- ℃ 11 تركيا
- 28 ديسمبر 2024
مصطفى إبراهيم يكتب: 20 رمضان فتح مكة سنة 8 هجرية.. يوم صدق الله وعده ونصر جنده
مصطفى إبراهيم يكتب: 20 رمضان فتح مكة سنة 8 هجرية.. يوم صدق الله وعده ونصر جنده
- 30 مارس 2024, 7:35:04 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
في العشرين من رمضان في العام الثامن من الهجرة (الموافق 10 يناير 630م) استطاع المسلمون بقيادة النبي محمد صلى الله عليه وسلم فتحَ مكة وضمَّها إلى الدولتة الإسلامية. .و كان سببُ الغزوة أن قريشاً انتهكت الهدنةَ التي كانت بينها وبين المسلمين.وسبق ذلك أن أمر الرسولُ صلى الله عليه وسلم أتباعَه باتخاذ الاستعدادات لأداء العمرة في مكة، في شهر ذي القعدة سنة 6هـ الموافق عام 628ميلادي ، وذلك بعد أن رأى في منامه أنه دخل هو وأصحابُه المسجد الحرام وطافوا واعتمروا، فخرج من المدينة المنورة يوم الاثنين غرّة ذي القعدة سنة 6هـ، في 1400 أو 1500 من المسلمين، ولم يخرج بسلاح إلا سلاح المسافر وهي السيوف في القرب ، وساق معه الهدي سبعينَ بدنةً. ولمّا علمت قريش بذلك، قررت منعه عن الكعبة، فأرسلوا مئتي فارسٍ بقيادة خالد بن الوليد للطريق الرئيسي إلى مكة، لكنَّ الرسولَ محمدًا اتخذ طريقًا أكثر صعوبة لتفادي مواجهتهم، حتى وصل إلى الحديبية على بعد قرابة 15 كيلومتراً من مكة، فجاءه بُديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة فكلموه وسألوه عمَّا جاء به، فقال لهم الرسولُ صلى الله عليه وسلم : إنّا لم نجيء لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشًا قد نهكتهم الحرب وأضرّت بهم، فإن شاءوا ماددتهم، ويخلّوا بيني وبين الناس، وإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جَمُّوا، وإن هم أبَوا إلا القتال فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، أو لينفذنّ الله أمره…
فرجعوا إلى قريش فقالوا: «يا معشر قريش، إنكم تعجلون على محمد، إن محمداً لم يأت لقتال، وإنما جاءَ زائراً هذا البيت»، فاتهمتهم قريش وقالت: «وإن كان جاء ولا يريدُ قتالاً، فوالله لا يدخلها علينا عنوة أبداً، ولا تحدّث بذلك عنّا العرب» ، ثم أرسلت قريش رسلا عدة إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، كان آخرهم عروة بن مسعود الثقفي فأجابهم النبي بمثل ما قاله لرسول قريش الأول، ثم أرسل البني صلى الل هلعيه وسلم بعدها عثمانَ بن عفان إلى قريش ليفاوضهم، فتأخر في مكة حتى سرت إشاعة أنه قد قُتل، فقرر الرسولُ أخذَ البيعة من المسلمين على أن لا يفرّوا، فيما عرف ببيعة الرضوان، فلم يتخلّف عن هذه البيعة أحد إلا جد بن قيس، ونزلت في ذلك آيات من القرآن الكريم التي قال الله تعالى فيها " لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ". . وخلال ذلك وصلت أنباء عن سلامة عثمان، وأرسلت قريشٌ سهيل بن عمرو لتوقيع اتفاق مصالحة عرف بصلح الحديبية، ونصّت بنوده على عدم أداء المسلمين للعمرة ذلك العام على أن يعودوا لأدائها العام التالي، كما نصّت على أن يَرُدَّ المسلمون أي شخص يذهب إليهم من مكة بدون إذن، في حين لا ترد قريش من يذهب إليهم من المدينة. واتفقوا أن تسري هذه المعاهدة لمدة عشر سنوات، وبإمكان أي قبيلة أخرى الدخول في حلف أحد الطرفين لتسري عليهم المعاهدة.. فدخلت قبيلة خزاعة في حلف الرسولِ محمدٍ، ودخل بنو الدئل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة في حلف قريش، ولمَّا فرغوا من الكتاب انطلق سهيل وأصحابه عائدين إلى مكة.
