مثنى عبد الله يكتب: ما طبيعة اللعبة الجيوسياسية في محيط روسيا؟

profile
  • clock 25 يناير 2022, 8:49:34 ص
  • eye 536
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

أشد ما يقلق روسيا هو الثورات الملونة في محيطها. البداية كانت في جورجيا عام 2003، وفي أوكرانيا عام 2004. وفي قرغيزستان عام 2005، وقبل أيام في كازاخستان، حيث المسرح المثالي لإزعاج موسكو، إن أراد الخصوم استغلال ساحتها، فهل يدفع هذا القلق بوتين لإحكام الهيمنة على هذه الدول؟ وما هي العوامل التي تجعل من دول المحيط خطاً روسياً أحمر؟

يشهد العالم اليوم تركيزا كبيرا في ديناميات الصراعات الجيوسياسية حول مناطق النفوذ، وفي الوقت الذي يرى الرئيس الروسي بوتين أن جميع الدول في محيط روسيا، جزء من جغرافية بلاده وحديقتها الخلفية، فإنها أيضا يمكن أن تُستغل كملاعب سياسية، يزحزحون بها مواقفه في ملفات كثيرة، ويبعثرون أوراقه على مناضدها، وربما يستنزفون طاقاته.

 ولأنه يعلم جيدا أن هناك صراعا إقليميا في المنطقة، صراعا روسيا ـ غربيا، صراعا روسيا ـ تركيا، وتضارب مصالح روسية ـ صينية بسبب طريق الحرير، والاستثمارات المالية الصينية الضخمة، لذلك هو يحاول إنشاء أحلاف ومنظمات ومعاهدات أمنية وعسكرية مع دول المحيط، تكون غطاء له للتدخل عسكريا فيها، وتركيز هيمنته عليها في حالة حصول اضطرابات هناك، كي يقطع الطريق على الآخرين الذين يفكرون في استثمار الاضطرابات للضغط عليه.

من المؤكد أن روسيا ليس لديها خيار الحرب، على الرغم من أنها تلوّح بالعضلات العسكرية، غير أن تهديد أوروبا أمنيا خيار آخر بيدها


ومن هنا جاءت ولادة منظمة معاهدة الأمن الجماعي المتكونة من روسيا وبلاروسيا وأرمينيا وطاجكستان وقرغيستان، التي تم بموجبها الدفع بقوات روسية خاصة للدخول الى كازاخستان مؤخرا، وعليه يصبح واقعيا جدا حديث جون بولتون مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق مُعلقا على التدخل الروسي في كازاخستان عندما قال، إن التدخل هو مرحلة من مراحل عودة مناطق نفوذ الاتحاد السوفييتي الى روسيا. أما العوامل التي تجعل من الدول المتاخمة لروسيا مهمة جدا وخطاً أحمر أمام الآخرين فهي كثيرة، أولها عامل الجغرافيا وهو الأهم في سلم الأولويات، فهي خاصرتها الطرية، وتشكل الحدود المشتركة بينها، أسهل واسطة لنقل الفوضى والاضطراب، وعدم الاستقرار إلى الأراضي الروسية. على سبيل المثال حدود كازاخستان مع روسيا تبلغ 7600 كم. كذلك عامل التاريخ هو الآخر عنصر فاعل في العلاقة بين الطرفين، فهناك نسب كبيرة من السكان في هذه الدول من أصول روسية، ما يعطي مساحة من الحرية للقائلين إنها تابعة للأراضي الروسية، ومنهم بوتين شخصيا الذي قال في تصريحات سابقة، لم تكن هنالك دولة اسمها كازاخستان قبل انهيار الاتحاد السوفييتي، بل ذهب بعض النواب الروس أكثر من ذلك في قولهم، إن كازاخستان هدية من الاتحاد السوفييتي لهم. 

صحيح لا يوجد تأكيد حكومي رسمي روسي لكل هذه الأقوال، لكنها تعطي فكرة واضحة عما يدور في الكواليس السياسية في موسكو، وعن طبيعة النظرة إلى دول المحيط الروسي. كما لا يقل العامل الاقتصادي أهمية عن عناصر الجغرافيا والتاريخ والعرق في تشكيل طبيعة العلاقة بين موسكو وهذه الجمهوريات، فهي اقتصادات مهمة في آسيا الوسطى، ولها شراكات تجارية واسعة مع روسيا، وفيها ثروات طبيعية مهمة مثل اليورانيوم والغاز والفحم والحديد. كما أعطاها وجودها في بعض المنظمات مثل الاتحاد الأوروآسيوي ومنظمة شنغهاي ومنظمة الأمن الجماعي، أهمية لدى صانع القرار الروسي. وبذلك تعتبرها موسكو جزءا من منظومة تعمل على الحفاظ على الأمن والاستقرار في هذه المنطقة، لكن كيف تقرأ موسكو الأحداث التي تقع في هذه الجمهوريات؟

