- ℃ 11 تركيا
- 2 نوفمبر 2024
لطفي العبيدي يكتب: تركيا وواقعية الرؤية الاستراتيجية
لطفي العبيدي يكتب: تركيا وواقعية الرؤية الاستراتيجية
- 2 يونيو 2023, 6:05:53 م
- 321
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
أثبتت نتائج الانتخابات، التي تُوجت بفوز حزب العدالة والتنمية الحاكم، أن أردوغان لا يزال يحظى بدعم ضخم بين قواعده الانتخابية حيث يُنظر إليه باعتباره رجل دولة يحمل على عاتقه مسؤولية تحويل تركيا إلى قوة عالمية. ولعل استخدام الرئيس أردوغان للغة تصالحية مع جميع الشرائح بدلا من الأسلوب القاسي والعدائي ساهم إلى حد كبير في تغيير مزاج الناخبين. لهجته الشديدة وجهها فقط لبعض أطياف المعارضة المنافسة المباشرة له، التي وصفها بالارتباط بالخارج والولاء للسفارات.
بعد انتصاره الصعب نوعا ما، أمام الرئيس التركي تحديات كبيرة، أولها المحافظة على التماسك الاجتماعي، ومواجهة التحديات الاقتصادية وتزايد معدلات التضخم وغلاء الأسعار، في بلد يعتمد اقتصاده اعتمادا كليا تقريبا على استيراد الطاقة. مع العلم أن التحديات الاقتصادية بالنسبة إلى تركيا تزايدت بسبب تفشي فيروس كورونا مثل كثير من دول العالم. وقد أثرت موجة الوباء خاصة على قطاع السياحة، فضلا عن تنامي العجز في الميزان التجاري وارتفاع مستويات التضخم، وتضاعف أسعار الطاقة الذي فاقمه الصراع بين روسيا وأوكرانيا. وانعكس توتر العلاقة مع واشنطن وتنامي الصعوبات الاقتصادية سلبيا أيضا في سعر صرف العملة التركية التي خسرت نحو 90 في المئة من قيمتها بين عامي 2016 و2022. أمام الرئيس التركي كذلك تحديات مواصلة إدارة العلاقات الدولية لبلده، ومعالجة خارطة الأزمات الكثيرة التي ظهرت مؤشرات تجاوزها في المدة الأخيرة، بالنظر إلى الانعطافات الواضحة في سياسات تركيا الخارجية التي تضمنت تحسين علاقاتها مع السعودية والإمارات، ومع كيان الاحتلال ومصر، وأيضا بوادر إعادة العلاقات مع دمشق. وتعتبر تركيا إحدى الدول الفاعلة في الملف السوري، سياسيا من خلال مسار «أستانة» في جولاته المتعددة وآخر يتعلق «بسوتشي». كما أنها تستضيف أكثر من 4 ملايين لاجئ سوري. وهؤلاء اللاجئون كانوا ورقة مهمة في الدعاية الانتخابية للمتنافسين على الفوز بالرئاسة. فمع تنامي الصعوبات الاقتصادية، أخذت المعارضة التركية تستخدم بشكل واضح موضوع اللاجئين ضد حكومة العدالة والتنمية بهدف إضعافها أمام الرأي العام، وكثفت من استخدام هذه الورقة قبل الاستحقاق الانتخابي.
المعسكر الغربي بقيادة واشنطن يميل إلى تغيير الأوضاع السياسية في تركيا لصالح المعارضة
تركيا نجحت إلى حد كبير في تطبيق استراتيجية التوازنات. ونتيجة تزايد التحديات السياسية والأمنية والاقتصادية، وما حفزه رهان الانتخابات المصيرية لحزب العدالة والتنمية من متطلبات تكتيكية، تتمسك الحكومة التركية فيما يبدو ببوادر العودة إلى سياسة «تصفير المشاكل» بالخصوص مع بلدان الجوار. يحدث ذلك بعد سنوات من المشاكل والتجاذبات مع عدد من الفواعل الإقليمية على خلفية مواقف أنقرة من أحداث مصر وليبيا وسوريا، ومراوحتها بين علاقاتها التجارية المتينة مع إسرائيل وإظهار مناصرتها للقضية الفلسطينية. وكذلك غاز المتوسط والتنافس على الموارد، دون أن ننسى الأزمة الخليجية ووقوفها الواضح إلى جانب قطر أيام الحصار. تأتي أيضا صفقة الصواريخ الروسية أس 400 التي مثّلت ذروة الأزمة في العلاقات بين تركيا وأمريكا، والتي وصلت إلى فرض عقوبات على رئاسة مشتريات الدفاع التركية. وحدثت نتيجة التجاهل الأمريكي لمطالب تركيا بتأمين احتياجاتها الدفاعية الاستراتيجية، مما دفع أنقرة إلى التوجه نحو موسكو وشراء المنظومة الدفاعية المتطورة. وقرار إدارة الرئيس جو بايدن بإخراج تركيا من مشروع تطوير طائرات F35جعلها تشعر وكأنها تابع وليست حليفا استراتيجيا وأحد أبرز أعضاء حلف الناتو والقوة الثانية في هذا التكتل العسكري. ناهيك من أن واشنطن لا تزال تصر على عدم تسليم فتح الله غولن، المتهم الأول بترتيب محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو/تموز 2016، رغم جميع الأدلة التي قدمتها أنقرة لواشنطن بهذا الخصوص. وهذا الملف له وزنه في حسابات الرئيس أردوغان الذي يتعامل مع مشكلات ذات طابع جيواستراتيجي، ويناور بشأنها على كل الجبهات. آخرها ملف انضمام السويد وفنلندا إلى حلف الأطلسي، الذي تقف تركيا عقبة أمامه وتفرض شروطها.