بإعانتها لحلفائها من بني الدئل بن بكرٍ بن عبد مناةٍ بن كنانة (تحديداً بطنٌ منهم يُقال لهم «بنو نفاثة») في الإغارة على قبيلة خزاعة، الذين هم حلفاءُ المسلمين، فنقضت بذلك عهدَها مع المسلمين الذي سمّي بصلح الحديبية. وردّاً على ذلك، جَهَّزَ الرسولُ محمدٌ جيشاً قوامه عشرة آلاف مقاتل لفتح مكة، وتحرَّك الجيشُ حتى وصل مكة، فدخلها سلماً بدون قتال، إلا ما كان من جهة القائد المسلم خالد بن الوليد، إذ حاول بعضُ رجال قريش بقيادة عكرمة بن أبي جهل التصديَ للمسلمين، فقاتلهم خالدٌ وقَتَلَ منهم اثني عشر رجلاً، وفرَّ الباقون منهم، وقُتل من المسلمين رجلان اثنان.
ولمَّا نزل الرسولُ محمدٌ بمكة واطمأنَّ الناسُ، جاءَ الكعبة فطاف بها، وجعل يطعنُ الأصنامَ التي كانت حولها بقوس كان معه، ويقول: «جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا» و«جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ»، ورأى في الكعبة الصورَ والتماثيلَ فأمر بها فكسرت. ولما حانت الصلاة، أمر الرسولُ محمد بلال بن رباح أن يصعد فيؤذن من على الكعبة، فصعد بلالٌ وأذّن.كان من نتائج فتح مكة اعتناقُ كثيرٍ من أهلها دينَ الإسلام، ومنهم سيد قريش وكنانة أبو سفيان بن حرب، وزوجتُه هند بنت عتبة، وكذلك عكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو، وصفوان بن أمية، وأبو قحافة والد أبي بكر الصديق، وغيرُهم.
كانت بين قبيلتي خزاعة وبني الدئل بن بكر عداوة وثارات في الجاهلية، وقد دخلت خزاعة في حلف الرسول محمد ودخلت بنو الدئل بن بكر في حلف قريش، فلما كانت الهدنة اغتنمها بنو الدئل بن بكر، وأرادوا أن يصيبوا من خزاعة ثأراً لهم، فخرج نوفل بن معاوية بن عروة الديلي في جماعة من بني الدئل بن بكر في شهر شعبان سنة 8هـ، فأغاروا على خزاعة ليلاً، وهم على ماء يقال له «الوتير» جنوب غربي مكة، فأصابوا منهم رجالاً، وتحاوزوا واقتتلوا، وأمدت قريشٌ بني الدئل بالسلاح، وقاتل معهم من قريش من قاتل بالليل مستخفياً، حتى حازوا خزاعة إلى الحرم، فلما انتهوا إليه قالت بنو الدئل بن بكر: «يا نوفل، إنا قد دخلنا الحرم، إلهك إلهك»، فقال: «لا إله اليوم، يا بني بكر، أصيبوا ثأركم، فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم، أفلا تصيبون ثأركم فيه؟»، ولما دخلت خزاعة مكة لجأوا إلى دار بديل بن ورقاء الخزاعي، وإلى دار مولى لهم يقال له رافع.
ونتيجةً لذلك الغدر والنقض في العهد، خرج عمرو بن سالم الخزاعي في أربعين من خزاعة حتى قدموا على الرسول محمد في المدينة المنورة، وأخبروه بما كان من بني الدئل بن بكر، وبمن أصيب منهم، وبمناصرة قريش لبني الدئل بن بكر عليهم، ووقف عمرو بن سالم على الرسول وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس فقال:
يـا رب إنـي نـاشـدٌ مـحمدًا حلف أبينا وأبيه الأتـلدا
قـد كنتم وُلدًا، وكنا والدًا ثُمت أسلـمنـا فلم ننزع يداً
فانصر -هداك الله- نصرًا أعتداً وادع عباد الله يأتوا مـدداً
فقال الرسول محمدٌ: «نُصرت يا عمرو بن سالم»، ولما عرض السحاب من السماء قال: «إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب»، وبنو كعب هم خزاعة.. ثم خرج بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة، حتى قدموا على الرسولِ صلى الله عليه وسلم في المدينةَ، فأخبروه بمن أصيب منهم، وبمظاهرة قريش لبني الدئل بن بكر عليهم، ثم رجعوا إلى مكة... فازداد إصرا النبي صلى الله عليه وسلم على فتح مكة تنفيذا لعهده مع حلفائه ... أحست قريش بغدرها، بنصرها لبني الدئل على خراعة خلافاً لما اتفقوا عليه مع النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية، وخافت قريش من عواقب غدرها وشعرت بالخوف من نتائج خيانتها ونقضها لعهدها مع المسلمين ، فعقد زعماء قريش مجلساً استشارياً، وقررت أن تبعث قائدها أبا سفيان ممثلاً لها، ليقوم بتجديد الصلح. .وقد أخبر الرسولُ صلى الله عليه وسلم أصحابَه بما ستفعله قريش إزاء غدرتهم، فقال للصحابة : «كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم ليشد العقد، ويزيد في المدة».
