- ℃ 11 تركيا
- 2 نوفمبر 2024
معصوم مرزوق يكتب : الكلب الذي يعض !
معصوم مرزوق يكتب : الكلب الذي يعض !
- 15 أكتوبر 2021, 7:31:18 م
- 46822
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
لا أدري من يعطي للإعلام الحق في أن يكون جهة التحقيق القانونية ، وسلطة إصدار الأحكام ؟ ، بل كيف يبيح أي صحفي لنفسه أن ينشر ويذيع عورات الناس ، سواء تحقق من وجودها ، أو اختلقها إختلاقاً ؟ ، أليست هناك حدوداً قانونية وأخلاقية ، ناهيك عن الحدود الدينية ، التي يجب أن ترتفع أسوارها لستر عورات الناس ؟؟ .
سوف يحتج البعض بأن " الإثارة والتشويق " هما مادة الإعلام ويردد المثل الذي أكل عليه الزمان وشرب : " إذا عض كلب رجلاً فذلك ليس خبراً ، ولكن إذا عض رجل كلباً فذاك هو الخبر " ، ورغم أن هذا المثل صحيح في مبناه إلا أن تطبيقاته مختلفة ومتضاربة وغير محددة ، فلا شك أن نقل خبر عن واقعة رجل يعض كلباً يتضمن قدراً من الإثارة والطرافة لأنها خروج علي المألوف وتبرز صورة عكسية صادمة تجذب القارئ ، والجرائم بأشكالها المختلفة تعد أيضاً خروجاً علي المألوف بما يبرر الحرص علي إبراز أخبارها ، ولكن إذا بالغ المخبر الصحفي في تغطية الجريمة بإنتهاك خصوصيات أطرافها ، أو بتوجيه الرأي العام وجهة معينة تجاه المتهمين ، فأن المسألة هنا لا تتعلق بإثارة أو تشويق وإنما – في تقديري – إعتداء سافر علي حقوق هؤلاء المتهمين .
وربما يتحجج البعض الآخر بأن " الجمهور عاوز كده " ، وأن مالك الوسيلة الإعلاميـــة " عاوز كده " أيضاً لزيادة التوزيع والمبيعات وبالتالي زيادة الإعلانات ، وباختصار المسألة تتعلق بإقتصاديات الإعلام .. وربما يكون لتلك الحجة وجهاً من الحقيقة ، فأغلب الناس يسيل لعابها علي فضائح الآخرين ، بغض النظر عما إذا كان يقبل ذلك علي نفسه ، ويدلل أصحاب هذه الحجة علي ذلك بالتوزيع الكبير لصحف الإثارة الصفراء ، بالمقارنة مع الصحف الجادة ، بل عدم اكتراث أغلب القراء بالمقالات والأخبار السياسية والثقافية والإقتصادية قياساً علي إهتمامهم بصفحات الرياضة والحوادث .
وقد يضيف البعض لما تقدم دراسات نفسية تؤكد إنفتاح شهوة الناس لإبتلاع فضائح الآخرين ، للبرهنة علي أن ذلك مكون أساسي في الإنسان بغض النظر عن ثقافته أو محدداته الدينية والأخلاقية والقانونية ، وأن الوسيلة الإعلامية تلبي إحتياج هذا الإنسان .
تقديري – وقد أكون مخطئاً – أن ذلك التعميم غير علمي وغير صحيح علي إطلاقه ، ولست إستثناءاً في شعوري بالتقزز لإقتحام خصوصيات الناس دون إذن منهم ، أو إستغلال سقوطهم للتكاثر مثل الذباب علي عيوبهم ، وأظن أن أي نفس سوية تعف عن ذلك ، فلا يمكن أن تكون تلك الرغبة الشريرة في إقتحام خصوصيات الناس مكوناً أساسياً في الإنسان ، بل أنها تعكس مرضاً نفسياً لا بد من علاجه .