يحدث كل ذلك في ظل مناخ جديد وتوازنات عالمية أخرى تتشكل لتجعل من الخيوط متشابكة ومن الصعب التعامل مع كل ملف منها على حدة. وتدرك تركيا جيدا أن المعسكر الغربي يحاول ألا يُفرط في نفوذه في تركيا لصالح موسكو، وتعي أنقرة انزعاج أمريكا من مواقفها المرنة تجاه الأوضاع في أوكرانيا. وأيضا موقف الرئاسة التركية من انضمام السويد إلى الناتو، وقرب أردوغان الواضح من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على نحو التفاهمات الثنائية بين الرجلين في سوريا وأيضا في أوكرانيا وإدارة أزمة كاراباخ.
مثل هذه الواقعية الجيوسياسية والمواقف المبدئية في الرؤية التركية تجعل المعسكر الغربي بقيادة واشنطن يميل إلى تغيير الأوضاع السياسية في تركيا لصالح المعارضة. وهذا ما أكده الرئيس بايدن، عندما تحدث عن دعم المعارضة لإسقاط أردوغان في حملته الانتخابية الأمريكية. والتصنيف الذي حرص الرؤساء الأمريكيون السابقون على تجنب استخدامه، مراعاة لعلاقات الشراكة الاستراتيجية مع أنقرة استخدمه بايدن بإقراره بما يسمى «الإبادة الجماعية للأرمن» على يد الامبراطورية العثمانية عام 1915. فشلت مساعي الغرب في دعم المعارضة، كما فشلت المحاولة الانقلابية سابقا، والتي حظيت بالإسناد هي الأخرى.
مسارات داخلية وخارجية حددت هوية الفائز في الرئاسيات التركية، مع أن مشاكل البلاد ستستمر لأن الأزمات ثقيلة الحجم. تدهور سعر العملة، تداعيات الجائحة وما ترتب عنها من زيادة حدة الاحتقان الشعبي جراء التراجع في مستوى المعيشة، كارثة الزلزال وطرق معالجة آثارها. أوساط تركية ترى أنه من المحتمل أن يكون أردوغان مستريحا سياسيا وهو يدخل عقدا ثالثا على رأس السياسة التركية، وسوف يواجه تحديا ضئيلا في نطاق الطيف السياسي المحافظ الأوسع نطاقا. آخر فترة رئاسية له في ظل الحدود الدستورية للبلاد بدأها أردوغان وهو يستهدف بصورة مباشرة مشاعر وغرور دولة ومجتمع ما بعد الإمبراطورية. تعهد خلال هذه الانتخابات بخفض نسب التضخم وتحقيق النمو الاقتصادي عبر الاهتمام بالاستثمار والتوظيف والإنتاج والصادرات. ووعد بزيادة قوة تركيا في مجالات الطاقة والزراعة والتعليم والنقل، وبناء ’»محور تركيا‘« بسياسة خارجية تقوم على السلام والاستقرار. وأكد مداواة جراح زلازل فبراير/شباط الماضي، وإعادة بناء المدن المتضررة، وخلق 6 ملايين وظيفة جديدة في خمس سنوات لخفض معدل البطالة إلى 7%. هل هو قادر على تنفيذ هذه الوعود؟ هذا بالطبع سيكون محل أنظار وترقب الشعب التركي.
أردوغان، من خلال خطاب النصر، أظهر أن لا هدنة سياسية في الأفق رغم التجاذبات الحادة التي حصلت مع المعارضة في سياق التنافس الرئاسي، وأعلن بوضوح أنه بدأ الدعاية للانتخابات المحلية المقبلة. يبدو أنه يستغل فشل المعارضة التي حشدت الكثير، وحاولت استثمار كل التناقضات من أجل كسب الرهان الانتخابي. ولكن يبقى الواقع الاقتصادي والوضع المعيشي هو ما يهم المواطن بعيدا عن إدارة الخلافات أو الأولويات الاستراتيجية على المستوى الاقليمي أو الدولي. إن مشروعية السلطة تكتسب بمدى ما تقدمه لشعبها ولمواطنيها.
كاتب تونسي