- ℃ 11 تركيا
- 21 نوفمبر 2024
هاشم عبدالعزيز يكتب : قلب الليل
هاشم عبدالعزيز يكتب : قلب الليل
- 3 مايو 2021, 10:25:39 م
- 1113
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
جعفر في ليلة الزفاف
عندما تزوج جعفر من مروانة كان خارجا لتوه من جنة جده بريئا وهادئا وناعما ورومانسيا أيضا ؛ يقبل زوجته بكل نعومة ورفق رغم شوقه الحار بينما تقبله مروانة بعنف يميل إلى الحيوانية أكثر ما يميل إلى الإنسانية .
. وفي زواجه الثاني بهدى هانم صديق يبادر جعفر الخارج لتوه من جحيم مروانة واهلها وآثر ذلك في سلوكه كرجل ويقبل زوجته كما فعلت مروانة تماما بعنف وحيوانية بينما تستوقفه الزوجة الثانية وتلف ذراعها حوله برفق
.. أنها الظروف والبيئة التي تشكل الإنسان أكثر ما تفعل الفطرة والطبيعة .
جعفر في الحارة مع الأم
للاماكن وناسها تأثير خاص في نفس "جعفر" اليتيم بطل فيلم " قلب الليل " الذي لم يحظى بتغطية يستحقها حقيقة رغم خطأ غير مقصود وقع فيه المؤلف محسن زايد
عندما أظهر جوقة كفيلة جعفر وزوجته بشخصياتهم الحقيقية مما أفقد الفيلم حالته الشعرية السحرية التي امتدت طوال الساعة وربع الأولى حتى تزوج " جعفر " بهدى هانم صاحبة الصالون الثقافي
الذي كان من رواده الدكتور طه حسين والشاعر بيرم التونسي وغيرهم من أعلام الثقافة قبل قيام ثورة يوليو ١٩٥٢ وكان من باب أولى أن يقوم الفيلم بالتركيز على فكرة حرمان جعفر من الميراث لغضب الجد عليه
بسبب زواجه من راعية غنم كأبيه الذي تزوج من دلالة تبيع القماش الذي نراه يطير ويغطي رأس جعفر الصغير في المشاهد الاولى من الفيلم تأصيلا ورمزا لما قبل خروج جعفر من جنة ربته وكفيلته الاولى ؛
وهي الكفيلة الوحيدة التي ابتسم في حضورها جعفر عندما هدهد القماش الذي يغطي رأسه في الدكان قبل أن يضع أصبعه في بلاص العسل ويشرب منه ثم يجري نحو الشباك الحديدي
ليتبين صراخ ما في الخارج وهو يقبض على الثمرة ثم تأتي الجارة وتحمل جعفر غصبا لينام مع اولادها وذلك لموت أمه ليخرج جعفر من الجنة
ولو بدت حسب السرد الطبيعي سجنا نظرا لفقر الأم وتواضع السكن وأن الجنة الحقيقية ستكون في قصر الجد الغني الذي سيخرج منه أيضا بسبب المعصية
ورفض الأوامر والحرص على الحرية والإختيار ولكنها ليست الجنة الاولى في نظري التي يدخلها جعفر المسكين ويخرج منها سواء غصبا أو اختيارا .
جعفر في قصر الجد
يحمل جعفر كراكيب الأب ويذهب مع جاره ليسأل الجد العفو عن الاب وجعفر الذي لا ذنب له ويسمح بأن يعيش جعفر في قصره ويقبل الجد
ويقوم بتأهيل الحفيد حتى يلتحق بالأزهر الشريف ويربى تربية ممتازة على يد شيخ جليل الذي غضب منه عندما اعترف له جعفر أنه يميل إلى دراسة الموسيقى أكثر من حبه لدراسة الفقه والتفسير
وتلك الإشارة الاولى إلى تيه "جعفر " في الأرض الجديدة التي أسماها الجد "غيرة " من صديق الحارة الذي سمح الجد له بزيارة جعفر
وتكفل بدفع مصروفات تدريبه على الغناء والموسيقى ليلقن الجد "جعفر" الدرس الاول بأنه طفل ذكي فطن تؤهله مواهبه الفطرية بأن يكون عالما ويكبر جعفر ويصبح شابا
ليتعثر في اللعنة التي ستطرده من جنة الجد الغنية ببناء وأسرة جميلة وأموال أيضا ومربية وديعة حنون وكل ما تشتهي الأنفس ؛
ويقع جعفر في حب "مروانة " راعية الغنم ويتزوجها سريعا ليخرج مطرودا من جنة الجد الذي رفض أية محاولات صلح ولم يزد إلا أن قال " ان ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين "
جعفر في منزل الزوجية
يعيش جعفر حياة لا تقارن بحياته الناعمة التي كانت في قصر الجد ويعمل مطربا في جوقة صديقه الذي تبناه الجد فنيا عندما كان طفلا وتظهر "مروانة" غليظة كأمها تماما
ويرضى "جعفر " بنصيبه الجديد الذي لا يصلح أن يكون كفيلا ابدا ؛ ظهر ذلك جليا في الأيام الأولى من الزواج عندما امسك جعفر بمقالات أبيه المتوفى
وأشعاره وهم أن يقرأ على مروانة شيئا منه ولكنها تركته وحيدا ونامت في السرير .. وفي الصباح تتشاجر مع الجيران وتعترض على وظيفته كمطرب وتستدعي أهلها وتميل إلى حامي عائلتها