فخرج أبو سفيان حتى أتى الرسولَ صلوات الله عليه فكلمه، فلم يرد عليه شيئاً، ثم ذهب إلى أبي بكر فكلمه أن يكلم الرسولَ، فقال: «ما أن بفاعل»، ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه، فقال: «أأنا أشفع لكم إلى رسول الله ﷺ؟ فو الله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به»، ثم حاول مع علي بن أبي طالب، فقال له بعدحوار طويل : «والله ما أعلم لك شيئاً يغني عنك، ولكنك سيد بني كنانة، فقم فأجر بين الناس، ثم الحق بأرضك»، قال: «أو ترى ذلك مغنياً عني شيئاً؟»، قال: «لا والله ما أظنه، ولكني لم أجد لك غير ذلك»، فقام أبو سفيان في المسجد، فقال: «أيها الناس، إني قد أجرت بين الناس»، ثم ركب بعيره وانطلق.
ولما قدم أبو سفيان على قريش قالوا: «ما وراءك؟»، قال: «جئت محمداً فكلمته، فوالله ما رد علي شيئاً، ثم جئت ابن أبي قحافة فلم أجد فيه خيراً، ثم جئت عمر بن الخطاب، فوجدته أدنى العدو، ثم جئت علياً فوجدته ألين القوم، قد أشار علي بشيء صنعته، فو الله ما أدري هل يغني عني شيئاً أم لا؟»، قالوا: «وبم أمرك؟»، قال: «أمرني أن أجير بين الناس، ففعلت»، قالوا: «فهل أجاز ذلك محمداً؟»، قال: «لا»، قالوا: «ويلك، إن زاد الرجل على أن لعب بك»، قال: «لا والله ما وجدت غير ذلك».وبعد أن قرر الرسول محمدٌ صلى الله عليه وسلم السير لفتح مكة، حرص على كتمان هذا الأمر؛ حتى لا يصل الخبر إلى قريش فتعد العدة لمجابهته، فقد كَتَمَ أمرَه حتى عن أقرب الناس إليه، فكَتَمَه عن صاحبه أبي بكر الصديق، وزوجته عائشة، فلم يعرف أحدٌ شيئًا عن أهدافه الحقيقية، ولا باتجاه حركته، ولا بالعدو الذي ينوي قتالَه، وكان الرسولُ محمد قد أمر عائشة قبل أن يأتي إليه خبر نقض الميثاق بثلاثة أيام أن تجهزه، ولا يعلم أحد، فدخل عليها أبوها أبو بكر الصديق، فقال: «يا بنية ما هذا الجهاز؟»، قالت: «والله ما أدري»، فقال: «والله ما هذا زمان غزو بني الأصفر، فأين يريد رسول الله؟»، قالت: «والله لا علم لي".
كما بعث الرسول صلوات الله وسلامه عليه قبلَ مسيرة مكة سريةً مكونةً من ثمانية رجال إلى إضم، وذلك لإسدال الستار على نياته الحقيقية، وفي ذلك يقول ابن سعد: «لما همَّ رسول الله ﷺ بغزو أهل مكة بعث أبا قتادة بن ربعي في ثمانية نفر سرية إلى بطن إضم (وهو وادي المدينة الذي يجتمع فيه الوديان الثلاثة: بطحان، وقناة، والعقيق)، ليظن الظان أن رسول الله ﷺ توجه إلى تلك الناحية، ولأن تذهب بذلك الأخبار، فمضوا ولم يلقوا جمعًا، فانصرفوا حتى انتهوا إلى ذي خُشُب (وهو موضع على مرحلة من المدينة إلى الشام يبعد عن المدينة 35 ميلاً، أي 56 كيلومتراً تقريباً)، فبلغهم أن رسول الله قد توجه إلى مكة، فأخذوا على "بيبين" حتى لقوا النبي ﷺ بالسُّقيا (وهي موضع يقع في وادي القرى).»
