معصوم مرزوق يكتب : عولمة الغباء

profile
السفير معصوم مرزوق دبلوماسي وسياسي مصري
  • clock 17 أكتوبر 2021, 7:23:55 م
  • eye 15486
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

في هذا الزمن المأفون ، تفقد الكلمة خصوبتها وجدواها ، بل تصبح إتهاماً بإرتكاب جريمة الكتابة ، وكأن القلم - الذي صار بندقية فاسدة في أغلب الأحيان -  يمكنه أن يصيد معني أو يصوب نحو خطأ .. ومن أغرب ما نراه هو أن السطور صارت قضباناً لزنزانة يقبع فيها الكاتب ، ومع ذلك يتهم بالحرية ويحاسب علي ضميره المسجون ..


مصيبة المصائب في هذا الزمن ليست ثقب الأوزون ولا هي تلوث البيئة ، وإنما تلوث العقول وثقب الآذان والعيون ، فالآذان مطرطقة لكنها لا تسمع ، والعيون مفنجلة لكنها لا تري ، والعقول في الجماجم لكنها لا تعي .. بينما البصاصون يتسللون في كل شوارع المدينة ، خلف كل الأبواب ، بل يفتشون في القلوب والعقول ..


حالة مسيطرة من " عولمة الغباء " تسبح في أفق عالمنا كسحابة سوداء تمطر أبناء الأفاعي في كل شق من أرضنا الجدباء ، حيث النقاش حوار صم ، والمنطق واللا منطق سواء ، عقول متخمة مرهقة يملؤها خواء ، وصدور ينبض الخوف فيها والرجاء ، وقد أذل الحرص أعناق الرجال ، فانحنت الهامات حتي صارت الهامة المنتصبة شذوذاً واستثناءاً ، وأصبحت الشجاعة غباء إجتماعياً وسياسياً ، وانطلق الجرذان يحتلون مواقع الحكمة والوصاية ، حيث حوصر العقل وتبخرت المروءة .


وحتي لا يبدو الحديث مملاً مشبعاً بنواح معتاد ولطم متكرر ، فأنني وجدت قصة بدأت في كتابتها أواخر السبعينات تحت عنوان : " البصاص " ، ويبدو أنه لسبب أو لآخر لم أستكملها وتاهت بين أوراقي حتي وجدتها مؤخراً ، وقرأت سطورها غير المكتملة ، وأكتشفت أنها بهذا الشكل غاية الإكتمال ، فالقصة التقليدية التي لها بداية ونهاية وحبكة لا تنطبق شروطها علي هذا القصة ، فليست هناك بداية حتي وإن نسبت إلي زمن ومكان ، وليست لها نهاية ولا يمكن أن تكون لها نهاية لأنها حالة دائمة ، أما عن الحبكة فهي في نظري لا تزيد عن الإستخلاصات السابقة ، أي أن حبكتها هي حالة السيولة في البداية والنهاية ..


ولكي أعطي للقارئ بعض الضوء علي ما ذكرته ، فأنني سأترك لتلك السطور التي كتبتها منذ ما يزيد علي عشرين عاماً أن تشرح ما أقول ..وهي قصة بعنوان 
" البصاص " :
قال وعيناه تتسعان : " كل الخيوط في يدي .. أرفع الناس وأنزلها ، أعزها وأذلها " .


صوب نظرته تماماً في حدقتي محدثه وهو يروي :
 " لم تكن المشكلة هناك ، ولكن المشكلة هنا .. لقد راحت فيها رؤوس ورقاب .. نعم  يا سيدي .. لقد كنت هناك حين وقعت الواقعة ، وقلت لهم أنكم لم تستمعوا إلي  نصائحي فحلت بكم اللعنة .. ويبدو أن بعضهم لم يكن يعرفني ، فتساءلوا وهم  يبدون إندهاشهم من تواجدي في هذا المكان الحساس ." 
قلت لهم كلمة واحدة : " أنا  المخبر" ، فاختفت ألسنتهم في أفواههم المغلقة  ..


اعتدل في مقعده وهو يحاول أن يريح كرشه المنفوخ ، ثم أشار إلي رأسه بسبابته قائلاً :
 - أنا أعتمد تماماً علي نفسي .. لم أسع إلي أي منصب ، ولكن الدنيا كلها كانت  تأتي إلي دون طلب .. أنا لا أريد شيئاً سوي أن أكون " المخبر " ..
شعور هائل بالسلطة ينفخه كبرميل أجوف ، يتحدث بثقة مطلقة تكشف بسهولة عن جهل مطلق ، يسير مختالاً متعاجباً وهو يقسم للناس أن أكثر ما يميزه هو التواضع ، وفي أعماقه ما يكشفه لأحد أصدقائه : 
     - أخشي من اليوم المحتوم الذي ستزول فيه سلطاتي ، أنا مرعوب من لحظة  المعاش وكأنها لحظة الموت ، وربما تكون الموت فعلاً .. فمن أجل عملي النبيل  أصبح لي أعداء في كل مكان لا أستطيع حصرهم أو تحديدهم ، أنهم في مكان ما  ينتظرون لحظة إنقشاع أضواء السلطة من حولي ، وحينها وفي ظلام المعاش البارد  قد ينقضون كالذئاب الجائعة .. لكنني علي أي حال راضي بإنجازاتي ..
يتنهد قبل أن يتلفت حوله بحرص ، ثم ينحني علي أذن صديقه هامساً :
     - بالطبع أؤمن نفسي .. فهؤلاء الذين ينتظرون سقوطي أقوم بتدميرهم تماما ً، أو  أبذل ما في إستطاعتي كي ألوثهم فلا تقوم لهم قائمة مرة أخري .. أن الشيطان  نفسه يعجز عن حيلي ..
تنطفئ الأضواء في كل بيوت المدينة ، ينام الناس مع كوابيسهم ، بينما " البصاص " لا ينام فهو خلف كل باب ، تحت كل فراش ، هو في العقول والقلوب ...
هكذا توقفت سطور القصة في أوراقي القديمة مثلها مثل سطور أخري علي أمل أن تستكمل ذات يوم وتري النور .


مقال كتبته في 2009، وأرسلته إلي الصحيفة التي كنت أنشر فيها ، وفوجئت بالإعتذار عن النشر .. حفظتها بين أوراقي مع تعليق علي الصفحة الأولي كتبت فيه "ما فيش فايده ".

التعليقات (0)