- ℃ 11 تركيا
- 21 نوفمبر 2024
مدى الفاتح يكتب: فرنسا وألمانيا: ترتيب العلاقة الثنائية والأمن الدفاعي
مدى الفاتح يكتب: فرنسا وألمانيا: ترتيب العلاقة الثنائية والأمن الدفاعي
- 27 يونيو 2023, 7:14:57 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
العلاقة بين فرنسا وألمانيا، اللتين تمثلان قلب القارة العجوز، لم تكن على الدوام علاقة انسجام، بل كثيرا ما كانت تتأثر بتراكمات التاريخ، التي لو تأمل المرء في مراراتها لأدرك حقيقة أن بإمكان الدول، مهما كان حجم الاختلافات بينها، أن تنظر إلى المستقبل. خلف السياج الحميم الحالي من التداخل والمشاريع المشتركة، وعبارات التضامن واللطف، يكمن تاريخ من التنافس العدائي، الذي بلغ ذروته في القرن السادس عشر وتكرس أكثر مع الحروب الدموية التي شملت الحرب البروسية الفرنسية في عام 1870 وانتهت بالحروب العالمية التي خلفت ملايين الضحايا. اليوم يتمتع البلدان بعضوية حلف شمال الأطلسي، إضافة لعضويتهما في الاتحاد الأوروبي، كما يعمل البلدان بتنسيق لا يخفى لتحقيق مصالح البلدين والشعبين. هذا لا يعني أن هناك تطابقا تاما في وجهات النظر، فكثيرا ما يتخذ البلدان مقاربات مختلفة، حينما يتعلق الأمر بقضايا أمنية أو اقتصادية، لكن الطرفين كانا يحرصان على ألا يساهم ذلك في إضعاف المؤسسات التي تجمعهما.
على سبيل المثال حمل البلدان أفكارا مختلفة حول ما يتعلق بحل مشكلة الطاقة في أعقاب الأزمة الأوكرانية، ففي حين رأت فرنسا أن الحل يكمن في ابتكار حزمة مساعدات اتحادية تشمل كل أوروبا، كانت ألمانيا ترى أن أولويتها هي دعم المواطن الألماني. من ناحية أخرى كان البلدان، في مرحلة ما قبل الحرب الأوكرانية، مختلفين في نظرتهما للاتحاد الأوروبي وإمكانية توسيعه، ففي حين لم تكن فرنسا متحمسة لضم دول جديدة من الشرق الأوروبي، ظهرت ألمانيا بمظهر مغاير. يتسبب مثل هذا الاختلاف في الأفكار أحيانا في حدوث بعض التوتر، على غرار ما حدث في أكتوبر/ تشرين الأول، من العام الماضي، حينما تم إلغاء اجتماعات رفيعة المستوى لأعمال اللجنة الوزارية المشتركة بين البلدين.
التوتر يظل متحكما به وسرعان ما يتم احتواؤه.. بالنسبة لفرنسا وألمانيا المنهكتين بسبب الحرب الأوكرانية، خاصة على المستوى الاقتصادي
التوتر يظل متحكما به وسرعان ما يتم احتواؤه. بالنسبة للبلدين المنهكين بسبب الحرب الأوكرانية، خاصة على المستوى الاقتصادي، والمتعرضتين لتعقيدات كبيرة بسبب خيار مقاطعة منتجات الطاقة الروسية، لا يعتبر هذا هو الوقت المناسب لفتح أبواب مواجهة أوروبية، هذا ما أكدت عليه استضافة المستشار الألماني أولاف شولتس للرئيس الفرنسي في السادس من شهر يونيو/ حزيران الحالي، حيث حرص الرجلان على تبادل العبارات الأخوية والظهور بمظهر الصديق. في الواقع فإن حجم الاختلافات أصبح أقل، فمن ناحية اقتنعت ألمانيا بضرورة العمل الجماعي لاحتواء تداعيات الحرب الأوكرانية، ومن ناحية أخرى غيّرت فرنسا من وجهة نظرها حول توسيع الاتحاد وبدت مرحبة، ليس فقط بضم أوكرانيا وملدوفا، ولكن أيضا ألبانيا ومقدونيا الشمالية. توسيع الاتحاد الأوروبي باتجاه الشرق مهم لحماية الأمن الأوروبي، خاصة دول المركز، التي تعتبر أن تهديد الأطراف ينذر بتهديد محتمل لها، تبدو تلك النظرة راجحة في ظل السياسة الروسية الحالية والمبنية على إعادة تعريف حدودها، وهو ما يجعل تمدد جغرافيا الحرب احتمالا غير مستبعد. جعلت هذه المتغيرات المقاربة الفرنسية الحالية حول توسيع الاتحاد مختلفة عن النظرة المتحفظة التي كانت تأسست منذ عهد الرئيس جاك شيراك، المفارقة هي أن هذا الحماس الكبير للتوسيع والضم، لا يشمل دولة مهمة اقتصاديا وأمنيا كتركيا، التي يبدو الطرفان، الفرنسي والألماني، متفقين على رفض ضمها. كان موضوع التوسيع والأعضاء المرشحون هو