- ℃ 11 تركيا
- 21 نوفمبر 2024
معصوم مرزوق يكتب: أم كلثوم في المعسكر
معصوم مرزوق يكتب: أم كلثوم في المعسكر
- 15 أكتوبر 2021, 11:15:55 م
- 910
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
كنا نعرف طبعا أننا نرتكب جريمة وفقا للنظام المرعي ، ونخالف قاعدة بل نكسرها عمدا مع سبق الإصرار والترصد ..وكانت العقوبات المتوقعة شديدة .. ولكن كله يهون علشان عيون أم كلثوم ، او بالأحري صوتها البديع ..
المكان هو المقر المؤقت للكلية الحربية في السودان ، مساء خميس كانت الست ستغني فيه لأول مرة أغنية ( الحب كله ) التي كتبها أحمد شفيق كامل ولحنها بليغ حمدي .
لم تكن ام كلثوم ممنوعة في الكلية الحربية ، وقد فهمنا من كبير المعلمين أن الإذاعة الداخلية للمعسكر سوف تذيع الأغنية صباح اليوم التالي وحتي موعد صلاة الجمعة ..
كانت قائمة الممنوعات منوعة ، أشهرها طبعا التدخين ، ولكن أخطرها البقاء متيقظا أو التحرك بعد نوبة نوم ..وكانت ام كلثوم لا يحلو لها الغناء إلا " بعد نوبة نوم " ..
وكالعادة في مثل هذه الأحوال وضعنا الخطة التفصيلية أثناء " طابور المذاكرة " ، وكان الضابط النوبتجي كلما مر علينا أفهمناه أننا نراجع سويا دروس الطبوغرافيا ..
كان علينا الإتفاق علي " العنبر " الذي سنحضر فيه الحفلة ، ثم من يتولي شراء البطاريات الممنوعة من معسكر " لواء الجنود " خلسة ، ومعها بعض إمدادات السجائر ..وتم التأكيد علي حمدي كي يخرج " الراديو " الوحيد الذي لدينا من المخبأ حيث يخفيه بعناية ولا يخرج إلا في مثل هذه المناسبات القومية ..
اخترنا عنبر إعدادي ٢ لكونه يحتل موقعا وسطا يتيح المراقبة الجيدة لطرق إقتراب الضابط النوبتجي ، ثم اتفقنا علي نقاط مراقبة يحتلها بالتبادل من تقع عليهم القرعة ، ويكون التبديل بعد كل كوبليه للست ، حيث أنها تكرر كل كوبليه عدة مرات ، ثم حددنا فراش طارق الذي ينتصف العنبر المذكور ، واخذنا أحتياطات وضع بعض الملآت كي تكتم الصوت فلا يخرج خارج العنبر ..
واعددنا بعض الأطعمة الجافة والمشروبات ، وجهاز الشاي " الممنوع " والذي كان عبارة عن طرفي سلك كهربي يوضع في البراد لتسخين المياه ..
كنا نعلم ان إكتشاف هذه المغامرة قد يعرضنا لعقوبة تصل إلي حد الفصل ، ولكن روح الشباب ، ورغبتنا في التواصل مع الوطن وأحبائنا عن طريق صوت ام كلثوم ، جعلنا لا نبالي بكل المخاطر .. والحقيقة أننا كنا نراهن أيضا علي ان ضباط الكلية ايضا يحبون ام كلثوم ، ولن يتركوا حفلتها كي يمروا علي طلبة يفترض أنهم نائمون منذ فترة ومهدود حيلهم .
بالطبع كان بيننا " خونة " يرفضون هذا النوع من المغامرات ، ويفضلون الإلتزام والنوم بعد نوبة نوم مباشرة ، ومن بينهم كان صديقي مجدي الذي ما فتأ ينصحني تلك الليلة بالبقاء في عنبرنا وعدم التضحية بمستقبلي ، فقلت له متقمصا الجدية " لا بد ان تتعلم التضحية من أجل من تحب ، وأم كلثوم تستاهل " !.