كما يظهر في صورة تناول الطعام حيث تميل إلى عثمان عبد المنعم أكثر ما تميل لزوجها رغم إنجابها طفلا منه ليرفص جعفر هذا التدخل
وهذا الجحود ويصر على اختياره ويطرد أهل زوجته من منزله اللذين سيأخذون منه زوجته وابنه غصبا ويتركونه وحيدا تائها من جديد . ولذلك يظهر الطفل في خلفية الكادر بلا ملامح بعيدا عنه تماما
جعفر في فيلا هدى هانم صديق
وقعت هدى هانم في حب جعفر من النظرة الأولى عندما كان يغني وراء صديق طفولته في إحدى الحفلات والذي قام بتوطيد العلاقة بينهما
وإتمام الزواج ويعيش جعفر حياة مستقرة حتى يصطدم بجوقة الزوجة الثقافية من المذكورين أعلاه ويشعر بالغيرة الشديدة وينكب على تأليف كتاب فلسفي حتى يدحض افكار الجوقة كلها
ويغيب عاما كاملا ليعود اخيرا بالكتاب الذي وصفه غريمه المحامي سعد الدين بالضحالة وأنه سمك لبن تمر هندي ليقتله جعفر
لعل تكون الجريمة هي الخلاص من كل هذا العذاب ويترك جعفر مسرح الجريمة قابضا على أوراق كتابه الملطخة بالدم الأحمر كلون أسماء عناوين مقدمة الفيلم ونهايته أيضا
جعفر في السجن
لقد ذاب جعفر تماما ولم يعد يتذكر اي شيء إلا كتابه الذي أخذ يدون فقراته الرئيسية على جدران السجن ليخرج منه بعد فترة طويلة لتكون دنيا جديدة لم يركز عليها المؤلف
أيضا ولم يخبرنا عنها شيئا رغم غزارة الأحداث وسهولة الرمز والاسقاط فيها ولكن غاب كل ذلك وضاع منذ دخول جعفر إلى فيلا هدى فقد الفيلم رمزيته وجاذبيته تماما .
- مجهود جبار يحسد عليه المؤلف محسن زايد عندما شمر عن ساعديه وقرر أن يعالج رواية هي من أشد روايات نجيب محفوظ التهابا وحساسية بعد رواية اولاد حارتنا
وربما فهم محسن زايد الدرس جيدا وقام بمعالجة رواية أخرى لنجيب محفوظ " حديث الصباح والمساء " التي تحتوي على غير قليل من القواسم المشتركة بينها وبين قلب الليل كالسحر والرمز وغيرهما .
- موسيقى مودي الامام التصويرية ممتازة ومناسبة ومنسجمة مع كل عناصر الفيلم ولكنها غابت معهم أيضا بعد الساعة وربع الأولى كما تبخر تكنيك الإضاءة الذي كاد أن يتكلم وينطق عندما انقسم وجه الجد بين النور والظلام في مفارقة بين الرحمة والحنو وبين القوة والشدة .
- المخرج عاطف الطيب يصطفي وجه البطل بعناية وكذلك السنيد والكومبارس وحتى تلك الميزة غابت أيضا بعد الساعة وربع الأولى كأنما ترك عاطف الفيلم لمخرج اخر ليستكمله ؛ يظهر في ذلك في اللقطات البعيدة وعدم التركيز على وجوه الممثلين وإظهار انفعالاتهم كما يجب اللهم سعد الدين المحامي الذي أدى دوره " صلاح رشوان " وظهر بمظهر جيدا
- جسد نور الشريف دور " جعفر " بسهولة ويسر ولم يفقد خط الشخصية العام رغم الهزات والتغيرات والتي تتعرض لها ؛ فنرى شيئا من جعفر الطفل لدى جعفر الشاب لدى جعفر الرجل وهكذا يستمر الحلم والتيه والشوق للاختيار لا الفرض والاجبار
- قامت هالة صدقي بدورين في هذا الفيلم دور أم جعفر ودور مروانة ونجحت بشكل مدهش أن تقنعنا بأن الام شخص ومروانة شخصا آخر
- دور المطرب ليس جديدا على محمود الجندي فقد سبق أن قام به في الشهد والدموع وغيرها من الأعمال
ولكن تاريخ وزمن شخصية قلب الليل يختلف عن الشخصيات الأخرى حتى يكاد الواحد منا لا يقوى على التفرقة بينه وبين مطربي زمن الفيلم المقصود .
- دور الجد هو الدور الأهم في تاريخ فريد شوقي رغم أنه لم ينطق الا قليلا ؛ عيون ثابتة جامدة لا تشبه عيون البشر والنور الذي يشع من وجهه وطول القامة
والكرسي الذي يجلس عليه دوما واليد التي تقبض على المسبحة ؛ ربما كان كل ذلك الثراء الفني من تمثيل وإخراج وإضاءة ومكياج وديكور كان سببا في شعور المشاهد أن هناك خطأ ما حدث عندما مات الجد بعد الساعة والربع الاولى
وربما كان أولى أن ينتهي الفيلم بموت الجد والحرمان بالميراث وان يغض المعالج عن اسقاطات محفوظ السياسية التي يغذي بها رواياته دوما .
- محسنة توفيق أو هدى هانم قيمة كبيرة وإضافة لا شك وقامت بأظهار الوجه الاخر لجعفر الغيور التائه رغم الحب والدفء والاحتواء والأمومة التي فقدها جعفر صغيرا ولكنها أزمة الوجود التي تعمي الإنسان عن كل النعم ولو كان جعفريا من أصل طيب .