- ℃ 11 تركيا
- 22 ديسمبر 2024
نور الدين ثنيو يكتب: الجزائر: عندما ترفض الذاكرة مواجهة المؤسسة
نور الدين ثنيو يكتب: الجزائر: عندما ترفض الذاكرة مواجهة المؤسسة
- 1 أبريل 2023, 5:54:34 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
لحظة كتابة المذكرة كتجربة وخلاصة حياة كاملة يتداول فيها صاحبها حالة من الكلام وحالة أخرى من الصمت، ويتقلب من وضع المتحدث إلى وضع المصغي إلى عمق ما في النفس والضمير والفؤاد إلى حد الإنصات إلى الصمت ذاته، أي القدرة على إدراك الصمت والهدوء والسكون كمرافق للكلام والحديث. ولعلّ فعل التذكر يحتاج إلى لحظة سكون تساعد على الكتابة والتعبير، الأمر الذي يدغم الكلام والصمت في وحدة عاطفية وعقلية ونفسية، لا يمكن فصم عراها لأن صاحبها استأذن بالانصراف ويريد أن يدلي بآخر الكلام.
كتابة المذكرة هو استئذان بالانصراف، لأن الذاكرة لم تعد تستوعب كل ما يجري في الحياة، والأفضل التهيؤ للانتقال إلى عالم آخر. فالذاكرة لا تنقطع عن التاريخ كما لا تنفصل أيضا عن النسيان، ويبدو أن بداية التفكير في صياغة وتدوين المذكرة يمليه الشعور القوي بالنسيان. فالتهيؤ للخروج من عالم والدخول في آخر هو خروج من عالم الخزانة إلى عالم اللوح المحفوظ، الذي لا يترك كبيرة ولا صغيرة إلا وأحصاها على ما يخبرنا القرآن الكريم. وعليه، فلا يكفي التزوير والكذب على النفس عندما يشعر الإنسان أن ساعته قد اقتربت لأن لحظة كتابة المذكرة هي لحظة استعادة الذاكرة كلها والدنو أكثر إلى عالم اللوح المحفوظ الذي يسجل فيه كل ما صدر عن الشخص وما فكر فيه، وما لم يعترف به صراحة أو ضمنا. وعالم كتابة المذكرة هو عالم من الإبداع الثاني الذي يأتيه الشخص في لحظات عمره، محاولا كتابة رواية ثانية تستوعبها هذه المرة كل الحياة العقلية والنفسية والوجدانية الباطنة منها والمعقولة.
الذاكرة لا تنقطع عن التاريخ كما لا تنفصل أيضا عن النسيان، ويبدو أن بداية التفكير في صياغة وتدوين المذكرة يمليه الشعور القوي بالنسيان
لم يَفْرد عمار طالبي للحديث عن جامعة العلوم الإسلامية إلا خمس صفحات فقط، رغم ما تُمَثِّله هذه المؤسسة في حياته وحياة الجزائر، ليس بما حققته، بل بقدر ما أخفقت فيه. وكان الأحرى به أن يقف لكي يتمعن ويجيل ويطيل النظر والتفكير في حقبة ثمانينيات القرن الماضي، وما اعترى المجتمع الجزائري بسبب الشروع في بناء مؤسسات كثيرا ما كانت تزول بزوال من عهد إليهم أمر تدبير شأنها. وجامعة العلوم الإسلامية رغم الصرح العظيم الذي استقطب مال وجهد الأمة والدولة الآيلة إلى التشكل والتكوين، إلا أنها أخفقت أيما إخفاق في تحقيق المؤسسة التي لا مناص منها في عصر الوحدات الأممية الحديثة في العالم. وعمار الطالبي في قرارة نفسه وعمق ضميره وقربه من اللوح المحفوظ يعرف ذلك، ولم يرغب التذكير به في مذكراته، ليس على سبيل إيراد الحدث، بل على سبيل التذكير الذي يفيد الموعظة والحكمة والعبرة في آن معاً. ذكر صاحب المذكرات أن إنجاز ومحاولة إرساء وبناء مؤسسة جامعية تكون فضاءً للعلوم الإسلامية لم يكن بالأمر الهين، واصطدم أصحاب هذا المشروع والراغبون في تحقيقه بالعديد من المصاعب والعوائق، يختزلها الكاتب في عدم توفر الإمكانات الحقيقية، وأن الأمور تمت على سبيل الترتيب غير المهيأ والترقيع والتوليفة غير المتجانسة، لا