أن الرسالة التي يحملها الإعلام لا ينبغي تلويثها بأبجديات السوق ، خاصة إذا كانت تلك الأبجدية قد تدهورت وانحطت ، فالوسيلة الإعلامية ليست مجرد مشروع تجاري ، وإنما هي قبل ذلك إحدي الأدوات الهامة للمعرفة والتنوير ، وإذا لم تكن مطالبة بقيادة حركة إصلاح شامل ، فعليها علي الأقل أن تمهد لذلك ، لا أن تكون بعض أدوات هدم ما تبقي من مخزون قيمي للمجتمع .
وربما يحتج فريق ثالث بأن ما نقلته الصحف لم يكن سوي تصريحات للمتهم أو محاميه ، وأن كل ما نشر أتيح لتلك الصحف بواسطة أطراف الواقعة نفسها ، وأن دور وسائل الإعلام لم يكن سوي النقل الأمين لتلك المعلومات المتاحة ، ولا توجد شبهة إقتحام خصوصيات في الموضوع .. وأقول حتي لو صح ذلك ، فأنه ليس كل ما يعرف يقال ، بل لا بد أن يكون هناك فرز ونخل وتمييز ، وإلا وجدت الشتائم والألفاظ النابية طريقها إلي وسائل الإعلام ، فضلاً عن أن المتهم في محاولته للدفاع عن نفسه قد يبالغ في تعرية عورات الضحية ، كما أن دفاع الضحية من مصلحته تشويه صورة المتهم ، ولا يمكن لإعلام يدرك قيمته أن يرضي لنفسه أن يكون كرة يتلاعب بها أطراف القضية .
والأهم من كل ما تقدم هو أن سلامة التحقيقات في أي قضية تقتضي توفير المناخ الملائم لجهات التحقيق والفصل كي تصل إلي الحقيقة ، بل أن مصلحة المتهم تتطلب توفير ضمانات قانونية أبرزها حقه في الصمت والإستعانة بمحام حتي لا يتورط في تصريحات تضر بموقفه في القضية .
من المزعج حقاًَ أن يخوض الإعلام بلا روية في أعراض الناس وما يمس شرفهم بحجة حق الرأي العام في المعلومات ، فالإسم الحقيقي لذلك ليس نقلاً لمعلومات ، وإنما قذف وسب وإدعاء كاذب لم يثبت القضاء بعد صحته ، فما هي مصلحة الرأي العام في الإطلاع علي المغامرات الجنسية لمتهم ، أو لإدعاءاته بشأن مطاردات غرامية أو سلوكيات غير لائقة لضحية لا تستطيع أن تدافع عن نفسها لأنها فارقت الحياة ...
أخشي أن ينبري البعض كي يتهم هذه السطور بأنها تهدف إلي تقييد حرية الصحفي ، أو أنها تحض علي تهديده وسجنه ، وذلك أبعد ما يكون عن قصدي أو فهمي لمعني حرية الصحفي أو حرية التعبير بمعناها الأوسع ، إلا أنني أري أهمية أن نمارس النقد الذاتي لتنقية السطور من بعض ما يشوبها من قصور ، أن نرتقي كتاباً وقراءاً فيما نكتب أو نقرأ ، فلا يمكن إدعاء حصانة ضد تجاوز لأبسط حدود الأخلاق والقانون والدين .
وأتصور أن هناك فارقاً بين " الإثارة " كأسلوب في الصياغة ، وبينها كأسلوب لدغدغة مشاعر وأمراض وأوهام بعض القراء ، ولا أظن أن من واجبات المخبر الصحفي أن يهتك أستار خصوصيات الناس كي يتصيد عوراتهم وعاهاتهم ويعرضها علي الناس ، حتي ولو كانت الناس " عاوزه كده " ، ومع إحترامي لمهنة القلم المقدسة وكل من يحمله مشعلاً في المجتمع ، أقول أن الله يستر عورات الناس ، فلا تفضحوها ، سترنا الله وأياكم ...