ارتفع صوت البروجي معلنا نوبة رجوع ، فهرولنا إلي أسرتنا في وضع انتباه ، ونحن نرقب بطرف أعيننا الضابط النوبتجي يمر بسرعة خلف زجاج العنبر ليراقب إنضباطنا ، ثم ارتفعت سارينة نوبة نوم ، وأطفئت الأنوار في المعسكر إلا من كشافات في أركان متباعدة ، وقفزنا إلي الفراش ندعي النوم العميق ..
وبعد مرور وقت كاف بدأنا نتسلل كالأشباح إلي العنبر الأوسط المتفق عليه ، وتحاوطنا الفراش الذي كان يمثل محطة إذاعة ، وكان الإتفاق أنه في حالة الطوارئ يدخل كل واحد منا تحت اقرب فراش في سرعة وهدوء ..
وضبط حمدي المحطة بعد صعوبة ، وكان الصوت يروح بعيدا ويجيئ ، وقد أشعلنا السجائر ، وكل واحد منا شارد في خيالاته التي تثيرها الأغنية ..وكنا شديدي الحرص علي كتم اصواتنا قدر الإمكان ، وعيوننا تراقب الأبواب التي وقف عليها "الناضورجية" ، وكان كل شئ يسير وفقا للخطة بلا أي مشاكل ، حتي وصلت الأغنية إلي الكوبليه الذي كانت ام كلثوم تقول فيه : " ولما شفتك اول ما شفتك
بكل شوق الدنيا لقيتني
مشدود اليك
وفي كل حب الدنيا ناديتك وجريت عليك
ناديت ناديت عالدنيا بحالها
ولكل قلب بدقته حس
يا دنيا حبي وحبي وحبي
ده العمر هو الحب وبس
وما أن انتهت منه ، خرجت منا جميعا صيحة إعجاب عاليه " الللللله " ، من المؤكد انها وصلت إلي بعض القري السودانية المجاورة ، وربما إلي كل قارة إفريقيا ، وطبعا كل الضباط بما فيهم مدير الكلية ..
فوجئنا بإضاءة أضواء المعسكر بالكامل ، بينما كان المتآمرون يهرولون بسرعة كل إلي عنبره ، ثم إلي فراشه ، بينما حضر اكثر من ضابط في سيارات الجيب ، يحاصرون ويمسكون من يلحقون بهم ..
وكان من ضمن الذين تم توقيفهم صديقي المنضبط مجدي الذي كان قد نهض من نومه مذعورا ، ولم يكن يفهم حالة الهرج والمرج المحيطة ، وظن ان هناك حريقا أو زلزالا فخرج مهرولا خائفا خارج العنبر ليجد نفسه في عناق الضابط النوبتجي ..
ارتفعت سارينة المعسكر منبهة بالجمع فورا في أرض الطابور بالبيجامات .. ووقفنا جميعا ننصت لتهديدات كبير المعلمين ، وهو يتوعدنا بالرفت من الكلية ..
ولأننا كنا نتمسك بما يطلق عليه " روح الدفعة " ، فلم يشي اي ممن تم إيقافهم ويدل علي زملائه بما في ذلك صديقي مجدي ، رغم انهم عوقبوا بخصم درجات وطوابير زيادة بالشدة الثقيلة .. وقد عرفنا بعد ذلك بسنوات ان مدير الكلية احترم موقف الطلبة وشجاعتهم في عدم التبليغ عن زملائهم ، وأنه طلب من كبير المعلمين تخفيف العقوبات ..
وطوال الفترة الباقية لنا في السودان كنا نستيقظ علي أغنية " الحب كله " صباح كل جمعة ..
وبعد الحرب ، قابلت دفعتي مجدي مع آخرين في محل إكسليسيور في نص البلد ، وكنا نتذكر الشهداء من دفعتنا ، حين صدح مذياع المحل بأغنية " الحب كله " ، فأغرقنا جميعا في الضحك إلا مجدي الذي كان ينظر إلينا غاضبا ..