وأعد الرسولُ محمدٌ جيشًا وصلت عدته إلى عشرة آلاف رجل، وبث رجالَ العسس بالدولة الإسلامية داخل المدينة وخارجها حتى لا تنتقل أخباره إلى قريش، ثم دعا الله تعالى فقال: «اللهم خذ على أسماعهم وأبصارهم فلا يرونا إلا بغتة ولا يسمعوا بنا إلا فجأة». خرج الرسولُ محمدٌ قاصدًا مكة في العاشر من رمضان في العام الثامن للهجرة، واستخلف على المدينة أبا رهم كلثومَ بن حصين بن عتبة بن خلف الغفاري الكناني، وكان عددُ الجيش عشرةَ آلافٍ فيهم المهاجرون والأنصار الذين لم يتخلف منهم أحد، فسار هو ومن معه إلى مكة يصومُ ويصومون، فلما وصل الجيشُ منطقةَ الكديد (الماء الذي بين قديد وعسفان) أفطر وأفطر الناس معه، وفي منطقة الجحفة لقيه عمُّه العباسُ بن عبد المطلب وقد خرج مهاجرًا بعياله، فسُرَّ الرسول محمدٌ.
وخرج أبو سفيان بنُ الحارث الهاشمي القرشي وعبدُ الله بنُ أمية بنِ المغيرة المخزومي القرشي من مكة، فلقيا الرسولَ محمداً بثنية العقاب فيما بين مكة والمدينة، فالتمسا الدخولَ عليه، فكلمته أمُّ سلمة فقالت: «يا رسول الله ابن عمك، وابن عمتك وصهرك»، فقال: «لا حاجة لي فيهما؛ أما ابن عمي فهتك عرضي، وأما ابن عمتي وصهري فهو الذي قال لي بمكة ما قال»، فلما خرج الخبر إليهما بذلك -ومع أبي سفيان بن الحارث ابنٌ له- فقال: «والله ليأذنن رسولُ الله ﷺ أو لآخذن بيد ابني هذا، ثم لنذهب في الأرض حتى نموت عطشًا أو جوعًا»، فلما بلغ ذلك الرسولَ رقَّ لهما، فدخلا عليه، فأنشده أبو سفيان قوله في إسلامه واعتذاره عما كان مضى .
وتابع الرسولُ محمد سيرَه حتى أتى مر الظهران، وهو وادٍ شمال مكة بـ 22 كيلومتراً، فنزل فيه عشاءً، فأمر الجيش فأوقدوا النيران، فأوقدت عشرة آلاف نار، وجعل على الحرس عمر بن الخطاب.. وأوقد الجيشُ عشرةَ آلاف نار، وعندما شاهد أبو سفيان تلك النيران خاف على نفسه وعلى قريش ،فقابل العباس بن عبد المطلب م النبي صلى الله عليه وسلم ، وأعرب له عن خوفه، فذهب به العباس إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، الذي قال لعمه : «اذهب به يا عباس إلى رحلك فإذا أصبحت فأتني به»، فلما أصبح غدوت به، فلما رآه رسول الله ﷺ قال: «ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله؟»، قال: «بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني بعد»، قال: «ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟»، قال: «بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! أما هذه والله فإن في النفس منها حتى الآن شيئًا»، فقال له العباس: «ويحك أسلم قبل أن نضرب عنقك»، قال: فشهد شهادة الحق فأسلم، قال العباس: قلت: «يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئًا»، قال: «نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن»، فلما ذهب لينصرف قال رسول الله: «يا عباس، احبسه بمضيق الوادي عند خطم الجبل، حتى تمر به جنود الله فيراها»، قال: فخرجت حتى حبسته حيث أمرني رسول الله ﷺ، ومرت القبائل على راياتها، كلما مرت قبيلة قال: «يا عباس من هذه؟»، فأقول: «غفار»، فيقول: «ما لي ولغفار»، ثم تمر به القبيلة فيقول: «يا عباس من هؤلاء؟»، فأقول: «سليم»، فيقول: «ما لي ولسليم»، وهكذا حتى مرت كل القبائل التي يتكون منها جيش المسلمين ، وساعتها قال أبو سفيان : «ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة»، ثم قال: «والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك اليوم عظيمًا»، فقال العباس «يا أبا سفيان: إنها النبوة»، قال: «فنعم إذن»، قال: قلت: «النجاء إلى قومك»...وهكذا تعمد الرسول محمد شن الحرب النفسية على أعدائه أثناء سيره لفتح مكة، حيث أمر الرسول بإيقاد النيران، فأوقدوا عشرة آلاف نار في ليلة واحدة حتى ملأت الأفق، فكان لمعسكرهم منظر مهيب كادت تنخلع قلوب القرشيين من شدة هوله، وقد قصد الرسولُ محمد من ذلك تحطيمَ نفسيات أعدائه والقضاءَ على معنوياتهم حتى لا يفكروا في أية مقاومة، وإجبارَهم على الاستسلام لكي يتم له تحقيقُ هدفه دون إراقة دماء.
