- ℃ 11 تركيا
- 22 ديسمبر 2024
المقال الممنوع ل عبدالوهاب المسيري: النكتة الكبرى
المقال الممنوع ل عبدالوهاب المسيري: النكتة الكبرى
- 8 أبريل 2021, 5:48:49 م
- 819
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
الصهيونية في جوهرها هي حركة لتخليص أوروبا من الفائض البشري اليهودي (Jewish surplus ) عن طريق نقله من أوروبا وتوطينه في أية منطقة خارجها، وقد استقر الرأي على أن تكون فلسطين هي هذه المنطقة نظراً لأهميتها الإستراتيجية، وارتباطها في الوجدان الغربي باليهود.
وحتى يتم تجنيد الجماهير اليهودية وتسهيل عملية نقلهم، خدعهم الغرب بقوله إنهم سيذهبون إلى أرض بلا شعب، وإنه إن وُجد فيها شعب سيكون من السهل إبادته أو نقله أو استعباده كما حدث في التجارب الاستيطانية الإحلالية الأخرى.
وبالفعل فُتحت أبواب فلسطين للهجرة الاستيطانية اليهودية التي كانت تحميها قوة الاحتلال البريطانية. وتم إعلان الدولة الصهيونية العام 1948، وتصور المستوطنون أنهم كسبوا المعركة ضد السكان الأصليين. ولكن بعد بضع سنوات قليلة من الهدوء بدأت المقاومة الفلسطينية النبيلة بشكل فردي ثم ظهرت فصائل المقاومة الفلسطينية الواحدة تلو الأخرى، وراحت تطور من قدراتها تدريجياً إلى أن وصلت إلى إنتاج الصواريخ وتحسين أدائها.
ومن الطريف أنه نظراً لبساطة هذه الصواريخ وبدائيتها، فإن الرادارات الإسرائيلية غير قادرة على رصدها، ولذا ظهرت نكتة في إسرائيل تقول إنه لابد وأن تزود إسرائيل المقاومة الفلسطينية بصواريخ سكود حتى يمكن للرادارات الإسرائيلية أن ترصدها.
وتدريجياً بدأ الإسرائيليون يشعرون أن انتصاراتهم العسكرية لا معنى لها، وأنها لم تنجح في تحقيق السلام أو الأمن لهم (فيما سماه المؤرخ الإسرائيلي يعقوب تالمون "عقم الانتصار" مقتبساً عبارة هيجل) وأنهم خُدعوا عندما صُوِّر لهم أن عملية الاستيطان في فلسطين سهلة، وتدريجياً تنامى إحساس بالورطة التاريخية.
ولكن ماذا يمكن لهم أن يفعلوا؟ أحد الحلول هو تجاهل الورطة تماماً، وهذا ما تعبر عنه أحداث هذه القصيدة الفكاهية التي كتبها الشاعر الإسرائيلي إفرايم سيدون إبان الانتفاضة الأولى (والتي رفض التلفزيون الإسرائيلي إذاعتها).
