- ℃ 11 تركيا
- 21 نوفمبر 2024
محمد هنيد يكتب: حرق المصحف.. الجريمة والدروس
محمد هنيد يكتب: حرق المصحف.. الجريمة والدروس
- 7 يوليو 2023, 12:40:56 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
عجّت مواقع التواصل الاجتماعي خلال الأيام الماضية بمشهد حرق المصحف الشريف في السويد أمام مسجد ستوكهولم الكبير، حيث أقدم شاب عراقي على إحراق المصحف علنا أمام المسجد متلفظا بعبارات عنصرية خادشة. ليست الحادثة هي الأولى من نوعها؛ فقد أقدم عدد من المتطرفين قبل ذلك على حرق المصحف الشريف في فعل عنصري يهدف إلى إهانة المسلمين وإثارتهم، فضلا عن البحث عن الشهرة.
هذه الأفعال الفردية تستقي قيمتها ورمزيتها من عدة روافد، لعل أهمها السياق الحضاري الذي تندرج فيه والذي يتميز بالهجمة الشرسة التي تشنها أبواق غربية وشرقية ضد الإسلام والمسلمين منذ أكثر من عقدين من الزمان في ما يمثل الموجة المعاصرة للحرب على الإسلام والمسلمين.
كيف يمكن قراءة الواقعة في سياقها الحالي ؟ وما هي خلفياتها وأبعادها ؟ وما هي الأسس التي انبنت عليها ردود الفعل الإسلامية والعربية الشعبية منها والرسمية ؟
الواقعة وسياقها
الواقعة كما ذكرنا، ليست جديدة في شكلها المتمثل في حرق كتاب سماوي مقدس وتدنيسه علنا، فقد سبقت هذه الواقعة أفعال مشابهة أقدم خلالها عنصريون أوروبيون على حرق المصحف الشريف. ففي الدنمارك أقدم المتطرف "راسموس بالودن" زعيم حزب "الخط المتشدد" على حرق المصحف في أواخر شهر يناير من سنة 2023، كما شهدت هولندا والسويد أعمالا مشابهة قبلها.
سيحترم العالَم الإسلامَ والمسلمين يوم تتوقف عندهم دورة الدم والتناحر والشعوذة والأساطير يوم يفيق العقل الإسلامي الجبار من سباته الطويل ويحلق بأجنحة العلم والمعرفة والإبداع فينفض عنه غبار الموت ويفرض احتراما مستحقا على الجميع في الداخل والخارج. الحريةُ منطلَقا والكرامة غايةً.
كانت هذه الممارسات العنصرية صادرة في أغلبها عن شخصيات يمينية متطرفة تعتمد في خطابها السياسي على محاربة الإسلام وشيطنة المسلمين والمهاجرين، باعتبارهم خطرا على الهوية الوطنية، وهي السردية المركزية في الخطاب السياسي لأحزاب اليمين العنصري المتطرف في كل أوروبا وإن بدرجات متفاوتة.
لكن الجريمة الأخيرة لم تصدر هذه المرة عن شخصية سياسية أوروبية، بل صدرت عن لاجئ عربي عراقي مسيحي الديانة يتكلم العربية بطلاقة، وهي المرة الأولى التي يحدث فيها ذلك. مرتكب جريمة الكراهية اسمه هذه المرة "سلوان صباح متى موميكا" وهو عراقي الأصل ويبلغ من العمر 37 سنة. كان في العراق قائدا لميليشيا "كتائب صقور السريان" في سهل نينوى، وشغل كذلك منصب رئيس "حزب الاتحاد السرياني" مدة أربع سنوات من 2014 إلى 2018، وعرف بانحرافاته السلوكية وقتله مواطنا دهسا بسيارته قبل أن يفرّ من العراق ويطلب اللجوء في السويد.
