- ℃ 11 تركيا
- 22 نوفمبر 2024
مثنى عبد الله يكتب: لماذا نحن أمة كان؟
مثنى عبد الله يكتب: لماذا نحن أمة كان؟
- 6 يونيو 2023, 3:31:08 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
ينشغل العالم بما هو كائن، ويسابقون الريح لصنع ملامح ما سيكون في المستقبل. بينما ينشغل العرب بما كان أكثر من الحاضر والمستقبل، حتى أصبح شعارنا الوحيد في هذا الزمن هو، ليس بالإمكان أبدع مما كان. كما باتت فلسفتنا الوحيدة في الحياة هي، أن الحاضر سيئ والمستقبل بيد الله، وليس لنا من مفر إلا استدعاء الماضي في كل تحركاتنا وتصرفاتنا، لذلك تحمّس الكثير منا لفوز الرئيس التركي أردوغان، علّه يعيد إلينا الماضي بصيغة السلطنة العثمانية. وقد ران هذا الفهم المعطوب حتى على الفكر العربي المعاصر، فباتت ثنائية الماضي والمعاصرة أحد أوهامه، وتركزت كإحدى الإشكاليات الزائفة في الواقع العربي، بينما كان ينبغي النظر إلى الأمام باستمرار، مع اليقين الثابت بأننا لن نفقد ماضينا ولا حاضرنا عندما ننظر إلى المستقبل. فالنظرة المستقبلية لا تعني في أي حال من الأحوال انعدام استدعاء الماضي، حينما نحتاجه، أو النظر في قضايا الحاضر، لأننا عندما ننظر إلى المستقبل، فإننا نحل مشكلات الحاضر أيضا، بمعنى أن تكون وجهة نظرنا متجهة إلى المستقبل وليس إلى الماضي، حينما نفكر في حل إشكاليات الحاضر. وفي كل الأحوال هذا ليس معناه القطيعة مع الماضي، ولا مع التراث. وهنا لا بد من أن نتساءل، لماذا نحن ماضويون؟ وأين يكمن الاستعصاء في هذه القضية؟
عندما ننظر للمستقبل، فإننا نحل مشكلات الحاضر أيضا، بمعنى أن تكون وجهة نظرنا متجهة للمستقبل لا إلى الماضي، حينما نفكر في حل إشكاليات الحاضر
يقينا أن الماضي أكثر معرفة بالنسبة لكل الشعوب من المستقبل، لكن هذا الأخير ليس مجهولا من جميع النواحي، لو نظرنا بتمعن ورؤية فاحصة إليه، فالمستقبل هو النظرة في الممكن، أي عندما نتصدى لحل مشكلة اقتصادية، أو اجتماعية، أو غيرها، فإن أول ما يجب أن نفكر فيه هو في ما نملك من وسائل وإمكانيات للوصول إلى حل، وكلما كانت معرفتنا بإمكاناتنا جلية واضحة، فإن التخطيط لحل كل المشاكل يبدو يسيرا. كما أن النظر برؤية مستقبلية متفائلة، مضافا إليها المعرفة بممكنات المستقبل، تجعلنا قادرين على تصميم رؤى لتغيير الحاضر أيضا، لكن المشكلة الكبرى في الواقع العربي هو عدم امتلاكنا رؤية مستقبلية. كما أننا نفتقر إلى قرار سياسي يوحد الإمكانات العربية، ومن دون هاذين العاملين لن نستطيع الانتقال إلى واقع جديد، ويصعب علينا اللحاق ببقية الأمم. صحيح أننا أمة قادرة على الإبداع والإسهام في الحضارة الإنسانية، ولا نعاني من جدب في الإمكانات الفكرية والعلمية والمادية، وعندنا القدرة على تحقيق طفرة نهضوية على كل الصُعُد، لكن معضلتنا الرئيسية هي أننا لا نستغل هذه الإمكانيات في تحقيق نهضة مستقلة، إنما نستغل هذه الإمكانيات حسب الظروف ووفق الضغوطات الخارجية، ونُخضعها لطبيعة العلاقات بيننا وبين الدول الكبرى، وهذا يعود إلى عدم وجود استقلالية في القرار السياسي لدى النظام الرسمي العربي. فامتلاك الاستقلالية هذه تجعلنا قادرين على توجيه وتسخير إمكانياتنا لتحقيق النهضة المطلوبة، خاصة ونحن لسنا أقل شأنا من دول في آسيا، مثل كوريا أو اليابان، أو أية دولة أخرى. فلو أخذنا سنغافورة كمثال على إمكانية تحقيق النهضة، لوجدنا أن باني نهضتها الرئيس لي كوان يو لم يكن ديمقراطيا، بل كان ديكتاتورا. لقد بقي في السلطة لثلاثة عقود وقام بسحق معارضته السياسية، لكنه نجح في تحويل هذه الجزيرة الصغيرة الخالية تماما من الموارد، المنقسمة على نفسها أفقيا، المعدومة التاريخ الواحد واللغة والثقافة المشتركة، إلى دولة رائدة في العالم يتمتع الفرد فيها بأعلى دخل في آسيا. وكانت وسائله لتحقيق هذا النجاح هي الجنوح للابتكار في السياسات الاقتصادية والاجتماعية، وزرع الروح الوطنية بين أقوام كانوا متنافرين، حيث يتشكل المجتمع السنغافوري من الصينيين والهنود والماليزيين. كما سخّر ثلث الميزانية الوطنية للتعليم، حارب الفساد بلا هوادة، زرع الأشجار لتقليل التلوث، شجع على الزواج من المثقفات كي ينتج أجيالا مثقفة، وحرص على تلقي تقرير أسبوعي عن نظافة الحمامات في المطار الدولي، كي يعطي انطباعا جيدا عن البلاد لدى المستثمرين الأجانب، وبنى القوات المسلحة الأكثر قدرة في جنوب شرق آسيا، ومع ذلك لم يقترب من موضوع الديمقراطية لا قولا ولا عملا، إذن المسألة ليست في صورة وطبيعة النظام، بل في استقلالية القرار والرؤية الصحيحة.