تدور أحداث القصيدة في غرفة صالون يجلس فيه أربعة أشخاص: الأب والأم والطفل، أما رابعهم فهو الجندي الصهيوني، وبالتالي فهي خلية استيطانية سكانية مسلحة. وقد اندلع خارج المنزل حريق (رمز الانتفاضة وظهور الشعب الفلسطيني) وبدأ الدخان يدخل البيت عبر النافذة، إلا أن الأربعة يجلسون بهدوء ويشاهدون مسلسلاً تلفزيونياً ولا يكترثون بشيء. ثم ينشد الجميع:
هنا نحن جميعاً نجلس
في بيتنا الصغير الهادئ
نجلس في ارتياح جذل
هذا أفضل لنا، حقاً إنه أفضل لنا
– الأم: جيد هو وضعنا العام
– الجندي: أو باختصار.. إيجابي…
– الأب: وإذا كانت هنا جمرة تهدد بالحريق
– الأم: طفلي سينهض لإطفاء الحريق
– الأب: وإذا اندلعت هنا وهناك حرائق صغيرة
– الأم: سيسرع ابني لإطفائها بالهراوة
– الأب: انهض يا بني اضربها قليلاً
ويخاطب الأب النار فيخبرها أنها مسكينة، وأنها لن تؤثِّر فيه من قريب أو بعيد، وأنه سيطفئها في النهاية. وحينما تأكل النيران قدميه لا تضطرب الأم، فالأمر في تصورها ليس خطيراً، إذ لديه -كما تقول- "قدم صناعية" (لعلها مستوردة من الولايات المتحدة)، والوقت -كما يقول الأب- "يعمل لصالحنا". ولكن الطفل ينطق مرة أخرى بالحقيقة المرة:
– الطفل: بابا، بابا، لقد حرقنا الوقت [الزمن]
– الأب: اسكت
– الأم: إن من ينظر حولنا ويراقب، يرى كم أن الأب لا ينطق إلا بالصدق كعادته
– الأب والأم: لقد أثبتنا للنار بشكل واضح من هو الرجل هنا ومن هو الحاكم
– الطفل: ولكن بابا… البيت…
– الأب: لا تشغلنا بالحقائق
وهذه القصيدة الفكاهية، شأنها شأن النكت، تخبئ رؤية متشائمة بشأن مستقبل المستوطنين الصهاينة الذين يستقرون في المكان وينكرون الزمان، فتحرقهم الحقيقة وهم جالسون يراقبون مسلسلاً تلفزيونياً في هدوء وسكينة، أو يستمعون إلى الدعاية الصهيونية التي تنسيهم واقعهم في رضا كامل!
ويتضح هذا الإحساس بالعبثية وفقدان الاتجاه عند الإسرائيليين في ظهور موضوع "الخوف من الإنجاب" في القصص الإسرائيلية. فمن المعروف أن الدولة الصهيونية تشجع النسل بشكل مهووس لا حباً في الإخصاب والأطفال، وإنما وسيلة لتثبيت أركان الاستعمار الاستيطاني.
ولكن من المعروف أيضاً أن معدل الإنجاب في إسرائيل من أقل المعدلات في العالم، حتى أنهم فكروا في أن يعلنوا للإنجاب عاماً يركز فيه الإسرائيليون لإنجاب أطفال أكثر.
وكان رد الإسرائيليين، كما هو متوقع، سريعاً وحاسماً وملهاوياً، إذ قال أحد أعضاء الكنيست إن على رئيس الوزراء أن يعود إلى منزله فوراً للقيام بواجبه الوطني مع زوجته.
وهو بالمناسبة واجب وطني بالفعل، فكما يقول أستاذ الجغرافيا الإسرائيلي أرنون سوفير إن "السيادة على أرض إسرائيل لن تُحسَم بالبندقية أو القنبلة اليدوية بل ستُحسَم من خلال ساحتين: غرفة النوم والجامعات، وسيتفوق الفلسطينيون علينا في هاتين الساحتين خلال فترة غير طويلة".
ومن هنا الإشارة إلى المرأة الفلسطينية النفوض، التي تنجب العديد من الأطفال، بأنها "قنبلة بيولوجية". وتعود ظاهرة العزوف عن الإنجاب إلى عدة أسباب عامة (تركُّز الإسرائيليين في المدن-علمنة المجتمع الإسرائيلي-التوجه نحو اللذة… إلخ).
لكن لا يمكن إنكار أن عدم الإنجاب إنما هو انعكاس لوضع خاص داخل المجتمع الإسرائيلي وتعبير عن قلق الإسرائيليين من وضعهم الشاذ، باعتبارهم دولة مغروسة بالقوة في المنطقة، مهددة دائماً بما يسمونه المشكلة الديموغرافية، أي تزايد عدد العرب وتراجع عدد المستوطنين اليهود.
ويعبر الإحساس العميق بالورطة التاريخية التي وجد الإسرائيليون أنفسهم فيها بهذه النكتة التي أطلقها أحد المسؤولين الصهاينة إبان احتفالات الذكرى الأربعين لتأسيس إسرائيل، إذ قال إن المشروع الصهيوني كله يستند إلى سوء فهم وخطأ، إذ كان من المفروض أن يتم في كندا بدلاً من فلسطين.
