- ℃ 11 تركيا
- 21 نوفمبر 2024
مدى الفاتح يكتب: عامل «حدود الدم» في معركة الخرطوم
مدى الفاتح يكتب: عامل «حدود الدم» في معركة الخرطوم
- 25 يوليو 2023, 4:02:28 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
تحفز الأحداث الجارية في السودان حالياً لإعادة قراءة كتاب «لا تترك القتال أبداً» للأمريكي رالف بيترز، الصادر عام 2008. الكتاب حظي بأهمية، ليس فقط نسبة لخلفية كاتبه العسكرية والاستخباراتية، لكن أيضا لما حققه مقال سابق له تحت عنوان «حدود الدم» من شهرة، حيث تمت ترجمة المقال وتم تداوله على صدى واسع بين الباحثين والمفكرين. استخدم بيترز مصطلح «حدود الدم» في مقاله، لافتا إلى وجود إشكالية وجودية وحدودية تتعلق بالمنطقة العربية، هذه الإشكالية تتمثل في كون هذه الحدود، التي تتأسس عليها سيادة الدول المعاصرة، ليست صلبة، بل سائلة وقابلة للتغيير، لأنها نشأت منذ البداية بشكل عشوائي.
تذكّر هذه الكلمات بما كان قد كتبه الباحث الأمريكي الآخر برنارد لويس، الذي كثيراً ما كان يتهم بالدعوة لتقسيم دول العالم العربي، حيث كان يعتبر هو الآخر أن الحدود في المنطقة، التي تسمى منطقة «الشرق الأوسط» هي حدود مصطنعة وغير موضوعية، مدللًا على ذلك بطريقة رسم كثير منها على شكل خطوط مستقيمة، دون اكتراث بالطبيعة الديموغرافية والامتدادات الإثنية.
إذا نحينا نظرية المؤامرة جانباً، دون أن نتجاهلها بالكامل، فسوف ننتبه إلى أن ما تأسس عليه كل من كلام برنارد لويس ورالف بيترز صحيح، فيكفي أن نذكر كيف قسم الفرنسي جورج بيكو والبريطاني مارك سايكس حدود المشرق العربي بتسرع ووفق تقسيم لا يراعي سوى مصلحة بلديهما. اعترف مارك سايكس لاحقًا بذلك في مذكراته، حيث اعترف بأن الحدود وضعت بإغفال العامل البشري، وكأن المنطقة كانت بلا سكان.
ما أحدثته الاتفاقية السرية، التي ستعرف لاحقاً باسم «سايكس- بيكو» 1916، كانت له نظائر في مستعمرات أخرى، في المغرب العربي، على سبيل المثال، كانت هناك اتفاقية مشابهة تقاسمت فيها كل من فرنسا وإسبانيا أراضي الدولة العلوية الفيلالية، هكذا، وكما تم استغلال ضعف وتراجع الدولة العثمانية من أجل قضم أطرافها، تم بالقدر ذاته استغلال هزيمة السلطان العلوي عبد الرحمن بن هشام للحرب في عام 1906 للاتفاق على تقاسم النفوذ بشكل يجعل شمال المغرب وجنوبها من نصيب إسبانيا، في حين تبقى أراضي الوسط تحت «الحماية» الفرنسية. التقسيم، كان يهدف، بالإضافة إلى تقاسم النفوذ، إلى إعاقة مشاريع التوحد في المنطقة، سواء تلك، التي كانت تفكر في استعادة الخلافة الإسلامية أو الأخرى، التي كانت تحلم بدولة عربية واحدة.
