- ℃ 11 تركيا
- 21 نوفمبر 2024
سامح المحاريق يكتب: كليوباترا السوداء وإثارة الفاشية المصرية
سامح المحاريق يكتب: كليوباترا السوداء وإثارة الفاشية المصرية
- 28 أبريل 2023, 3:09:25 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
لا تمتلك مصر رفاهية الانكفاء على نفسها، موقعها وسط المنطقة العربية، بل وسط العالم القديم كأرض التقاء بين قارتي آسيا وافريقيا، والاستحواذ على قناة السويس عقدة النقل في العالم، وكتلتها السكانية وعمقها الحضاري، جميعها أمور تقيدها، فمصر لا يمكن أن تصبح نموذجاً معادلاً لليونان، يكتفي بأن يعيش على أمجاده التاريخية ويردد نغمة أنه كان يصنع الفلسفة والعلم بينما الآخرون ما زالوا معلقين على الأشجار، ليست مصر منذورة لهذا القدر، ولا يمكن أن تترك له ذاتياً أو موضوعياً.
في لحظات التوتر التاريخية التي تنشأ على حافة الخوف وانعدام الثقة، تحدث انتكاسة عن المستقبل الذي لا يبدو مواتياً، ويمكن للتعصب أن يجد مكانه
تقوم السردية الشعبية على تقديم مصر لتضحيات كثيرة للمنطقة العربية ولافريقيا، لم يقابلها سوى الجحود والنكران، ويبرر ذلك سلوكاً سلبياً تجاه الأدوار الإقليمية والدولية التي يفترض أن تتصدى مصر لها، والسؤال، هل وصلت مصر إلى دور هامشي بسبب هذه النزعة؟ أم أن هذه النزعة تولدت لتبرير هامشية الدور المصري، وأميل إلى التفسير الثاني، فالمصريون أنفسهم، وتحت وطأة الإعلام الموجه، تطلعوا إلى دور قيادي في العالم كله، مع مؤتمر باندونغ المؤسس لحركة عدم الانحياز في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي.
في لحظات التوتر التاريخية التي تنشأ على حافة الخوف وانعدام الثقة، تحدث انتكاسة عن المستقبل الذي لا يبدو مواتياً، ويمكن للتعصب أن يجد مكانه، والحركات الفاشية والنازية تولدت في هذه المرحلة من التاريخ، ومع أن الشعب المصري بقوامه وتعدده، يبدو بعيداً بصورة شبه آمنة عن الانزلاق في الفاشية المتطرفة، إلا أنه ليس محصناً تماماً، وردة الفعل التي ثارت بعد الفيلم الترويجي لمسلسل كليوباترا، التي تظهر ببشرة سوداء، ومع أن ذلك يحمل مغالطة تاريخية واضحة، نظراً لجذور الملكة اليونانية، فإن التعليقات والحوارات التي نشأت في مواجهة الأفروسنتريك، القومية السوداء، أدت إلى حديث مضاد حول النقاء العرقي المصري، وتفاقمت آثاره من مجرد الدفع بالمغالطات والمغالطات المضادة إلى بناء موقف من اللاجئين السودانيين الذين نزحوا وسينزحون إلى مصر نتيجة الأحداث الجارية في بلادهم. توجد كراسة مواصفات مصرية تكرست في الحقبة الناصرية، وكانت تقوم على اللون في أحد مفرداتها، فتغني عفاف راضي: حتى لوني قمحي لون خيرك يا مصر، ومعها شادية: ما شفش الولاد السمر الشداد، والواضح أن شادية بيضاء بصورة قريبة من الأوروبيين، ولكن المواصفات المصرية تجعل من الضروري التغاضي عن أي شيء لا يشبه الشائع والمثالي والقياسي. توجد ملامح مصرية معاصرة، ولكنها في حد ذاتها نتيجة تلاقح طويل بين الأعراق، وحتى قبل الوصول إلى سقوط آخر