ويرجع هذا إلى تعثُّر لسان موسى التوراتي، فحينما سأله الإله أي بلد تريد؟ كان من المفروض أن يقول "كندا" على التو ولكنه تلعثم وقال "كاكاكا- نانانا" فأعطاه الإله "أرض كنعان" (أي فلسطين) بدلاً من كندا، فهاج عليه بنو إسرائيل وماجوا وقالوا له "كان بوسعك أن تحصل على كندا بدلاً من هذا المكان البائس الخرب، هذا الوباء الشرق أوسطي الذي تحيط به الرمال والعرب".
والنكتة هنا تعبِّر عن إحساس عميق بالخوف من تزايد العرب وتصاعد المقاومة وبالطريق المسدود الذي يؤدي إلى العدمية الكاملة.
وتتسم المجتمعات التي يُقال لها متقدمة بتصاعد معدلات الاستهلاك، خاصة وأن هذه المعدلات أصبحت واحدة من أهم مؤشرات التقدم. والمجتمع الإسرائيلي يقال له "متقدم" ولذا نجد أن معدلات الاستهلاك فيه عالية. ولكن المشكلة أنه أيضاً مجتمع استيطاني. والتوجه الاستهلاكي يقوض من مقدرته القتالية، لأن هذا التوجه يصاحبه توجه شديد نحو اللذة وانصراف عن المثل الأيديولوجية الاستيطانية التي تتطلب الانضباط والاستعداد العسكري والمقدرة على إرجاء الإشباع.
وقد كان المجتمع الصهيوني يتسم بهذه السمات. ولكن بعد حرب 1967 انفتحت بوابة الاستهلاكية، وهي تتزايد يوماً بعد يوم، وبدلاً من المستوطن القديم الذي كان يحمل المحراث بيد، والمدفع الرشاش باليد الأخرى، ظهر ما يطلق عليه "روش قطان" وهو الإنسان ذو المعدة الكبيرة (روش) والرأس الصغيرة (قطان) الذي لا يفكر إلا في مصلحته ومتعته واحتياجاته الشخصية، وينصرف تماماً عن خدمة الوطن أو حتى التفكير فيه.
إنه إنسان استهلاكي مادي لا يؤجل متعة اليوم إلى الغد، غير قادر على إرجاء الإشباع، فهو غير واثق تماماً من الغد، فاليوم خمر بلا شك، ولكن الغد مظلم تماماً، فينغمس في الاستهلاك، خاصة وأنه ينسيه أزمة المعنى وفقدان الاتجاه.
ولذا يقال إن سياسة الدولة الصهيونية -حسب إحدى النكات الإسرائيلية- هي تزويد جماهيرها بال T. V. C. وهي الأحرف الأولى لـ Video, and Cars وT.V. أما الشباب فيُشار له باعتباره جيل الـM T V وهي محطة الفيديو كليبات الشهيرة التي تركز على الرقص والغناء والجسد ولا تذكر العالم الخارجي من قريب أو بعيد.
كما يُشار إليه باعتباره جيل الإكسبريسو، أي الشباب الذين يجلسون على المقاهي فيشربون قهوة الإكسبريسو ولا يشغلون بالهم بالوطن القومي اليهودي ومعاركه المستمرة المختلفة.
وحسب الحلم الصهيوني كان من المفروض أن تصبح إسرائيل نوراً للأمم (ذات فولت عال جداً) ولكنها أصبحت -حسب قول أحد الصحفيين الإسرائيليين- مجتمع الثلاثة ف (V): الفولفو والفيديو والفيلا.
وأشار أحد الصحفيين الإسرائيليين إلى أن الإسرائيليين يعملون مثل شعوب أميركا اللاتينية (أي لا يعملون) ويعيشون مثل شعوب أميركا الشمالية (أي يتمتعون بمستوى معيشي عال) ويدفعون الضرائب مثل الإيطاليين (أي يتهربون منها) ويقودون السيارات مثل المصريين (أي بجنون).