حرق المصحف تزامنا مع عيد الأضحى يحمل كذلك رمزية ثقيلة في الوجدان العربي والإسلامي والعراقي بشكل خاص. وهي واقعة تتنزّل كذلك في طور انحسار الحرب العالمية على "الإرهاب الإسلامي" التي أطلقها مجرم الحرب جورج بوش الابن بعد أحداث 11 سبتمبر المشبوهة، وما أعقبها من مآسٍ ومجازر، في أفغانستان والعراق بشكل خاص.
صحيح أنّ هذه الحرب قد استعادت زخمها إبان الربيع العربي، واستعملت شماعة لقمع الثورات وتدمير المدائن العربية في ليبيا وسوريا واليمن بشكل بارز.. لكنها فترت اليوم بعد أن حققت أهدافها باختفاء التنظيمات الإرهابية، كالقاعدة وداعش وجبهة النصرة وبقية الفصائل الدموية التي لعبت دورا مركزيا في إسقاط الثورات السلمية المشروعة وسط بحر من الدماء والعنف المسلح.
هذا السياق الجديد، أي سياق ما بعد الثورات العربية، هو سياق لم يكتمل بعد، وهو ما يسمح بالقول إن هذه الوقائع الفردية إنما هدفها محاولة إذكاء الجانب الديني في الصراع القائم بين الشرق والغرب. فهي وإن كانت محاولات فردية لطلب الشهرة أو للترويج لحزب سياسي أو غيرها من الأهداف، إنما تشتبك وتتقاطع كرها مع شبكة كثيفة من الأفعال والوقائع لتشكل نسيجا متناسقا يعمل في اتجاه محدد ويسعى إلى تحقيق هدف بعينه.
قراءة في ردود الفعل العربية
هذه القراءة هي في نظرنا المحور الأهم من هذه الواقعة؛ لأنها تساهم في تبيّن الكيفية التي يؤوّل بها المسلم عامة والعربي المسلم خاصة فعلة حرق المصحف من جهة، وتساعد من جهة أخرى في تفكيك شيفرة ردة الفعل المؤسسة على هذا التأويل. كما أنها ستساهم في استقراء ردة الفعل المسيحية العربية لواقعة حرق كتاب المسلمين المقدس.
تأسست ردة الفعل الإسلامية والعربية الإسلامية الشعبية على استهجان كبير لجريمة حرق المصحف؛ إذ رأى فيه السواد الأعظم من الجمهور حلقة جديدة من حلقات إهانة المسلمين وشيطنتهم بحرق أقدس مقدساتهم. هو شعور مزدوج بالإهانة لأنه يعبّر عن هذا الغرب الذي لم يبرأ بعد من نظرته الدونية وازدرائه لمقدسات المسلمين دون غيرهم من أتباع الديانات الأخرى، بما فيها البوذية وحتى الديانات الوضعية.
فكيف لهذا الغرب الذي يتشدق بحرية التعبير واحترام الأديان وحقوق الإنسان أن يسمح لمقيم على أرضه أن يهين كتابا مقدسا لمئات ملايين البشر حول العالم؟ لماذا تسمح السويد وقبلها الدنمارك وهولندا بحرق المصحف دون غيره؟ لماذا تمنع قوانين هذه البلدان حرق الإنجيل أو التوراة أو التشكيك في المحرقة النازية في حين تحرس شرطتها حارق القرآن؟
بناء على هذا الشعور المتكرر بالإهانة تعالت الأصوات التي تطالب الحكومات العربية والإسلامية باتخاذ موقف صارم من دولة السويد، كما طالب آخرون بمقاطعة منتجات السويد عقابا لها على صمتها عن الجريمة.
في المقابل رأى آخرون أن هذه الجريمة التي تطال المسلمين ومقدساتهم دون غيرهم من الأمم والشعوب والديانات، إنما هي محصلة طبيعية لحالة الضعف والهوان والانقسام التي تعاني منها المجتمعات العربية والإسلامية والتي تنعكس حتما على علاقتهم مع الآخر. هذا الآخر الذي يهين مقدساتهم بحرق المصحف أو السماح به أو تدنيس أولى القبلتين في فلسطين لم يكن ليقدم على ذلك لو لم يكن على يقين من أنّ المسلمين في حالة من الضعف والهوان التي تمنعهم من أية ردة فعل عقلانية صارمة تعاقب الجاني وتمنعه من تكرير فعلته.
