- ℃ 11 تركيا
- 22 نوفمبر 2024
د. محمد كامل : اليوم مات أبى
مقدمة
ولد أبى فى 28 فبراير عام 1932 ولكنه وأخيه السابق له فى المولد كانا قد سجلا فى سجلات الحكومة متأخرين ويبدو أن ذلك كان بداية لحصر حكومى رسمى للمواطنين فى تلك النجوع النائية...فسجلوا أبى آخر العنقود فى أخوته فى سجلات الحكومة عن طريق الخطأ أكبر من أخيه هذا فأصبح ميلاد أبى 1928 وميلاد عمى 1932...هذا حوار روتيني لا شأن لكم به...ولكن له دلالة فى نهاية مشوار أبى المهنى حيث أنه من حبه الشديد لعمله سعى أن يصحح هذا الخطأ فى تاريخ ميلاده حتى يستطيع أن يعمل لأربع سنوات أخرى فى ذلك المكان الذى أحبه ولكن للأسف خاب مسعاه...رغم أن ذلك التصحيح لن يؤثر على دخله كثيرا فقد شمله قانون المناجم بإمتيازاته وكانت الأمور مرتاحة وكنا كلنا نحن أبناؤه تخرجنا وعملنا والدنيا حلوة والقاشية معدن ورغم أن القانون أعطاه فرصة الخروج على سن ال55 ولكنه رفض الخروج...وظل حتى خروجه على المعاش فى سن الستين عام 1988على أساس أنه من مواليد سنة 1928...ورغم يقينى أنه أصغر من أخيه لكنى لاأستطيع أن أحدد سنه الحقيقى فى أيام لم يكن تسجيل المواليد دقيقا وكان يتم بواسطة "التسنين"
إنتهى
بعد أن أتم أبى حفظ القرآن فى كتاب الشيخ سيدى أحمد فى سن صغيرة وختمه نصحه شيوخه أن يلتحق بالأزهر...أمه أيدت الإقتراح ولكن أخاه الأكبر رفض تحت دعوى إن إحنا نشقى فى الزرع والزراعة وهو يبقى أفندي أو شيخ معمم هذا لن يكون إلا إذا تنازل عن ميراثه فى الأرض...فاوضته ستى الله يرحمها طيب خدوا فدان وسيبوله فدان...لأ هما الفدانين وإلا بلاش فرفضت ستى هذا المقترح وقالت لا لن يتم وكانت البلاش ...وكان أبى يقول لى لو كانت لدى خبرة لتركت لهم الأرض مقابل تعليمى وذكر لى نفرا من أقرانه كانوا أقل منه علما وباءوا بمناصب مرموقة
لم يذهب أبى إلى الأزهر وعمل فى أعمال الزراعة مع أهله وهو لايحبها...وجاءته فرصة الخروج للعمل فى تفريغ السفن فى سفاجا وفى شحن رمال بودرة التلك فى ميناء حماطة جنوب مرسى علم فى البحر الأحمر...كانت هذه الأعمال موسمية لمدد قصيرة فى شهور الفيضان حيث الأرض معطلة ولاسبيل لزراعتها...ولكنها كانت فرصتة لجمع بعض المال يعينه على الزواج
وكان الريس محمود شحات أبو حيمد هو مقاول الأنفار المسئول عن التشغيل فى بلدتنا...وكانت الأمهات يتوددن إليه بجوزين حمام أو ماشابه علشان ياخد الواد فى "الأنتيكة" التى كانت تعنى توريد الأنفار للبعثات الأثرية والتى كانت تستعين بمثل هذه النوعية من العمالة وكان العمل معهم هو الأعلى أجرا والأقل جهدا وفى حالة غياب البعثات التى كانت فى الغالب تأتى شتاءا تشتغل هذه العمالة فى الأعمال البدنية المرهقة فى عصر غابت فيه الآلات والمعدات ...ومن الطرائف فى الأنتيكة حيث يمسك العامل فرشاة ويبحث برقة وبنعومة عن أى شواهد أثرية وفى الغالب كان العمال يختلسون جعارين صغيرة من التى يجدونها ويجعلونها فصوصا لخواتمهم(عجيب ذلك يختلسون ماهو ميراث الآباء والأجداد فى حين يحل للمستكشف الأجنبى أن يأخذه بالقانون وبالحيلة)...المهم إنتظر أبى مثل هذا الأنتيكة ولكنها لم تأت ولكن فى أوائل 1953 حدث أن كانت حكومة الثورة تبحث عن إنشاء قاعدة صناعية فى مصر فبدأت فى البحث عن الخامات والمعادن فى صحراء مصر ومن ضمنها البحث عن خام الحديد فى أسوان وكان حظ أبى الذهاب مع الريس محمود إلى أسوان لعمل مجسات للبحث عن خام الحديد(واضح أن الضباط الأحرار كانت لديهم رؤية متكاملة عن المستقبل لمصر مش مسألة إنقلاب وبس)
