولا تماما عن كافة الأشياء الت سرقت.
2- إذا نتج عن إرشاد المرشد قتل الشخص يكون مسؤولا عن دفع مبلغ مائة جنيه.
3- وعلى كل حال الحطاط مسؤول تمامًا عن أي صغيرة وكبيرة يكون أرشد عنها.
يرد في ص 205و ص 210، صورتان للتعامل مع مشكلات البدو، ففي الأولى صورة لقضية بدوية نظرتها محكمة البدو التابعة لمصلحة الحدود عام 1937، وهي قضية معقدة؛ إذ يطالب المدعي بدية شخص مات في السجن بتدبير المدعي عليه، وشخصين بعد الصلح، ودية لضربهما بعد قتلهما، وقد شكلت المحكمة من رئيس يتبع وزارة الداخلية، وثلاثة محلفين من شيوخ القبائل.
يورد المؤلف بعدها محضرًا عرفيا يرجع تاريخه إلى ديسمبر 1939، ثم محضر صلح يعود تاريخه إلى سبتمبر 1939مجلس عرب في أكتوبر 1930، وتعطي هذه القضايا المختلفة صورة واضحة لاستقرار القانون العرفي ونفاذه واعتماد الدولة بشكل رئيسي عليه.
الباب الرابع يذهب إلى واحة سيوة، ويبدو من تقسيمه الدقيق أمران؛ الأول دراية الكاتب الواسعة والثاني استقرار أهل هذه المنطقة وإيمانهم بالقانون، في البداية يورد الكاتب تعريفًا بتاريخ واحة سيوة، ومعابدها وآثارها، ثم ينتقل إلى التعريف بأخلاق أهالي سيوة واعتقاداتهم، ويبين بعد ذلك العلاقة بين الواحة والحكومات المصرية، فيما تختص الأقسام الرابعة المتبقية بالقضاء في سيوة واختصاصات مشايخها، وتعرض لقانون خاص بأهالي الواحات تم وضعه بالاتفاق بين مشايخ الواحة عام 1896، وبمعرفة مسؤولي الحكومة المصرية، ثم يأتي قانون ربط الأموال (الضرائب) وطرق تحصيلها.
يأتي الباب الخامس متناولا الوادي الجديد بواحاته؛ الداخلة والخارجة والفرافرة، ويقوم بعرض عام لواحات مصر الخمس، ومواقعها وأهم الظواهر الطبيعية والمناخية فيها، ثم يتحدث عن تاريخ الواحات الخارجة من الفراعنة حتى العهد الإسلامي، ويورد بعض زوار الواحات الغربيين المشهورين.
في القسم الثاني يتعرض للتركيبة السكانية وأشهر العادات والتقاليد، ويعرج بشيء من الوصف الطويل على الأفراح، ويأتي القسم الثالث للحديث عن عادات أهل الخارجة وتقاليدهم، بخصوص المواسم والأعياد الدينية، كما يتعرض لعادة شرب الخمر وأسباب انحسارها، وفي القسم الرابع يتحدث عن التشريع بالواحات الداخلة والخارجة، وفي القسم الأول حديث عن تاريخ القضاء منذ العصر الروماني حتى قانون 1922، ونظرًا لندرة الماء نلحظ وجود شريعة توزيع المياه بين المزارعين، ونلحظ هنا وضوح نظام الضرائب وهو ما يعرضه القسم الثالث، لكن الغريب جدا هو قيام المؤلف بعرض ما يخص الواحات البحرية؛ الموقع الجغرافي، والمياه، والزراعة، والبلاد، والحيوانات، والرواد والتاريخ والآثار.
نحن أمام كتاب يقوم بعملية مسح شامل لصحارى مصر، وهو جهد لا يقوم به فرد وحده، وقد لاحظت أنه مما ساعد مؤلف الكتاب على إنجازه توفر عدد من الظروف النادرة منها عمله منذ فترة مبكرة في الصحراء، واحتكاكه المباشر بأهلها، وقيامه بالتحكيم في قضاياهم.. وهذا الكتاب على أهميته الشديدة يثير غصة بالغة؛ إذ ثمة إهمال سبق الكتاب وتلاه؛ بحيث تبقى هذه الصحارى بسكانها مجهولين بالنسبة لسكان الوادي والدلتا.
لا يخلو الكتاب من هنات ترجع إلى عدم تمرس صاحبه بفن الكتابة، وإلى كونه في الأصل مجموعة من الأبحاث والدراسات، وأهم هذه الهنات عدم خضوع الكتاب لنظام محدد في دراسة الصحارى المختلفة وسكانها، وعدم الرجوع إلى أي مصادر تناولت هذا الموضوع – خصوصًا وقد أشار المؤلف إلى بعض المؤلفين – كما أن هناك مشكلات تخص تداخل المحتويات؛ فنجد الحديث عن الواحات البحرية وهو يتحدث عن التشريع في الواحات الداخلة والخارجة.
ما زلنا ننظر إلى واحة سيوة على أنها مكان إنتاج الزيتون والتمر، ويقف بنا النظر أمام الصحراء الغربية دون أن نعرف قاطنيها، أما سيناء فمزاراتها السياحية هي الأكثر ذكرًا، وتكاد الصحراء الشرقية تختفي تمامًا من ثقافتنا، أما الوادي الجديد فهو بالنسبة لنا لغز أحاطت به الرمال من كل جهة.
ما أحوجنا الآن مع التوسع العمراني، وزيادة السكان إلى معرفة هذه الأماكن ومعرفة طبيعة أهلها وعاداتهم وكيفية معيشتهم؛ فهل يمكن بعد قرابة الستين عامًا من إصدار هذا الكتاب أن نجد اهتمامًا بهذه الصحارى خصوصًا مع تطور وسائل المواصلات والاتصالات، والأهم أن هذه المعرفة ستمكننا من معرفة أرضنا وأهلنا، ولست أدري وقد توغلنا في القرن الحادي والعشرين كيف ننظر إلى أنفسنا ونحن نكتشف أن عناية قدماء المصريين والرومان بهذه المناطق كانت بالغة فيما نحن لا ندري عنها شيئًا.
وياتي عرض هذا الكتاب فرصة لمناشدة الجهات المختصة بأن تولي هذه المناطق الاهتمام الكافي، ولنبدأ بموقع إلكتروني يعرض الأبحاث والصور ويمكن أهل هذه المناطق من تدوين ما لديهم، ولمناشدة الباحثين المصريين المتخصصين أن يخرجوا أبحاثهم إلى النور.. اجعلوا أهلنا في النور.