تقسيم سايكس بيكو كان يهدف، إلى إعاقة مشاريع التوحد في المنطقة، سواء التي كانت تفكر في استعادة الخلافة الإسلامية أو التي كانت تحلم بدولة عربية واحدة
من الملاحظات المهمة، التي خطها بيترز، ما دحض به النظرية، التي كانت، وما تزال، شائعة، والتي ترجع الصراعات في المنطقة للدين الإسلامي، الذي يحرض على العنف، بالنسبة لبيترز، فإن حالة النزاعات «الشرق أوسطية» لا يمكن تفسيرها بمعزل عن الحدود غير العادلة، التي ظلت تدفع الشعوب، منذ التأسيس، للقتال حولها، في حين تظل أكثر الأقليات شاعرة بالظلم وبأنها غير ممثلة بشكلٍ كاف في الهياكل السياسية. المفارقة حول حدود «سايكس بيكو» تكمن في أن الاستسلام والتقديس الحالي لها يتناقض مع ما قوبلت به من معارضة شرسة في بادئ نشأتها، حينها كان الأمر يبدو لجميع الفاعلين وكأنه لعب أطفال، وهو الرأي، الذي ساد ليس فقط بين القيادات السياسية في المنطقة لكن أيضاً بين المفكرين الغربيين، الذين توقعوا قدراً أكبر من مقاومة هذا المخطط. الخشية من ردة الفعل توضحها حقيقة أنه ظل طي الكتمان، لولا أن تم إفشاء السر بواسطة السوفييت، عقب الثورة البلشفية. يسهب بيترز في حديثه عن التقسيمات الجديدة في منطقة «الشرق الأوسط» فيتحدث عن حدود جديدة لكل من سوريا والعراق والسعودية وتركيا وإيران وباكستان وغيرها، ولا يبخل على قارئه فيرفق خريطة بها مقترحه «لحدود الدم» الجديدة. مهمة حمل قلم رسم وممحاة لخط حدود جديدة وتغيير أوطان اعتادت عليها الأجيال ليست سهلة، خاصة أن الأقليات بلغت قدرا من التداخل يجعل كل محاولة لإرضاء الجميع غير ممكنة وهو ما يعني أن الترسيم الجديد قد لا يحل أزمات المنطقة بشكل نهائي. على الرغم من ذلك كان بيترز يدعو لإعادة التفكير في ما لا يمكن التفكير به، وفق تعبيره، ويقدم اقتراحاته، التي تشمل دولة كردية عابرة للأوطان وأخرى فينيقية على الأرض اللبنانية وثالثة للبلوش ورابعة للفرس وهكذا، معتبرا أن ما يقدمه هو الحل الوحيد لمشاكل الاضطرابات الشرق الأوسطية وللتهديدات، التي تواجه الولايات المتحدة، والتي كثيرا ما تنطلق من هذه المنطقة. استقبل المثقفون العرب خرائط بيترز بتشكك وبرهاب كبير، حيث استنتجوا أنها تعني أن الغرب ربما كان بصدد «سايكس بيكو» جديدة.
كانت الحدود، على ما هي عليه من اعتباط، قد اكتسبت قدسية عند الجميع. هكذا تعمد أغلب المناقشين تجاهل التطرق إلى النقطة الرئيسة في نظرية بيترز، وهي أن هناك مشكلة فعلية متعلقة بالحدود، وأن هذا هو السبب الحقيقي للاحتقان والاضطراب في المنطقة، وفي عموم دول الجنوب. أما بالنسبة لأهل السياسة والسلطة، فإن مناقشة هذا الموضوع، الذي يشكك في حدود الممتلكات أو الأوطان، كان غير مقبول وبمثابة الخيانة. السودان لم يكن جزءاً من خريطة بيترز، الذي كان مهتماً أكثر بـ»الشرق الأوسط» وفق المخيال الاستعماري، لكن الناظر لهذا البلد يرى أنه أحد البلدان، التي تقدم نموذجا واضحا للحدود «السائلة» والقابلة للتغيير. ليس أدل على تلك السيولة من الطريقة السلسة، التي تم بها قبول انفصال الإقليم الجنوبي. يمكن الحديث مطولاً عن السودان الحالي وعن طريقة تكوينه من شعوب مختلفة ومتباينة، لكن أهم ما يجب أن نتذكره الآن هو أن السودان ظل لقرون عديدة بلاداً للهجرة الافريقية وطريقاً من غرب افريقيا إلى شرقها لعبور الحجيج، الذين استقرت أعداد منهم بشكل دائم في حدود ما اعتبروها وطنهم الجديد. شجع على هذا الاستقرار وإعادة التوطين أن بلاد السودان كانت تعني في مخيلة كثيرين كل تلك المساحة من الأراضي الشاسعة التي تمتد عبر الوسط والصحراء الافريقية، بهذا، فإن القادمين الجدد لم يكونوا يرون أنفسهم سوى «سودانيين» بشكل من الأشكال. يمكننا أن نأخذ هذه الحقائق بعين الاعتبار ونحن نناقش الهجمة البربرية، التي تتعرض لها الخرطوم اليوم، والتي تذكر بما كان ذهب إليه بيترز في تنظيره. «حدود الدم» قد تفسر لنا لماذا يقاتل شباب من تشاد والنيجر وافريقيا الوسطى وغيرها من البلدان الافريقية تحت راية تستهدف تغيير النظام في الخرطوم. وصف أولئك بالمرتزقة، أو المقاتلين لأجل المال، لا يكفي لتفسير الحماس والعصبية، التي يتمتعون بها، والتي لا تنفصل عن رغبة في تكوين دولة جديدة تتبدل فيها المراتب الاجتماعية وتصبح فيها الغلبة لإثنيات معينة ممتدة عبر الحزام السوداني الكبير. هذه الإثنيات والقبائل، التي تنتشر حتى أقصى الغرب الافريقي، ترى في معركة الخرطوم فرصة تاريخية لصياغة وطن خاص بها بعد عقود من التهميش. لعل هذا هو أحد تفسيرات قول منظري الميليشيا أنهم ضد سودان 1956. العبارة التي تعني السودان بتركيبته الاجتماعية والسياسية الحالية، والذي تسيطر عليه وتشكل ثقافته ومزاجه، وفق زعمهم، قبائل الوسط والشمال. فكرة «السودان الجديد» القادر على احتواء وتمكين الملايين من أبناء قبائل افريقية مرتبطة ببعضها بروابط دم كانت مغرية للقادمين أكثر من أي مقابل مادي.