إن مشكلة النظام الرسمي العربي أنه يقود شعب هذه البقعة الجغرافية إلى الوراء بطرق مختلفة، وأنه لا يُقدّم أمثلة على القيادة السياسية البارعة طويلة الأمد، وأن فحص قدرة هذا النظام على التعامل بنجاح مع الظروف التي تواجهها الأمة، وكذلك إمكانية إحداث تغيير عميق للتاريخ الذي يدور حولنا تبدو فاشلة تماما. كما أن غالبية الزعامات السياسية التي توالت على القيادة، منذ عصر نهضتنا الحديثة وإلى اليوم تبدو مربوطة بسلسلة للخارج، من دون أن تعتمد على إمكانياتنا الذاتية باستقلالية تامة. فعندما تخطط فإن خططها تعتمد على عناصر النجاح التي في يد الآخرين، لذلك فشلت جميع الخطط العشرية والخمسية، لأن النجاح فيها يتطلب أن تكون جميع العناصر بيدك لا بيد الآخرين، يضاف إلى ذلك فقدان البوصلة في تحديد الاتجاه، وفي معرفة فرص التقدم التي يجب أن نتجه لها. في حين أن دراسة التاريخ هي أفضل بوصلة لدينا للتنقل في هذا المستقبل، حتى لو تبين أنها ليست ما كنا نتوقعه، وليست في معظم النواحي ما عشناه من قبل. فلدينا تاريخ زاخر بالإنجازات الذي يمكن أن تكون وسيلتنا لمواجهة المستقبل، كما يقول كيسنجر.
إن وجودنا في هذا العالم كأمة تهتم بما هو كائن وما سيكون، تتطلب قيام نظام رسمي عربي قادر على تحدي الضغوط السياسية المحلية والظروف الدولية، والتخلي التام عن السير بخطى جليدية، وإيجاد نظام تعليمي قائم على استراتيجية عربية واضحة للنهوض، ونشر الثقافة العلمية، واستثمار طاقات الشباب والكف عن عرقلة حركة الأجيال في مجتمعاتنا العربية. ويتطلب نشر ثقافة الإحساس بالزمن واحترام عامل الوقت، كما يجب أخذ العبرة في موضوع استيراد التكنولوجيا. فالحروب الاقتصادية الأخيرة كشفت وبوضوح، كيف أن الغرب منع تصدير التكنولوجيا عن دول كثيرة، وهذا يمكن أن يحدث معنا في أي وقت ولأي سبب، لذلك يجب علينا الاعتماد على ميزاتنا الخاصة، واستنهاض البحث العلمي العربي، من خلال استدعاء العلماء العرب من كل العالم للمشاركة في نهضتنا العلمية، وهذا يتطلب توفير البنى التحتية اللازمة، ورفع مكانة العلماء والمفكرين في مجتمعاتنا، كي تكون عوامل جذب في عودة علمائنا إلى الوطن الأم، فالتغني بعلمائنا العرب العاملين في الخارج بينما نحن نغط في الجهل رثاثة فكرية.
يقينا أن السياسة شكّلت وما زالت تشكل العائق الأكبر لنهضة الأمة العربية، وهنا ليس المقصود به صورة النظام الرسمي في بعده أو قربه من موضوع الديمقراطية والحريات، بل المقصود هو امتلاك الإرادة السياسية للتغلب على المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والأمنية وغيرها، ولأننا دول خالية من المؤسسات والمعايير والقوى النظامية، فإن الزعامات هي كل شيء، وهم الذين يتحملون وزر ما نحن فيه من وجود في الماضي على حساب الحاضر والمستقبل، في حين أن بإمكانهم رسم مسارات بلداننا بشكل مفيد كما فعلت دول كثيرة.