- ℃ 11 تركيا
- 22 نوفمبر 2024
مدى الفاتح يكتب: بوركينافاسو: محاربة الإرهاب من منظور محلي
مدى الفاتح يكتب: بوركينافاسو: محاربة الإرهاب من منظور محلي
- 16 مايو 2023, 3:57:06 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
الدعاية الجهادية في وسط وغرب افريقيا تتأسس على التذكير بالمجد الإسلامي، وبالإمارات والدول العظيمة، التي ظلت ممتدة لقرون في هذه المناطق، منتجة حضارة علمية وأدبية زاهرة. يجتمع مع ذلك تركيز من ناحية أخرى على المظلومية، التي يعيشها المسلمون، سواء كانوا غالبية أو أقلية في الدول الافريقية العلمانية، التي يرون أنها تتشارك مع الاستعمار في معاداة الخطاب الذي يطالب بحقوق المسلمين.
بهذا الشكل تضع هذه الدعاية المؤمنين بأطروحاتها في مواجهة أعداء ثلاثة، هم الاستعمار بشقيه القديم والحديث، الذي يشمل أي تمظهر حالي لوجود أجنبي، والنخبة الحاكمة، بما فيها كل من يمثل النظام المتشكل بعد الاستقلال، وأخيراً عموم الشعب، بمن فيهم المسلمون، الذين لم يقوموا بما يلزم لدفع هذا الظلم عنهم.
بوركينافاسو الواقعة في الغرب الافريقي، التي استقلت عن فرنسا عام 1960، لم تكن بعيدة عن هذا المنطق، فقد وجدت فيها التنظيمات المتطرفة والفوضوية كـ»القاعدة» و»داعش» تربة خصبة ومساعدة على التمدد، مستفيدة من التهميش الاقتصادي ومعدلات الفقر، التي طالت شريحة واسعة من المواطنين في بلاد لا تخلو من الثروات. بوركينافاسو، التي شهدت تسعة انقلابات عسكرية خلال ست عقود، هي أيضاً بلد الزعيم الماركسي توماس سنكارا، جيفارا افريقيا، الذي لقي انقلابه العسكري عام 1983 تأييداً شعبياً. قام سنكارا بمنح البلد اسمه، الذي يعني في اللغة المحلية «أرض الرجال الشرفاء»، لاغياً اسمها القديم «جمهورية فولتا العليا»، كما ارتبط اسم الرجل بمحاولة تأسيس ثورة اقتصادية عبر تأميم زراعة القطن، والتركيز على الزراعة للوصول إلى الاكتفاء الذاتي. عمل سنكارا كذلك على إلغاء الفرنك الافريقي واتباع سياسات تجعل الذهب وغيره من المعادن الوطنية أكثر فائدة للمواطنين، كما كان متوقعا أدخل كل ذلك سنكارا في مواجهة مع الدول الغربية، خاصة فرنسا، التي كانت خطتها هي منح الاستقلال للمستعمرات الافريقية مع الاحتفاظ بمفاتيح اقتصادها. حقق سنكارا، المناهض للإمبريالية، بالفعل إنجازات كثيرة في وقت وجيز، خاصة في قطاعي التعليم والصحة، لكن مشروعه سرعان ما أجهض في عام 1987 عبر عملية اغتيال.
في الشق الخاص بمحاربة الاستعمار يبدو خطاب المجموعات المتشددة مشابهاً لخطاب سنكارا الثوري، وهو ما وضع هذه الجماعات تحت نظر المخابرات الغربية، التي رأت أن خطابها، الذي يذكّر بالجرائم الاستعمارية، ربما يتطور لاستهداف الأراضي أو المصالح الفرنسية والغربية. المفارقة تكمن في كون أن هذه المجموعات ما هي إلا عدوة لنفسها، فسواء كانت مجرد ألعوبة في أيادي المخابرات الغربية، أو كانت تمارس فوضويتها باستقلال، إلا أن الحقيقة تبقى أن أعمالها الإرهابية، التي راح ضحيتها الآلاف، والتي جعلت مناطق واسعة في البلاد غير آمنة، تقدم أكبر خدمة لمن يصفهم الخطاب الجهادي بأنهم أعداء، فأولئك الأعداء المفترضون يستغلون هذه الأعمال، التي لا يقرها ضمير، لتشويه أي حراك مناهض لوجودهم، وهم يجدون في توسع هذه التنظيمات في أعمال العنف الموجهة للأبرياء من المدنيين مسوغات مناسبة للتدخل تحت شعار «الحرب على الإرهاب». أعاد التغيير السياسي، الذي حدث العام الماضي، إلى الواجهة السؤال التالي وهو: إلى أي مدى يمكن أن تكون فرنسا التي لا يخفى حرصها على الاستغلال المجاني لثروات البلاد والتحكم ببوصلة اقتصاده شريكاً موثوقاً ونزيهاً في محاربة الإرهاب؟ هذا السؤال يتضمن تساؤلاً آخر حول جدية الشركاء الغربيين في إنهاء التنظيمات الإرهابية، وما إذا كانوا مستفيدين من وجودها أو مساهمين في دعمها. فرنسا دفعت بوركينا فاسو في السابق إلى تكوين ميليشيات أهلية بغرض محاربة الإرهاب، وهي التجربة التي تم انتقادها باعتبار أن هذا النوع من الميليشيات والجيوش الموازية، وإن نجح في تحقيق بعض الانتصارات، إلا أنه سرعان ما يتضخم ويتحول إلى سرطان يصعب التخلص منه أو التحكم فيه وهو الأمر الذي يمكن أن نجد له شواهد كثيرة.