وصل أبى مع دفعة من الشباب أمثاله من قريتنا إلى أسوان وعسكروا فى خيام فى جبالها وبدأوا فى ذلك المنجم ذو الحمرة الزاعقة والأتربة الناعمة المستثارة دوما بالمقاطف الخوص والفؤوس...كانت الحياة بائسة فى أجواء صحراوية شديدة القسوة من حيث الحرارة والبيئة فى جبال أسوان على هذه الكائنات النيلية التى عاشت وسط الخضرة والماء ...إن لم تكن فى رفاهية من العيش لكنها كانت فى موضعة من مواضع الجمال حيث الحقول والسواقى والنخيل والمواشى واللبن والطيور والبيض والجبن والمش والعيش الطازج من دقيق القمح أو دقيق الذرة...من رغفان وبتاو...كان زاد هؤلاء العمال العيش الناشف الذى أحضروه معهم من بلادهم مع التوم والبصل والملوخية الناشفة التى يحضرون بها تلك الوجبة البائسة"الشلولو" وكانت المياه تأتيهم أسبوعيا من خلال ناقلات وتوضع فى براميل للشرب وباقى أغراض الحياة ...كانت حياة بائسة بمعنى الكلمة...وقد كان لى خال مرفه خرج معهم فى أول رحلة له مع هذه الأنتيكة فلم يطق صبرا ورحل بعد إسبوع عائدا إلى قريتنا ...وهو الذى لم يكن يطيق العمل فى الزراعة وكان يستأجر من يقوم له بذلك فكيف له أن يعيش مثل هذه المعيشة اللى تقصر العمر كما يقول !
رحل خالى إلى جلبابه المعطر وشاشه الأبيض المزهر وطاقيته المطرزة تاركا أبى فى الجبلاية المقطوعة
كان أبى شخصية منظمة يحتفظ بكل ورقة وبكل قصقوصة ورق ويوما كنت أقلب أوراقه فوجدت ساركى القبض وكان راتبه فى المدة وهى خمستاشر يوم 375 قرشا يُستقطع منها 10قروش فيصبح الباقى 365 قرشا أى أن راتبه الشهرى كان 730 قرشا...تزوج أبى فى أوائل عام 54 وولدتنى أمى أوائل عام 55 وكنت وش السعد على أبى فقد أنشأ جمال عبد الناصر شركة الحديد الصلب المصرية وجعل مركزها حلوان ومناجم أسوان تابعة لها وتم تثبيت العمالة المؤقتة كلها
وتم تثبيت أبى وتحول من عامل بالسركى ليس له حقوق إلى عامل له وجبة غذائية ورعاية طبية وإجازة سنوية وإجازات عارضة...ولما كان أبى ممن يجيدون القراءة والكتابة والحساب واللغة بما أعطاه الله من حفظ للقرآن ومعرفة معانيه ولايقل نجابة عن أصحاب المؤهلات كل ذلك جعله يتحول من عامل بسيط إلى مساعد لأمين مخازن الشركة التى تحوى قطع الغيار لها كارت صنف يُكتب بالعربي والإنجليزي حروفا وأرقاما يحوى حركة الصنف من وارد وصادر...وأصبح أبى موظفا يضع قلما فى جيبه العلوى يلبس بدلة العمل والبنطلون والقميص بدلا من الجلابية التى لم تفارقه بعد مواعيد العمل...فى ذلك الزمن كان الطعام رخيصا ولكن النقد كان شحيحا...وهكذا مضت بنا وبه الحياة وإستقرينا فى أسوان إلى أن كان رحيله فى 1972 بعد حوالى 19 عام فى أسوان إلى مناجم الحديد بالواحات البحرية كأمين للمخازن وكان من المؤسسين للمنجم وللمدينة السكنية الخاصة بالعاملين فى الواحات ...ولحقنا به فى عام 1973...وأغلق منجم الحديد فى أسوان بدعوى عدم جدواه الإقتصادية
وتركنا المدينة السكنية الخاصة بالشركة وناديها الإجتماعى وملعب التنس وملعب السلة وملعب كرة القدم القانونى ومراجيح الأطفالها وألعابهم وحدائقها ومزرعه مثمرة مساحتها ثلاثون فدانا كل هذا إستولت عليه المحافظة وسكنها علية القوم وهى من أصول الشركة ومكتسباتها المالية...وفى الآخر يقولوا عليها خسرانة...