من الناحية العلمية ولا البيداغوجية فكل الأساتذة الذين شرعوا في التدريس فيها عام 1984 من خارج الجزائر، والأعقد من كل ذلك غياب الإطار الإداري والمالي والتنظيمي الكفء والمناسب، ومن وحي كل هذا «البريكولاج» ولدت جامعة العلوم الإسلامية في مدينة قسنطينة ولادة قيصرية في غير أوانها وفي غير سياقها، وعلى غير ما تقتضيه من ظروف حقيقية تسبغ عليها الشرعية المطلوبة، كمؤسسة دائمة لأن خاصية الدائمية هي الركن الركين في بناء الدولة ذاتها، فقد كان لهذا الاستعجال والبحث عن الأبهة و»البريستيج» دوره اللاحق في صَرْف وحَرْف الجامعة عن مبرر وجودها الأصلي والإخفاق المروع في عدم انشغال الأمة والدولة بها. فقد أفرغت من محتواها ومن هدفها وبقيت مؤسسة لا تطاوعها أي إمكانية ولا فكرة ولا اهتمام من أجل إعادة الحياة العلمية لها كما هي الجامعات، التي أسست من قبلها في العالم الإسلامي، ذات النظام المشيخي التراتبي والتخصص الشرعي الدقيق، حتى تصون نفسها من الاقتحامات والانتهاكات، تتحلى بالقدسية والهيبة والتعليم الأكاديمي الذي يليق بالعلوم الإسلامية في عصر الدولة والمجتمع الدولي. في خمس صفحات أسهب عمار الطالبي في الوقوف على الحالة الاستثنائية وغير العادية التي رافقت تأسيس جامعة العلوم الإسلامية، بمعية مسجد الأمير عبد القادر للتعبير عن فكرة العبادة مع التعليم العالي كأفضل سبيل إلى تخطي حالة التدين التي رانت على الجزائريين طوال قرون من زمن التخلف والتراجع التي أطلق عليها المفكر مالك بن نبي بالقابلية للاستعمار، وعمار الطالبي يدرك تمام الإدراك هذه الحقيقة ليس كداعية، وإمام متخرج من التعليم الأصلي، وإنما كعالم وباحث في تراث الإسلام وحضارته، الذي يروم أن يكرس حالة الإسلام المعاصر، جامعة بإمكانها أن تغطي حاجة الأمة من الدين ونصيب الدولة الجزائرية من الإسلام في العالم. وباللغة الحضارية والفكرية والتاريخية التي كان يفكر ويكتب بها مالك بن نبي، نرى أن زميله وصديقه عمار الطالبي، ضيّع فرصة الانخراط مع المؤسسة بعيدا عن السياقات الانتهازية والسياسوية والأصولية الدينية والأيديولوجية، والانصراف بها إلى الإنجاز التاريخي الذي يستوعب كل لحظة من لحظات تاريخ الزمن الطويل في حينه لا يحرق مراحل ولا ينتهك حقبا ولا يستعجل الأمور، كما هي المعالم والمؤسسات التي عرّفت بالحضارات والدول والأمم في كل العالم. والواقع، أن هذا الكلام يندرج في ما لم ينسه صاحب المذكرات، لأنه واصل التستر على الحقائق كما هي ماثلة في الذاكرة، ولم يرغب في فتح ما تنطوي عليه الخزانة، كما أنه فضل أن لا يكشف عن ما يرى أنه صح أمام اللوح المحفوظ، لأن هذا الوعاء حقيقة كبرى من الحقائق التي يجب أن تأخذ بعين اليقين، عندما يشرع الإنسان ليس في ذكر وتدوين وقائعه وأحداثه ومواقفه، بل بالجلوس الكامل على كرسي الاعتراف للبوح والإفصاح عن الحقائق.. كل الحقائق. ومن هنا، فما تستر ولم يفصح عنه عمار الطالبي يمكن أن تكشفه جهة أخرى، لأن العالم الفائق التطور يقدم شواهد ودلائل على الألواح الإلكترونية، التي تحفظ بما لم يكن بوسع الذاكرة أن تحفظه.. لا ذاكرة الإنسان.. ولا ذاكرة الأمة. وحديثنا في هذا المقال عن «الشخص والمؤسسة» يدخل تماما في ما اعترى الذاكرة من نسيان ومحاولة التستر على الحقائق عندما يتعلق بالتجربة مع إدارة المؤسسات .