القيادة البوركينية الحالية بخطابها المعادي للاستعمار، الذي تستلهم فيه الخطب الحماسية ضد الهيمنة الغربية، ربما تكون الأقدر على هزيمة الإرهاب عبر تفكيك منطقه
على الرغم من أن القائد البوركيني الجديد إبراهيم تراوري (35 عاماً) اتخذ إجراءات حاسمة ضد الوجود الفرنسي، من قبيل طرد حوالي 400 من قوات الكوماندوز الفرنسي المتمركزة قرب العاصمة واغادوغو، إضافة إلى وقف بث الإذاعة والتلفزيون الفرنسيين، إلا أن كل ذلك لم ينجح في إقناع المتشددين بتخفيف حدة الأعمال الإرهابية، أو في جعل البلد أكثر أماناً، فما تزال أهم طرق قوافل النقل والشحن البري مهددة، وما تزال محتاجة لأن تكون بمعية قوات مسلحة لضمان سلامتها. يمكن هنا تخيل ما ينتجه ذلك التعقيد من تأثيرات في حركة التصدير والاستيراد في بلد حبيس كبوركينافاسو. تقول الإحصاءات أن أعداد النازحين تجاوزت المليوني نازح، وأن المدارس تغلق بمعدل مئتي مدرسة كل شهر، في حين تضطر الأسر للانتقال بعيدا بحثاً عن مدارس يتكدس فيها التلاميذ. في مقاربته التي أطلق عليها اسم «الحرب الشاملة» يستخدم تراوري، الذي بدأ يحظى بشعبية لا تنكر، والذي يصفه أنصاره بالسائر على درب سنكارا، القصف بالطيران، كما يتوسع في تجنيد المتطوعين من الميليشيات المحلية ضمن سياسة التعبئة العامة، التي تعتبر أن البلاد في حالة حرب وطوارئ. ينتقد الغربيون اليوم هذه المقاربة باعتبار أنها تضع المسائل المتعلقة بحقوق الإنسان في مرتبة ثانية من ناحية الأهمية.
الحرب الشاملة يفترض أن تقود لحل شامل يذيب التهميش، الذي عانت منه مناطق كثيرة ويعيد الخدمات التي تأثرت وعانت لفترة طويلة من عدم الاستقرار بسبب الصراع. بهذا فقط يمكن أن يتم تجفيف منابع التجنيد للجماعات التي بلغت مراحل بعيدة في فوضويتها، لدرجة أنها بدأت القتال في ما بينها، كما هو حال الجماعتين الكبيرتين «القاعدة» و»تنظيم الدولة الإسلامية». القيادة البوركينية الحالية بخطابها المعادي للاستعمار، والذي تستلهم فيه الخطب الحماسية للمناضلين ضد الهيمنة الغربية، ربما تكون الأقدر على هزيمة الإرهاب عبر تفكيك منطقه، فمع وجود هذه القيادة، التي لا تبدو متحمسة كثيرا لصداقة فرنسا، لا يعود مسوغ محاربة الأجانب وعملائه واقعاً، بل على العكس يبدو وجود هذه الجماعات، كما ذكرنا، أكبر مبررات التدخل الدولي، ما يجعل هذه المجموعات أقرب لكونها أداة تساعد في الهيمنة على الشعوب. هذا هو ما يحاول كثير من العقلاء شرحه في رسائلهم التي يحاولون إيصالها للمغرر بهم من المنتمين لجماعات التكفير الجماعي.
من ناحية أخرى، لا يظهر إبراهيم تراوري أي نزوع إقصائي تجاه المسلمين، الذين هو منهم، أو أي احتقار تجاه الشعائر الإسلامية، وهو ما كان أيضاً من مسوغات تأليب الناس وتحشيد الشباب للقتال ضد الدولة التي تمنعهم من حقوقهم الدينية. في العيد الماضي، على سبيل المثال، كان مشهد تراوري في الصلاة الجامعة موحياً ومثيراً للإعجاب، حتى علق البعض أنها المرة الأولى منذ عقود طويلة التي يُرى فيها زعيم بوركيني في مثل هذا الموقف. يبدو الشعب البوركيني تحت قيادة تراوري عازماً على هزيمة المتطرفين الفوضويين، وهو مصطلح يشمل إرهاب الجماعات «الإسلامية» ولكن أيضاً العصابات الإجرامية الأخرى، التي تنتجها الهشاشة الأمنية. اليوم تؤكد التظاهرات الداعمة لتراوري ونجاح حملة جمع التبرعات الشعبية من أجل دعم جهود مكافحة الإرهاب على عزم البوركينيين على الانتصار، الذي لا بديل عنه، وذلك على الرغم من صعوبة التحدي.