لقد ولّى منذ قرون ذلك الزمان الذي كان فيه المسلمون يحظون باحترام الآخر خوفا أو طمعا بعد أن دمرت الهزائم الحضارية المتتالية كل قدرة لهم على ردّ الفعل. فليست العنصرية التي تمارس ضدهم في الغرب والحروب التي تدمر مدنهم بما فيها الحرب على الإرهاب إلا عناوين فاقعة لهذا الانكسار الحضاري المزمن.
لن تتوقف إهانة الإسلام والمسلمين ما لم تتحرر الشعوب من مرض الاستبداد وقمع الحريات وما لم تنعتق من ثقافة الدجل وعبادة الزعيم الأوحد المسلح بأساطير شيوخ السلاطين وحركات العنف والفوضى وشبكات الفساد التي لا ترحم.
هنا نعود إلى علّة العلل؛ فليس حرق المصحف أو الحرب على الإرهاب أو تدنيس المقدسات أو الحرب على الدين ورموزه إلا نتائج طبيعية لفشل النظام الحضاري العربي برافعته الإسلامية في النهضة وفي التحرر وبناء أسباب القوّة، بما هي شرط شروط فرض الاحترام.
لن تتوقف إهانة الإسلام والمسلمين ما لم تتحرر الشعوب من مرض الاستبداد وقمع الحريات، وما لم تنعتق من ثقافة الدجل وعبادة الزعيم الأوحد المسلح بأساطير شيوخ السلاطين وحركات العنف والفوضى وشبكات الفساد التي لا ترحم.
إن الإهانة التي يشعر بها المسلمون عبر العالم من الواقعة القبيحة، إنما يعمقها الضعف والعجز عن ردّة الفعل لأن الشعوب العربية والمسلمة عامة تعيش إهانة مضاعفة. فالاستبداد السياسي الذي انتزع كرامتها وسيادة أوطانها قد حولها عبيدا في الداخل، أما في الخارج فهي عبارة عن جاليات ممزقة تعاني كل آلام العنصرية والتهميش والاستغلال. بل إن الإهانة الصادرة عن الخارج ليست في الحقيقة إلا امتدادا طبيعيا لإهانة الداخل، وهو ما يجعل من التحرر من عبودية الداخل شرطا أساسيا لكسر الإهانة الخارجية وتحقيق توازن السيادة كما فعلت أغلب أمم الأرض.
لقد نهضت اليابان من رماد القنبلة النووية، وفرضت احترام العالم بالعمل والصبر والتفاني والانضباط. وخرجت ألمانيا من خراب الحرب الثانية بعقل صناعي جبار. وها هي تركيا أمامنا تنفض عنها غبار التاريخ وتعيد أمجادها الإمبراطورية بثبات الطائرات المسيرة.
المشكل إذن ليس في الآخر الذي لا يحترمك؛ بل أصل المشكل فيك أنت لأنك عاجز عن فرض احترامك على الآخرين بما فيهم الأقليات التي تشاركك سقف بيتك. إن عجز الشعوب والنخب العربية المسلمة عن التحرر من الاستبداد السياسي الذي حوّلها عبيدا منتزعة الكرامة والسيادة على أرضها وخارجها هو الذي أفرز كل أنواع الإهانة والاحتقار والاستصغار التي تتعرض لها.
سيحترم العالَم الإسلامَ والمسلمين يوم تتوقف عندهم دورة الدم والتناحر والشعوذة والأساطير، يوم يفيق العقل الإسلامي الجبار من سباته الطويل ويحلق بأجنحة العلم والمعرفة والإبداع، فينفض عنه غبار الموت ويفرض احتراما مستحقا على الجميع في الداخل والخارج.. الحريةُ منطلَقا والكرامة غايةً.