ذهبنا للواحات عام 1973 كعائلة وسكنا فى شقة سكنية مفروشة كانت جزء من مدينة سكنية جميلة ...كانت أقل من مدينة الشركة فى أسوان ولكن محيطها الصحراوى جعل لها خصوصية تحميها من المتطفلين وجعل لها سحرا خاصا وبريقا بالإضافة إلى الأمان المطلق الذى يلفها فلاتقلق على طفلك أو زوجتك أو أمك بالليل أو بالنهار ...كانت مدينة جميلة بها مدرسة ومطعم للعاملين وجمعية إستهلاكية وملاعب ترابية وحمام سباحة ضمن نادى إجتماعى لطيف صحيح كان لايقدم أيامها مشروبات غير الشاى والقهوة والينسون والكاكاو وغير الجيلى والكستر لكنها كانت رخيصة بقروش قليلة ...وخرج أبى للمعاش فى عام 1988 ولكن كان قلبه معلق بالمناجم وبشركة الحديد والصلب ...وقد جاءته فرص كثيرة ومغرية فى حياته الوظيفية للعمل فى جهات أخرى بضعف المرتب وخاصة بعد خبرته فى مخازن قطع الغيار وذاكرته الحديدية وعقليته المنظمة ...أبى مات وهو يحتفظ بشرائط المرتبات وفواتير النور وقرارات الترقية وشهادات نجاحنا الدراسية ونسخة تعاقدنا مع السنترال على أول تليفون ومقايسة الكهرباء لمنزلنا بالقاهرة ونسخة من كارت الدعوة لحفل زفافى ودون فى أجندته تواريخ ميلاد أبنائه وأحفاده بالساعة وساعة رحيل أمه وأخواته إلى الدار الآخرة ...وكل مايهمه ومايهمنا إحتفظ به
أبى مات فى عام 2003 رحمه الله....وبعد إغلاق مصانع الحديد والصلب بالضبة والمفتاح...الحديد والصلب التى حولت أبى من عامل بسيط إلى موظف مهنى متخصص...ونقلتنا من عمال تراحيل محتملين إلى أطباء ومهندسين وصيادلة وكذا أبناؤنا...وكذا أبناء كل منتسبى الشركة فعلت بهم مافعلت بنا...ويقولون الشركة خسرانة...الشركة التى أمدت حائط الصواريخ أيام حرب الإستنزاف بحديد دشمه وأمدت سكك حديد الوطن بقضبانها وأمدت سده العالى بأسياخه...وبأسعار التكلفة ...تم التقول عليها بأنها خسرانة ...إنها ليست هى الخسرانة إن العقول التى قررت وأد الشركة هى الخسرانة والوطن هو الخاسر الأكبر ...سيبيعون أراضى الشركة فى حلوان لمن يخرجون لنا ألسنتهم و يقيمون حفلات زفاف أبنائهم بعشرات الملايين ...وستتحول المدينة السكنية بالواحات إلى مدينة أشباح وسينهبون الأبواب والشبابيك والأسرة والمراتب والبطاطين والمكاتب والفاعل مجهول فلم تعد هناك أفران عالية وإن بقيت فهى أطلال وشواهد على نفوس وضيعة تاجرت بأقواتنا ومكتسباتنا وتتاجر بالوطن فى سوق النخاسة أو فى سوق الجوارى لمن يدفع الثمن من المستثمرين المحليين أو المغامرين الخليجيين ...خسارة والله يامصر ...أقول قولى هذا...وقوموا إلى ملهاتكم سامحكم الله ...ستدفعون ثمن الصمت من شرفكم وشرف أبنائكم عندما يصيرون عبيدا يقدمون الكؤوس للنزلاء فى المنتجعات السياحية بعد أن كانوا فلاحين يملكون الأرض ويمسكون الفأس وعمالا يحملون على الأعناق مقاطف الخوص فى كرامة...رحم الله المهندس سيد عبد الناصر وصحبه الذين قضوا فى سقوط طائرتهم فى الصحراء الغربية إستكشافا لمناجم الحديد فى الستينات ورحم الله المهندس عادل عبد الكريم الذى سمى أبى أخى المهندس عادل بإسمه ...ورحم الله كل من وضع بصمته فى بناء هذا الصرح الكبير الذى ينهار أمام أعيننا...ورحم الله أبى كامل خضرى الذى مات اليوم مع إغلاق المصانع مرة أخرى.