العنوان الأساسي للاجتماع، الذي عقد في ملدوفا في الأول من يونيو الحالي. ضم الاجتماع 44 من دول الاتحاد وجوارها وتم فيه تقديم تطمينات مهمة للدول الراغبة في الانضمام بأن هذا الأمر لن يتأخر، وأنه في كل الأحوال لن يتم ترك دول الجوار الروسي وحيدة في مواجهة أي خطر. في قائمة الاختلافات تبقى نقطة مثار جدل وهي المتعلقة بالمسألة الأمنية، حيث تدعو فرنسا منذ سنوات طويلة للنأي بالنفس عن الرعاية الأمريكية، والاعتماد على الموارد الأوروبية من أجل تحقيق الأمن الجماعي، بالنسبة لدول أوروبية كثيرة على رأسها ألمانيا يعتبر ذلك مخاطرة قد تؤدي لتراجع الولايات المتحدة عن الالتزام بتعهداتها التاريخية الضامنة للأمن الأوروبي، وهو ما سيشكل كارثة، خاصة في ظل عدم الاستعداد العسكري الحالي، فعلى مدى عقود ساعد الاعتماد على الحليف الأمريكي على دخول القارة الأوروبية في حالة من «الاسترخاء العسكري». ماكرون، الذي كان اعتبر في تصريح شهير قبيل الأزمة الأوكرانية، أن حلف الناتو في حالة موت سريري لا يبدو مصرا على رأيه، الذي يقلل فيه من دور الحلف. على الأقل هذا ما أظهره حينما عبر عن دعمه لدول الطوق الأوروبي، وعلى رأسها أوكرانيا في مواجهة المخاطر المحتملة معبرا عن دعم بلاده لقبولها في الحلف. الموقف الألماني يبدو متأرجحا بين مساعي التأمين الداخلي والحرص على استدامة العلاقة الدفاعية مع الولايات المتحدة. يظهر هذا في التحفظ الألماني حول تسريع ضم الدول المرشحة، وهو موقف متطابق مع الموقف الأمريكي، الذي لا يبدو، حتى الآن، متحمسا لضم أوكرانيا. في مقابل الحماس الفرنسي يظهر التحفظ الألماني في تصريح أولاف شولتس، الذي قال إن الوقت الآن ليس وقت الحديث عن انضمام أوكرانيا، وإنما عن كيفية دعمها. لم تكن ألمانيا لتصل لموقعها الحالي كرابع الاقتصادات العالمية، لولا الغطاء العسكري الأمريكي من جانب، والتمتع السهل بمصادر الطاقة الروسية والسوق الصيني من جانب آخر. اليوم أجبرت الحرب الأوكرانية على إعادة التفكير في كل ذلك وهو ما اتضح من خلال إعلان ألمانيا قبل أيام عما سمته «استراتيجية الأمن القومي»، المتأسسة على التحديات الأمنية، التي تواجهها ألمانيا ودول الاتحاد حاليا. تحاول الوثيقة، التي صدرت قبل نحو أسبوعين أن تشرح موقع ألمانيا وعلاقتها بحلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، كما تدلل على استراتيجية العلاقة ليس فقط مع الولايات المتحدة، ولكن مع فرنسا أيضا، في الوقت الذي تطلق فيه على روسيا اسم التهديد الأكبر على المنطقة «الأوروأطلسية».
يرى البعض أن الوثيقة الاستراتيجية الألمانية لم تقدم جديدا، وأنها استعرضت تمنيات ورغبات دون تفصيل حول الكيفية والوقت، خاصة مسألة رفع الإنفاق الدفاعي بما يصل 2% من الناتج المحلي الاجمالي، والتي كان أعلن عن الشروع فيها منذ العام الماضي. من المعروف على سبيل المثال أن رفع الميزانية الدفاعية، أمر لا يمكن تنفيذه من دون تأثير في بنود الرفاه والرعاية الاجتماعية، وأن أخذ الموافقة الشعبية على هذه التضحية أمر يتطلب كثيرا من الوقت. أما الحديث عن تنفيذ كل ذلك دون تأثير في الميزانية الفيدرالية فيبدو أمرا غامضا، وهو ما دعا زعيم المعارضة فريدريك ميرز لأن يقول، خلال مناقشة برلمانية، إن وعود شولتس ليست سوى حبر على الورق. ربما يكون في ذلك بعض الصحة، لكن أهمية الوثيقة تكمن في تعبيرها عن تغيير في النظرة للأمن القومي واستشعار لجدية التحديات الطارئة، خاصة ما يتعلق بضرورة تبني موقف مشترك مع الجارة فرنسا. في خلفيات النقاشات الفرنسية والألمانية يبدو أن هناك سؤالا يطرح نفسه وهو: ماذا لو تلكأت الولايات المتحدة، التي قد تعود بشكل مفاجئ لتبني سياسة الانعزال، في التدخل لحماية حلفائها الأوروبيين أو اكتفت بالشجب أو تبني عقوبات اقتصادية على المعتدين؟