- ℃ 11 تركيا
- 22 ديسمبر 2024
محسن صالح يكتب: التوافق والتدافع بين الصهيونية العلمانية والصهيونية الدينية (3)
محسن صالح يكتب: التوافق والتدافع بين الصهيونية العلمانية والصهيونية الدينية (3)
- 25 يونيو 2023, 5:02:32 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
تسعى الصهيونية الدينية بشكل عام لتطبيق الشريعة اليهودية والاحتكام إلى التوراة؛ غير أنها تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول:
ينظر بإيجابية إلى الصهيونية العلمانية، ويرى أنها ستسهم بالضرورة في خدمة القيم الدينية، وأنها تحمل جوهراً دينياً. وقد انضم هذا القسم للمشروع الصهيوني منذ بداياته، ولعب دوراً تأسيسياً في حركة أحباء صهيون (في العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر)، وفي إنشاء المنظمة الصهيونية العالمية. وكان من رواده الأوائل الحاخام موهيليفر، والحاخام إسحق كوك. وأخذ هذا التيار شكله المنظم سنة 1902 بتأسيس حركة مزراحي (مركز روحي)، التي أصبح لها جناح يحمل اسم هبوعيل همزراحي، يركز على شعار "التوراة والعمل".
لعب هذا التيار دوراً مهماً في الدعاية للمشروع الصهيوني خصوصاً في أوساط اليهود المتدينين، وكذلك في الهجرة والاستيطان اليهودي في فلسطين قبل إنشاء الكيان الإسرائيلي؛ وشارك بفعالية في تأسيس الكيان. وعبّر عن نفسه من خلال المزج بين الديني والقومي في هويته وشعاراته. وبرز في قيادته حاييم شابيرا، ويوسف بورغ، ويتسحاق رفائيل..
لعب هذا التيار دوراً مهماً في الدعاية للمشروع الصهيوني خصوصاً في أوساط اليهود المتدينين، وكذلك في الهجرة والاستيطان اليهودي في فلسطين قبل إنشاء الكيان الإسرائيلي؛ وشارك بفعالية في تأسيس الكيان. وعبّر عن نفسه من خلال المزج بين الديني والقومي في هويته وشعاراته
في أوّل انتخابات للكنيست الإسرائيلي سنة 1949، حصل هذا التيار على 11 مقعداً، وفي 1956 اتّحد مزراحي وهبوعيل مزراحي في حزب واحد هو الحزب الديني القومي (المفدال). ومنذ إنشاء الكيان وحتى 1977، ظلّ هذا الحزب/ التيار يأخذ ما معدله 10-12 مقعداً في الكنيست. ولأنه كان من سياسته المشاركة الفعالة في الحكومات الائتلافية، فقد أعطاه ذلك ثقلاً نوعياً في النظام السياسي الإسرائيلي.
ومنذ الثمانينيات أخذ الوزن الشعبي للمفدال في التراجع، سواء مع صعود الليكود واتساع شعبية التيارات اليمينية القومية التي تستوعب صبغاتٍ دينية، أم بسبب الانشقاقات التي أخذت تخرج عن المفدال، حيث انشقّ عنه حزب تامي (1981)، وحزب متساد (1983)، وحزب ميماد، وحركة تكوما 1999()؛ كما انضم جزء من أتباعه إلى حزب موليدت (1988). ولذلك انخفض معدل مقاعده إلى 4-6 مقاعد.
وكانت سنة 2008 إيذاناً بنهايته عندما دخل في تحالف مع موليدت وتكوما لإنشاء حزب "البيت اليهودي"، لكنه لم يحصل إلا على ثلاثة مقاعد. وبالرغم من تحسن أداء "البيت اليهودي" برئاسة نفتالي بينيت سنة 2013 (8 مقاعد) وسنة 2015 (6 مقاعد)، إلا أن هذا الحزب لم يحصل على أي مقعد في سنة 2022؛ في ضوء صعود أحزاب صهيونية دينية جديدة. وقد انطبقت على الأحزاب التي خرجت من عباءة المفدال الظاهرة المعروفة في الحياة السياسية الإسرائيلية، وهي حدوث مزيج من التركيب والتفكيك وإعادة التركيب، وهي ظاهرة تحدث عادة في إطار الاتجاه أو التيار نفسه. وهذا ينطبق على حزب "اليمين الجديد" و"يمينا" وغيرهما.