عندما وصل الرسولُ صلى الله عليه وسلم إلى ذي طوى وزع المهام على قادة الجيش،وكانت راية الأنصار مع سعد بن عبادة، فلما مرَّ بأبي سفيان قال له: «اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، اليوم أذل الله قريشاً»، فلما حاذى الرسولُ محمد أبا سفيان قال: «يا رسول الله ألم تسمع ما قال سعد؟»، قال: «وما قال؟»، فقال: كذا كذا، فقال عثمان وعبد الرحمن بن عوف: «يا رسول الله، ما نأمن أن يكون له في قريش صولة»، فقال الرسولُ محمد: «بل اليوم يوم تعظم فيه الكعبة، اليوم يوم أعز الله فيه قريشاً»، ثم أرسل إلى سعد فنزع منه اللواء، ودفعه إلى ابنه قيس بن سعد بن عبادة، وقيل أن اللواء لم يخرج عن سعد، وقيل: بل دفعه إلى الزبير. .. ودخل أبو سفيان إلى مكة مسرعًا ونادى بأعلى صوته: «يا معشر قريش، هذا محمد جاءكم فيما لا قِبَل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن»، فقامت إليه هند بنت عتبة فأخذت بشاربه فقالت: «اقتلوا الحميث الدسم الأحمس، قبح من طليعة قوم»، قال: «ويلكم! لا تغرنكم هذه من أنفسكم؛ فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن»، قالوا: «قاتلك الله، وما تغني عنا دارك؟»، قال: «ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن»، وتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد الحرام .
دخلت قواتُ المسلمين مكةَ من جهاتها الأربع في آنٍ واحدٍ، ولم تلق تلك القوات مقاومة تقريباً، وكان في دخول جيش المسلمين من الجهات الأربع ضربةٌ قاضيةٌ لجنود قريش، حيث عجزت عن التجمع، وضاعت منها فرصةُ المقاومة، وهذا من التدابير الحربية الحكيمة التي لجأ إليها الرسولُ محمدٌ عندما أصبح في مركز القوة في العدد والعتاد، ونجحت خطة الرسول؛ فلم يستطع المشركون المقاومة، ولا الصمودَ أمام الجيش الزاحف إلى أم القرى، فاحتل كل فيلق منطقته التي وُجّه إليها، في سلم واستسلام، إلا ما كان من المنطقة التي توجه إليها خالد بن الوليد، فقد تجمع بعضُ رجال قريش ومنهم صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو وغيرهم مع بعض حلفائهم في مكان اسمه «الخندمة» وتصدوا للقوات المتقدمة بالسهام، وصمموا على القتال، فأصدر خالد بن الوليد أوامره بالانقضاض عليهم، وما هي إلا لحظات حتى قضى على تلك القوة وشتت شمل أفرادها، وبذلك أكمل الجيشُ السيطرةَ على مكة المكرمة.
وقُتل من المسلمين كرز بن جابر الفهري القرشي وخنيس بن خالد الخزاعي، وكانا قد شذّا عن الجيش، فسلكا طريقاً غير طريقه فاستشهد الاثنان، وأما المشركون فإن المسلمين قد أصابوا اثني عشر رجلاً منهم فانهزموا وفرّوا. ودخل الرسولُ محمدٌ مكةَ وعليه عمامة سوداء بغير إحرام، «وهو واضع رأسه تواضعًا لله، حين رأى ما أكرمه الله به من الفتح، حتى إن ذقنه ليكاد يمس واسطة الرحل، ودخل وهو يقرأ سورة الفتح مستشعرًا بنعمة الفتح وغفران الذنوب، وإفاضة النصر العزيز»، وعندما دخل مكة فاتحًا أردف أسامة بن زيد -وهو ابن زيد بن حارثة مولى الرسولِ محمدٍ- ولم يردف أحداً من أبناء بني هاشم وأبناء أشراف قريش وهم كثير، وكان ذلك صبح يوم الجمعة لعشرين ليلة خلت من رمضان، سنة ثمانٍ من الهجرة .