دولة فرعونية، فمصر كانت أرضاً سكنها المهاجرون القادمون من آسيا ومن افريقيا، سواء من الجنوب أو الشمال، ومنهم من تمكن من تأسيس أسر حاكمة الواضح أنها لم تكن قائمة على فراغ، وكانت تحمل الجنود الذين يستقرون ويعيشون ويتحولون إلى جزء طبيعي من المجتمع، ومصر كلها، كما في كتاب «الجبتانا» لم تكن مأهولة نتيجة لكثافة الغابات حول النيل في العصور القديمة، وسكنها المهاجرون من سواحل البحر الأحمر، وأتى الفتح العربي لمصر، ومعه هجرات متواصلة، ومع تأسيس الدولة الفاطمية حدثت إزاحة سكانية هائلة من شمال افريقيا، وكانت مصر بلداً ثرياً يتحكم في تجارة العالم وتفريغها وإعادة تحميلها، فاستقطبت المهاجرين لأسباب اقتصادية مرات ومرات، وأتى المماليك والأتراك واستوطنوا وأسسوا عائلات ممتدة وكبيرة، وبعد ثورة أكتوبر حكم مصر محمد نجيب وأنور السادات بدماء فيها من السودان والنوبة الكثير، وكان عبد الناصر بدوره يتفاخر بعائلته بني مرة، التي هاجرت من الجزيرة العربية في وقت قديم. والمصريون من أجل المحافظة على مصالحهم الاستراتيجية، تمكنوا من التمدد للسيطرة على الشام في مراحل كثيرة من التاريخ الإسلامي، وفي مراحل سابقة عليه، وإلى افريقيا والحبشة، وحدثت هجرات واسعة من مصر في مرحلة محمد علي وتعسفه في تجنيد أبناء الفلاحين لتصبح جزءاً من الواقع السكاني في فلسطين والأردن، بمعنى أن مصر كانت في قلب الأحداث التاريخية التي شكلت مصر الحديثة، ومعها المصري الحديث، الذي تصادف أنه نتاج لهذه الإزاحات والتفاعلات التاريخية الكبرى، وهذه تحديداً كانت نقطة القوة القائمة في مصر، وجزء من عبقريتها في المكان والتاريخ.
هذا الإرث يبدو أثقل من الواقع القائم في مصر حالياً، ولذلك يحاول كثيرون التحرر منه، على أساس أنه يحملهم أعباء كبيرة، وأنه يتطلب التكلفة الهائلة، مع أن هذه التكلفة تدفع لسبب أو لآخر، وأن عملية إنتاجها متواصلة ومستمرة، والحقيقة أنها غير مستغلة على الصورة المثلى، وبينما تعترف القاهرة بالدور العربي الذي أدى إلى تدفق عشرات المليارات، فإن حالة من الاختلال في الربط بين سبب التدافع لدعم مصر، بغض النظر عن الأسباب، والرصيد التاريخي لمصر بكل تفاصيله، والذي يعبر عن تمدد الآخر في مصر، وفي المقابل تمدد مصر في الآخر.كليوباترا السوداء نزوة جديدة من نتفليكس، ولكن ردة الفعل في البحث عن لون مصري خاص كانت خاطئة، وفرصة من أجل تحقيق مكتسبات للانعزالية المصرية ـ الإنطفائية والانكفائية ـ مقابل ما حققه الأفروسنتريك الذين يدعون دوراً في بناء الحضارة المصرية، وربما يوجد الكثير من الأفارقة ساهموا في بناء شخصية مصر، ولكن ليس أهل الغرب الافريقي بالمناسبة، وهذه النزعة الانعزالية وهي تبحث عن لون خاص بمصر يطرح أمام الأفروسنتريك، تناست أن مصر في عظمتها وعمقها التاريخي، هي الألوان كلها وجميعها، وأن هذا تحديداً ما جعلها مصر، والتي حتى في لحظات ضعفها وتراجعها تبقى بلداً له حساب وأهمية، وليست مجرد كتلة سكانية مزدحمة وخابية في أحد أطراف العالم.
كاتب أردني