لطفي العبيدي يكتب: الطريق مفتوحة أمام إعدادات جديدة للقوة العالمية… ماذا عن الرهانات؟

profile
  • clock 28 أبريل 2023, 3:15:42 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

النظام الدولي بقيادة أمريكا وحلفائها الغربيين تمّ تنظيمه ليتمحور حول الانفتاح الاقتصادي، المؤسّسات متعدّدة الأطراف، التعاون الأمني وما يسمّى التضامن الديمقراطي. هذا في الظاهر، ولكن يبدو أن تطور الحضارة، وكذلك توسع النماذج البيروقراطية للحكم، رافقتها القدرة التنظيمية والأيديولوجية على ارتكاب العنف وتدمير الدول، وانتهاك حقوق الشعوب في الأمن والسلام. وهذه الظواهر السلبية لم تشهد انحسارا مع تطور الحضارة ومَقْدَم الحداثة والديمقراطية الاجتماعية كما يحلو لهم تسميتها. العكس تماما هو ما حصل، ويكفي ما وصل إليه العالم اليوم من أزمات ليس أقلّها التهديد النووي ومشاكل الاقتصاد والغذاء والطاقة، خاصة كارثة المناخ وتهديداته الوجودية على البشرية جمعاء.
ما شدّد عليه أستاذ علم الاجتماع سينيشا مالشيفيتش في سياق صعود الوحشية المنظمة، ومحاولة اقتفائه أثر الديناميات الاجتماعية للعنف المنظم عبر الزمان والمكان، لا يخيّبه واقع اليوم، خاصة مع تفاقم العمليات التاريخية الثلاث المترابطة، وهي البقرطة التراكمية للقسر والإملاء، على شاكلة تواصل حرب العقوبات والحصار المالي، كذلك الأدلجة المركزية الطاردة، ويكفي التذكير بالتدخلات الانتقائية التي يتم تكييفها حسب الأهمية الجيواقتصادية والطاقوية للدول المستهدفة، إضافة إلى تطويق التضامنات الجزئية، وهو ما يفسّر المصالح السيادية المشتركة بين موسكو وبكين وكيانات إقليمية أخرى، على غرار إيران وكوريا الشمالية مثلا، في مواجهة محاولات التطويق والاستنزاف الأمريكية، وتنامي شراكتهما الاستراتيجية وتعزيز التعاون، وتمتين التحالف حتى العسكري الذي تخشاه واشنطن بين قوتين بحجم روسيا والصين، يعد منطقيا، وتبريره يأتي من أعلى مستويات رسمية في هذه الدول العظمى، بالتأكيد أنّ صلاحية مؤسسات القطب الواحد، وعصر العولمة الأمريكية قد انتهت، وآن أوان عصر «اللاقطبية العالمية»، أو العالم متعدد الأقطاب. ربّما تُمثّل أزمة اليوم نهاية للمسار العالمي للحداثة الليبرالية والبيئة الاستراتيجية المتغيرة، تقود إلى نمط من نظام ما بعد أمريكي ونظام ما بعد غربي.. قد يبقى محافظا بشكل نسبي على انفتاحه وقواعده الأساسية دون شك، وتأتي كل هذه التحولات المتسارعة على نحو جزئي طبعا، نتيجة تراجع الولايات المتحدة الأمريكية في أكثر من ساحة، آخرها الانسحاب من أفغانستان بعد عقدين على احتلالها لهذا البلد الفقير، وهزيمتها في العراق، بعد احتلاله وتدمير الدولة فيه، ومن ثم بروز أكبر أزمة مالية للولايات المتحدة عام 2008، ينضاف إلى ذلك الانقسام الحاد في الداخل الأمريكي الذي تجلى في اقتحام الكابيتول، وفي رفض الرئيس السابق دونالد ترامب الاعتراف بنتيجة الانتخابات الرئاسية 2020، واتهامه الديمقراطيين بالتزوير، والأزمة السياسية المتواصلة إلى الآن بين معسكر الجمهوريين مقابل الديمقراطيين في المؤسسات الرسمية، وانعكاساتها على النسيج الاجتماعي في الداخل الأمريكي.

التقارب الذي يحصل بين دول عربية وإقليمية، نهج سياسي صائب، من شأنه لو تعزز بإرادة صادقة، أن يوقف العبث بالمنطقة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية تحديدا

