- ℃ 11 تركيا
- 18 نوفمبر 2024
هوه صحيح الهوى غلاب
عزفت الفرقة الموسيقية المقدمة العبقرية للشيخ " زكريا أحمد".. وبدأت "" أم كلثوم " بالغناء.." هوه صحيح الهوى غلاب.. معرفش أنا ".. هذا السؤال الحائر أبدا.. كانت إجابته تتلخص في وجه" محمد القصبجي " الجالس خلفها بنظارته السميكة وقامته المنحنية.. يقول الرواة أنه هام فيها عشقا.. قبل بأن يتحول من ملحنها إلى محض عازف في فرقتها.. كان عندما يحرك الريشة على أوتار عوده بنغماته الذبيحة كمن يرثي نبضات قلبه الكليل.. يستعيد عمره الضائع في حضرتها.. تمر الكاميرا أمامه مرور الكرام.. واحدا وسط جوقة عريضة.. عابرا في المشهد.. قبل بأن يطوي إسمه ويتقهقر من المقدمة ويتواري في الخلفية.. عظام وجنتيه البارزة تحكي قصة عمره المتسرب المنساب من بين أنامله رويدا رويدا.. شاربه الرفيع وشعر رأسه المصبوغين بعناية لم ينجحا في أن يخفيان الأمر بأن الأغنية واللحن قد أقتربتا من الخفوت والصمت الأبدي وإسدال الستار.. أصابعه الغادية الرائحة على الأوتار.. كأنه يمضي بها على أوتار قلبه المرتعدة .. كل تلك التفاصيل لا تعني أحد.. عويناته السميكة تخفيان نظراته الشاردة.. حدقته التي تتحرك كل حين وآخر.. ترى هل يلمحه أحد ويخترق ستار الحشا؟..
أجفانه التي لا تكاد تنطبق حين تراها.. من يحفل بعازف العود المنكفئ هذا؟. يمكن أن يقوم بدوره ألف ألف أحد.. لكنها واحدة.. من يمكنه أن يكون " الست" أو يحل محلها؟.. هل هو العشق.. عشق الحبيبة.. عشق الفن.. ما أفدح أن يمتزج العشقين معا؟..
تصدح " أم كلثوم" بصوتها النافذ في الروح كنفاذ الهواء في البدن..كالخنجر في الأعماق.. " يا قلبي آه.. الحب وراه أشجان وألم.. وأندم وأتوب.. وعلى المكتوب ميفدش ندم".. تتسارع حركة يده على العود مع وقع دقات فؤاده .. بينما اليد الأخرى ما تبرح تضبط نغمات الأوتار.. تكاد تلمح الدماء تتقاطر من أوتار قلبه.. ماذا يفيد الندم حقا؟.. هل يقدر على إستعادة العمر الضائع؟.. هل كان يستطع تغيير مجري قدره حينها.." ياريت أنا أقدر أختار.. ولا كنت أعيش بين جنة ونار.. نهاري ليل وليلى نهار".. لماذا تتجبر هكذا وتفضح سره؟.. تهتكه أمام تلك الجماهير المنتشية.. أإلي هذا الحد تستهن بمشاعره؟.. بالتأكيد ينظرون إليه الآن ويتغامزون ويلمزون؟.. توقفت حركات يديه على الأوتار...قد تكون قواعد اللحن والنوتة الموسيقية تفرض ذلك..من المحتمل أنه هام وشرد.. ربما لحظة جموده وصمته وتمرده هذا يجسد الأمنية المستحيلة " الإختيار" تلك التي تشدو بها غير عابئة .. في كل الأحوال عاد إلى العزف إكنملت الأنشودة وغادر العازفون خشبة المسرح.. أطفئت الأنوار.. وأنصرفت الجماهير المبتهجة المحتفية..
وضع عوده داخل غطاؤه الجلدي ومضى بخطوات حثيثة وقامته المنحنية وسط جنح الظلام نحو بيته.. فضل أن يسير في شوارع القاهرة الخالية في تلك الساعة من الليل.. قد يكون دندن بصوته " وعلى المكتوب ميفدش ندم".. ربما سمح لعبراته الحبيسة أن تفيض على وجنتيه.. لن يلحظه أحد.. الليل سر العاشقين ودثارهم وسترهم الأبدي..
مات " القصبجي" بعد ذلك بنحو ست سنوات.. تركت " أم كلثوم" مقعده الخشبي ورائها شاغرا كلمسة وفاء.. تحدث الجميع عن عظمة " الست" وروعة ودلالة فعلها.. هل كان يمكنها أن تمنحه لحظات الوفاء تلك في حياته؟ .. مشاعرها الشاغرة.. ومقعده الشاغر..أوجزت قصة حياته.. لكنها " الست".. دائما عظيمة.. أبدا خالدة.. وتلاشت نغماته الذبيحة أدراج الرياح.. وإن كان يظهر أحيانا في خلفية المشهد..
"أهل الهوى وصفوا لى دواه..
لقيت دواه زود فى أساه..
إزاى يا ترى أهو ده اللى جرى..
وانا.. وإنا.. ما عرفش.. أنا"
" من وحي مقالات الشاعر الأستاذ Nasser Dwidar.."