في كل الأحداث الداخلية التي تقع في هذه الجمهوريات هناك قراءة روسية واحدة للحدث. هذه القراءة تقول إن الغرب والناتو بالتحديد، يحاولان فتح جبهات ضدها. وعليه لا يجد بوتين بدا في كل مرة، من أن يلجأ إلى الضغط على حكومات هذه الدول، لإطلاق تهمة العامل الخارجي والإرهاب، ثم طلب المساعدة من موسكو باستقدام قوات روسية، كي يعطي انطباعا بأن تدخله شرعي أمام الرأي العام الدولي، وكذلك كي يصبح التدخل متوافقا مع شروط منظمة التعاون الأمني.

 لكن بعض المحللين يعزون بعض الحراكات التي حصلت في هذه الدول، إلى احتمالية أن تكون لعبة روسية، أو محاولة استثمار الحراك على أقل تقدير. إنهم يقولون إن موسكو تلجأ إلى تحريك الشارع في هذه الجمهوريات، عندما تكون غير راضية عن السياسات المتبعة في هذه الدول. فحكومة كازاخستان مثلا وقّعت اتفاقيات عسكرية مع الأمريكيين والإيطاليين، ومنحت الشركات الأمريكية مشاريع نفطية، وسمحت للاستثمارات الصينية، بالتدفق عليها حتى بلغت حوالي 30 مليار دولار. كذلك ذهبت بعيدا في العلاقة مع تركيا، من خلال منظمة الدول التركية، التي تشمل تركيا وكازاخستان وأوزبكستان وأذربيجان وقرغيستان، حيث تحلم هذه الدول الناطقة بالتركية بالاشتراك في إنشاء منطقة اقتصادية.

 كما انفتحت على العالم وأقامت مبادرات دولية وإقليمية، وحاولت الموازنة بين الغرب والشرق. وكل هذا لا يروق لموسكو، لأنها تريد أن تكون المهيمن الوحيد على هذه الساحة. لذلك حاولت استغلال الحراك، لرفع العصا في وجه زعماء كازاخستان، كي يعودوا إلى جادة الصواب الروسية، لكن المعطيات التي تؤكد أن الفاعل الروسي هو الذي يقف خلف الاحتجاجات في هذا البلد أو غيره، ما زالت غير متوفرة.

إن ما يدفع موسكو للتحرك من أجل إعادة الهيمنة على هذه الدول، هو تصنيف صانع القرار في موسكو للأمن القومي الروسي، بأنه يبدأ عند حدود الدول السوفييتية السابقة، وليس من حدود روسيا. من هنا رأينا ردات الفعل العنيفة من موسكو على الثورات الملونة في دول المحيط. كما يبدو واضحا الارتباط الصميمي بين سياستها الداخلية والخارجية، بشكل كلي مع الأمن الاستراتيجي. وإذا كان من المستحيل إعادة عقارب الساعة إلى الوراء وإنتاج منظومة سوفييتية جديدة على غرار السابقة، فإن العودة ممكنة في العقل السياسي الروسي، من خلال إقامة تكتلات إقليمية سياسية واقتصادية مع دول المحيط المباشر، يلعب فيها العامل الأمني دورا بارزا. 

ويعزو الروس هذا القلق المتنامي من الدول المتاخمة، إلى أن الغرب لم يحترم تعهداته معها. فقد سبق لحلف الناتو والغرب أن تعهدا لروسيا بعدم التمدد شرقا في أوروبا، لكن بين عامي 2008 ـ 2009 انضمت سبع دول من أوروبا الشرقية إلى الناتو. آنذاك لم يكن هناك رد على هذا الإخلال الواضح بالتعهدات، كون الوضع السياسي الداخلي الروسي لم يكن يتيح لصانع القرار الرد، فهل روسيا اليوم قادرة على تهديد الغرب؟

من المؤكد أن روسيا ليس لديها خيار الحرب، على الرغم من أنها تلوّح بالعضلات العسكرية، سواء على الحدود مع أوكرانيا، أو في التدخل في دول الجوار لقمع الثورات والاحتجاجات، غير أن تهديد أوروبا أمنيا خيار آخر بيدها. رأينا ذلك في أزمة اللاجئين التي حصلت مؤخرا بين روسيا البيضاء والاتحاد الأوروبي، والتي كانت مدعومة من بوتين. كما بيدها الذهاب للتحالف مع الصين حيث يتواجدان معا في عدة مناطق منها كازاخستان. ومع ذلك يبقى الهاجس الذي يقض مضاجع الساسة الروس هو الخوف من الغرب، الذين يعتقدون قديما وحديثا أنه يريد ابتلاع جزء من أراضيهم.

كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية

جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي "180 تحقيقات"

التعليقات (0)