ترامب الذي يقود حملة انتخابية مبكرة، وجّه انتقادا شديدا لبايدن، وأكّد أن أخطاءه ومساوئ إدارته تتجاوز أخطاء خمسة رؤساء أمريكيين مجتمعين، معتبرا أنّ الدولار لن يبقى العملة الأولى، وهذا المستوى من التراجع ومؤشر الانهيار لم يحصل لأمريكا منذ مئتي عام، كلامه لم يجانب الصواب كثيرا، لأنّ ما يظل يفزع الإدارة الأمريكية هو تغيّر الهيئة الحالية للاحتياط النقدي العالمي، ودفع بعض الدول، وهي مجموعة بريكس تحديدا، نحو إضعاف الدّولار كعملة الاحتياطي العالمي باعتباره الرهان الحقيقي الذي سيقلب موازين القوى. موسكو وبكين تدركان جيدا أنّ ذلك لو استمر، فهو بمنزلة معادلة القوّة الجيوسياسية للولايات المتحدة، والضربة الموجعة لواشنطن اقتصادا وكيانا عالميا وازنا سياسيا واستراتيجيا. على الميدان حرب الجغرافيا والتمدد وصراع النفوذ، يجعل موسكو تحاول استعادة المجال الأوراسي، وإبعاد تهديد حلف الناتو الذي تمدد ناحية الشرق، بعد نشر الدرع الصاروخية الأمريكية شرقي أوروبا، في بولندا ورومانيا، وأيضا نشر الولايات المتحدة صواريخ متوسطة وقصيرة المدى في اليابان، وتوسيع البنية التحتية للحلف في دول البلطيق وبلغاريا، ومحاولاتها ضم جمهوريات سوفييتية سابقة إلى الحلف الأطلنطي، وصولا إلى تقسيم أوكرانيا إلى طرف موالٍ للغرب، وآخر موال لموسكو التي ما زالت تطالب بسحب قوات الناتو إلى المواقع التي تتمركز فيها منذ 1997، قبل أن يتوسع الحلف ليضم دولا سوفييتية سابقة في شرق أوروبا، ولمنع أيّ محاولة من الدول الأخرى للهيمنة على محيطها الإقليمي، تحاول الصين أيضا بطريقة ما أن تدفع الولايات المتحدة خارج منطقة آسيا – الباسيفيك، أكثر من الطريقة التّي دفعت بها الولايات المتحدة القوى الأوروبية الكبرى خارج نفوذ المجال الغربي للكرة الأرضية في القرن التاسع عشر. الجنون الأكبر الذي يمكن أن تذهب في اتجاهه أمريكا هو مواجهة مع الصين تكون كارثية على العالم، فتحت ضغط المجمع الصناعي العسكري ونفوذه المطلق في صنع القرار، بقي الهاجس الأمريكي يدور حول خلق فرص للاستثمار وبيع الأسلحة، والسيطرة على تدفقات المال والأعمال. ولا يضير واشنطن أن تدمر أوكرانيا تماما في سبيل مصالح استراتيجية وحيوية، أقلّها استنزاف روسيا وتجريب السلاح، ومن ثم إعادة الإعمار وتوطين الاستثمارات. وكل ما يُقدّم من أموال لن يكون مجانيا. فأمريكا ليست جمعية خيرية لتضخ كل هذا الدعم من أجل عيون زيلينسكي، أو بسبب ما تدّعيه من حماية الديمقراطية في وجه الديكتاتورية الروسية المزعومة. لفترة ليست بالبعيدة، كان من السهل ملاحظة الجهات الدولية الفاعـلة، والقدرات المتباينة بين الدول في رسم ملامح العلاقات الدولية والتأثيرات الاستراتيجية، ولكن الوضع العالمي اليوم تغير بشكل ملحوظ، ومحاولات واشنطن حشد القوة المتحالفة أو المنحازة الآن أو مستقبلا، هي عملية أكثر تعقيدا مما كان عليه الحال في مواجهة الاتحاد السوفييتي سابقا، يؤكد ذلك الزيارات المتتالية للقادة الأوروبيين لبكين تحت عنوان المصلحة الاقتصادية المشتركة، وأيضا تصريح ماكرون الأخير إثر لقائه الرئيس الصيني، حيث جدّد دعوته بضرورة أن تتخلص أوروبا من أن تكون تابعة لأمريكا، تنجر وراء مغامراتها، وتأكيده الواضح على أهمية أن تبقى دول الاتحاد محايدة في سياق التنافس الصيني الأمريكي مهما تفاقمت تداعياته.
في غياب الآليات الدبلوماسية التقليدية التي أديرت بها نزاعات سابقة، ومنعت الانزلاق نحو المواجهة، ومع اشتداد المنافسة بين القوى الكبرى على افريقيا ومنطقة الشرق الأوسط، والصراع على الموارد، والتكالب على النفوذ والتمكين الاستراتيجي. على دول المنطقة مجتمعة ضمن رهانات المرحلة الملحّة، أن تتبع النزعة الاستقلالية التي حدثت في بلدان جنوب القارة الأمريكية، تلك التي تحركت بشكل جدّي نحو التكامل، وطرد القواعد العسكرية الأمريكية، وقلّصت التبعية وسياسة الأوامر الفوقية، بعدما كانت تعتبر باحة أمان خلفية للولايات المتحدة. والتقارب الذي يحصل بين دول عربية وإقليمية تباعدت المسافات، وتقلّصت العلاقات بينها لما يزيد عن عقد من الزمن، هي نهج سياسي صائب، من شأنه لو تعزز بإرادة صادقة وتصميم مستميت، أن يوقف العبث بالمنطقة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية تحديدا، إلى جانب كيانها الاستيطاني على الأراضي الفلسطينية المحتلة.
كاتب تونسي

كلمات دليلية
التعليقات (0)