وإلى هذا التيار ينتمي حزب الصهيونية الدينية بزعامة سموتريش، الذي تعود نشأته إلى اتحاد ثلاثة أحزاب في انتخابات سنة 1999، هي موليدت وتكوما وحيروت- الحركة القومية، باسم الاتحاد القومي، حيث حصل على أربعة مقاعد. ودونما خوض في التحالفات والتفصيلات، فقد انتهى الأمر إلى تشكيل حزب الصهيونية الدينية سنة 2021، والذي حصل في انتخابات 2022، وإلى جانبه حزب العظمة اليهودية برئاسة بن غفير، على 14 مقعداً.
القسم الثاني:
هو القسم الذي رفض الصهيونية في البداية، بل وحاربها بوصفها مخالفة للتعاليم اليهودية، وكفراً ومروقاً من الدين، وتمرداً على المشيئة الإلهية. وهذا الاتجاه يتمثّل في التيار الديني التقليدي "الأرثوذكسي" أو الحريدي، ومن رموزه القديمة يتسحاق هاليفي وإسحق ليفين.
وتعود بداية تكتل هذا التيار إلى سنة 1909، ثم أنشأ لنفسه حزب "أغودات إسرائيل" سنة 1912. لكنه مع مرور الوقت تبنى الهجرة والاستيطان وتعاون مع المؤسسات الصهيونية، ورأى أن "وعد بلفور" يتسق مع الوعد الإلهي، وسحب معارضته لقيام دولة يهودية.
هذا التيار الذي ظل معادياً للصهيونية حتى الحرب العالمية الثانية، لم يتبن الصهيونية أيديولوجياً من وجهة نظر دينية، غير أنه تعامل معها بإيجابية وأخذ ينسجم تدريجياً مع المشروع الصهيوني خصوصاً منذ إنشاء الكيان الإسرائيلي، وسعى للاستفادة من "الدولة" ومؤسساتها وخدماتها وشارك في معظم حكوماتها، وتمكن من الحصول لأتباعه على مزايا خاصة كالإعفاء من التجنيد الإجباري، والحصول على ميزانيات كبيرة للمدارس الدينية، وفرض احترام عدد من المظاهر الدينية وغيرها.
هذا التيار الذي ظل معادياً للصهيونية حتى الحرب العالمية الثانية، لم يتبن الصهيونية أيديولوجياً من وجهة نظر دينية، غير أنه تعامل معها بإيجابية وأخذ ينسجم تدريجياً مع المشروع الصهيوني خصوصاً منذ إنشاء الكيان الإسرائيلي، وسعى للاستفادة من "الدولة" ومؤسساتها وخدماتها وشارك في معظم حكوماتها، وتمكن من الحصول لأتباعه على مزايا خاصة كالإعفاء من التجنيد الإجباري، والحصول على ميزانيات كبيرة للمدارس الدينية، وفرض احترام عدد من المظاهر الدينية
وقد حصل على خمسة مقاعد في الكنيست الأول، وظلّ يحصل على بضعة مقاعد في الانتخابات التالية. وورثه لاحقاً حزب شاس الذي انشقّ عنه سنة 1984 ليمثّل اليهود الشرقيين (السفارديم) المتدينين، وليحصل منذ ذلك الوقت على حضور قوي يبلغ معدله نحو 9-11 مقعداً في الكنيست، أما وريثه من اليهود الغربيين (الأشكناز) فتمثّل في ديجيل هاتوراه ثم يهودوت هاتوراه، ومعدل مقاعده عادة يكون في حدود 6-7 مقاعد.
ولهذا التيار حَظوةٌ كبيرة في وزارات الأديان والتعليم والداخلية الإسرائيلية، ويُخضع تعريف اليهودي في الكيان إلى الفهم التقليدي الأرثوذوكسي بأنه المولود لأم يهودية.
مؤشرات وخلاصات:
من خلال سلسلة المقالات الثلاث نخلص إلى ما يلي:
1- الصهيونية بشكل عام هي صهيونية "توفيقية" أو "تلفيقية" لا تهتم كثيراً بالمضامين الأيديولوجية، وتستطيع استيعاب التيارات السياسية والدينية المختلفة، طالما كانت في خدمة المشروع الصهيوني وما يسمى "الشعب اليهودي".
2- الكيان الصهيوني بحد ذاته هو كيان متطرف، بغض النظر عن التيارات والأحزاب التي تقوده، فهو كيان قائم على العدوان وعلى الاحتلال، وعلى إحلال الجماعات اليهودية الاستيطانية مكان السكان الأصليين، وعلى إلغاء الآخر وتاريخه وتراثه. ويستند إلى مزاعم دينية وتاريخية لا تستند على أساس ولا تقف في وجه الحقوق الطبيعية لأصحاب الأرض، ولا حتى المواثيق والقوانين الدولية. وليس ثمة عبرة كبيرة بوصف جهات من داخله بالتطرف وأخرى بالاعتدال.
3- تمتعت الصهيونية الدينية بدينامية عالية، وتكيّفت مع البنى "العلمانية" للكيان الإسرائيلي، واستفادت منها في تقوية حضورها ونفوذها. كما اتسع صدر النظام "العلماني" لاستيعابها سياسياً والمشاركة الحرة الكاملة في الانتخابات، والشراكة الدائمة في الحكومات، واحترم فرض شروطها بحسب حجمها البرلماني وثقلها السياسي.
الكيان الصهيوني بحد ذاته هو كيان متطرف، بغض النظر عن التيارات والأحزاب التي تقوده، فهو كيان قائم على العدوان وعلى الاحتلال، وعلى إحلال الجماعات اليهودية الاستيطانية مكان السكان الأصليين، وعلى إلغاء الآخر وتاريخه وتراثه. ويستند إلى مزاعم دينية وتاريخية لا تستند على أساس ولا تقف في وجه الحقوق الطبيعية لأصحاب الأرض، ولا حتى المواثيق والقوانين الدولية. وليس ثمة عبرة كبيرة بوصف جهات من داخله بالتطرف وأخرى بالاعتدال
4- ثمة قدرة معقولة في الوسط الصهيوني على مدى 75 سنة الماضية في إدارة خلافاته السياسية والاجتماعية بالرغم من الخلافات الدينية والاختلافات الاجتماعية والعرقية، والتفاوتات الطبقية والاقتصادية؛ وإن كانت هذه الاختلافات قد اتّخذت مظاهر أكثر حدة في السنوات الأخيرة.
5- تمكّن التيار القومي الديني من زيادة فعاليته ونفوذه خصوصاً خلال العقدين الأخيرين، مستفيداً من قدرته على اختراق الأحزاب اليمينية العلمانية (الليكود وغيره)، حيث توجد قاعدة تفاهم مشتركة واسعة، بينما يسهل التنقل بين الأحزاب وبناء التحالفات وإعادة تركيبها. كما تمكَّن هذا التيار من اختراق مؤسسات دولة الكيان، وخصوصاً الجيش، حيث ارتفعت نسبة منسوبي هذا التيار في الرتب العالية في الجيش إلى نحو 35-40 في المئة.
6- استفاد التيار القومي الديني من وجود قيادات شابة طموحة متطرفة، تملك رؤية واضحة (بغض النظر عن مدى الحكمة أو الحمق) فيما يتعلق بالكيان وهويته ومستقبله وطريقة تعامله مع الملفات الحساسة المتعلقة بالدِّين و"الدولة"، وإنزال السلوك الديني على الحياة اليومية، ومستقبل مسار التسوية والشعب الفلسطيني، ومستقبل القدس والمسجد الأقصى، وملفات التهويد والاستيطان.. وغيرها. وهو ما أسهم في تصاعد قدرتها على التأثير في السياسة الإسرائيلية خلال العشرين سنة الماضية
7- تضاعف الخطر على مستقبل المسجد الأقصى والقدس، مع وجود أعداد متزايدة في الوسط الديني القومي والوسط القومي العلماني، تنتمي إلى جماعات "المعبد" أو تؤيدها، حيث أصبحت تشكل كتلاً وازنة في الكنيست وفي الحكومة. وهناك حضور قوي لهذا الاتجاه في حزب الليكود الحاكم، ولعل القراء لاحظوا أن الذين اقترحوا قبل نحو أسبوعين مشروعَ التقسيم المكاني للمسجد الأقصى هم أعضاء من الليكود.
وأخيراً، فمن المتوقع أن يستمر تأثير الصهيونية الدينية في الكيان الصهيوني حتى لو سقطت الحكومة الإسرائيلية، خصوصاً مع اتجاه المجتمع الاستيطاني الصهيوني إلى دعم الاتجاهات "اليمينية" بنحو 70 في المئة، وانهيار ما يسمى الاتجاهات "اليسارية". وهذا بقدر ما يزيد من مخاطر تسارع برامج التهويد وقمع الشعب الفلسطيني، بقدر ما يدفع في الوقت نفسه باتجاه انهيار مسارات التسوية وفشل تجربة أوسلو وحلّ الدولتين، وباتجاه مزيد من التفاف أبناء فلسطين والأمة حول خط المقاومة، ليتقدّم لاستلام زمام المبادرة في قيادة الشعب الفلسطيني ومشروع التحرير.