- ℃ 11 تركيا
- 4 نوفمبر 2024
هيفاء زنكنة تكتب: تتويج ملك: إخراج يليق بالمسرح البريطاني
هيفاء زنكنة تكتب: تتويج ملك: إخراج يليق بالمسرح البريطاني
- 9 مايو 2023, 3:44:15 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
في احتفال ملأت دقائقه الطقوس الدينية، تُّوج الملك تشارلز الثالث، في كاتدرائية دير وستمنستر، بلندن. تميز التتويج بكل لحظاته المرسومة بدقة بشخوصه وأزيائه القروسطية، بأداء طقوس يزيد عمرها على الألف عام، امتزجت فيها السلطة الدينية بالسياسية، ليعاد إنتاجها، يوم السبت الماضي، في واحد من أكثر العروض المسرحية ( وبريطانيا معروفة بعروضها المسرحية الرائعة) بذخا وأكبرها نجاحا، إذ تابع مراسم التتويج، 300 مليون مشاهد حول العالم في نقل تلفزيوني مباشر. وإذا ما أضفنا إلى ذلك الحشود الغفيرة التي إحتلت شوارع العاصمة لأيام، وشاهدته على شاشات الساحات العامة في مختلف مدن المملكة، وبحضور جمهور من المستعمرات السابقة أو ما يسمى بدول الكومنولث، لابد وأن نتساءل عن سبب الانجذاب الجماهيري، خاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن هناك أسبابا كثيرة تدعو إلى عدم الاهتمام، من الناحيتين الدينية والسياسية. فمن الناحية الدينية، تشير الإحصاءات الرسمية، لعام 2021، أن أقل من نصف السكان، أي نحو 46.2 بالمئة، يعرّفون أنفسهم كمسيحيين، بينما 37.2 بالمئة لا يعتنقون أي ديانة، أي نحو شخص من بين كل أربعة. ومن الناحية السياسية تبلغ نسبة الراغبين بإبقاء النظام الملكي 79 بالمائة بين الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 65 عامًا بينما يعارضه 40 في المائة ممن تتراوح أعمارهم بين 18 و 24 عامًا، مطالبين برئيس دولة منتخب ديمقراطيا، ومحتجين على بذخ الاحتفال وتكلفته العالية على دافعي الضرائب في وقت تمر به المملكة بأزمة اقتصادية، وأنه استمرار لنسل امبراطورية استعمرت أجزاء كبيرة من العالم واستعبدت الشعوب؟ إزاء هذا كله، لماذا توافدت حشود الجماهير للمشاركة في مراسم الاحتفال ؟ وهل لممارسة الطقوس الجماعية التاريخية، على تنوعها، وخاصة ذات المنحى الديني، تأثير أعمق بكثير مما يدعو إليه دعاة إلغائها؟
في داخل كاتدرائية وستمنستر، طوال فترة التتويج، كان للطقوس الدينية الحضور الأعلى، منذ لحظة دخول تشارلز أميرا إلى لحظة خروجه ملكا. وكان نجم التتويج، بامتياز، رئيس أساقفة كانتربري ( دور متوارث منذ عام 1066) بمساعدة رجال دين آخرين، وبأداء طقوسي مثير بتفاصيله ودقة تنفيذه. فمن حمل صليب أهداه البابا فرنسيس للملك تشارلز، ويقال إنه يحوي جزءا من صليب المسيح الحقيقي، إلى التاج الذي كان قد صُنع للملك تشارلز الثاني في القرن السابع عشر، إلى الكرسي الخشبي المستخدم في تتويج ملوك إنكلترا منذ عام 1066، إلى خلع الملك تشارلز رداءه الاحتفالي وتوجهه لخلوة يقوم خلالها رئيس الأساقفة بعيدا عن عيون الجمهور، بدهن الملك بزيت الزيتون المقدس، ومباركته بشكل صليب على رأسه وصدره ويديه. قارورة الزيت مصنوعة بشكل نسر ذهبي، وتمثل أسطورة شعبية عن ظهور مريم العذراء للقديس توما الكانتربري في القرن الثاني عشر، وقد عُصّر الزيت المقدس من أشجار جبل الزيتون في القدس، وقدّس خلال مراسم خاصة شهدتها كنيسة القيامة بفلسطين.
سبب حضور الناس هو رغبتهم المشاركة في لحظة تاريخية، في حفل فريد من نوعه لن ينسوه طوال حياتهم وسيتذكره أطفالهم. مما يعني أنهم يرون حضورهم كمساهمة فعلية في ديمومة الطقس الجماعي، ونقله عبر الأجيال، لأنه فعل ضروري للبقاء على قيد الحياة
لهذه الطقوس ما يشابهها، وإن بدرجات متفاوتة، سواء في حياتنا الشخصية ( احتفالات الولادة والزواج والموت) أو الحياة العامة للأمم، كما في الحج والأعياد وزيارة الأماكن ذات الصبغة الدينية والاحتفالات الرسمية. وقد يساعدنا على الفهم، تبرير الكثيرين من حاضري الاحتفال، تحت المطر في الشوارع المكتظة، أن سبب حضورهم هو رغبتهم المشاركة في لحظة تاريخية، في حفل فريد من نوعه لن ينسوه طوال حياتهم وسيتذكره أطفالهم. مما يعني أنهم يرون حضورهم كمساهمة فعلية في ديمومة الطقس الجماعي، ونقله عبر الأجيال، لأنه فعل ضروري للبقاء على قيد الحياة مما يقتضي تجديد وجودهم المجازي باستمرار من خلال الأساطير والرموز والطقوس.
وتؤكد البحوث الإنسانية أن للطقوس دورا كبيرا في منح الاحساس بالانتماء، والحماية والثقة بالنفس، وتقليل القلق الفردي والجماعي، خاصةً في أوقات الأزمات الفردية أو المجتمعية. ولعل أحد الأسباب التي دفعت المملكة المتحدة إلى إقامة حفل التتويج بطقوسه وبذخه وسط عدم الاحساس بالأمان جراء التغيرات البيئية وكثرة الصراعات في العالم وموجات النزوح البشرية، هو الحاجة إلى تثبيت شعبية العائلة المالكة التي تُشكل فكرة الاستمرارية، مقابل التخبط السياسي الحكومي حيث شهدت بريطانيا تنصيب 3 رؤساء وزراء، خلال 5 أشهر، بعد رحيل الملكة إليزابيث مقابل جلوسها على العرش مدة 70 عاما.
بالإضافة إلى الطقوس الدينية داخل الكاتدرائية، عاش الجمهور تفاصيل طقوس عامة أخرى خارجها. حيث تحولت الشوارع المؤدية من وإلى القصر الملكي، إلى مسرح مفتوح تناوبت على خشبته المشاهد بدءا من خروج العربة الملكية الذهبية وإنتهاء بوقوف الملك والملكة مع عدد من أفراد العائلة في شرفة القصر لتحية الجمهور ومراقبة استعراض الهليكوبترات وسلاح القوة الجوية. وإذا كانت الأبحاث المجتمعية تشير إلى أهمية الصلاة والغناء والتراتيل في إشعار الناس بالتقارب والمساندة فإن مشاركة أكثر من 4000 فرد من القوات المسلحة من جميع أنحاء المملكة المتحدة والكومنولث، وهم يسيرون بخطوات متزامنة، على أصوات قرع الطبول في أكبر موكب عسكري يقام بلندن منذ 70 عامًا، كان لمنح الاحساس بالوحدة وشحن المشاعر الوطنية وإضافة عامل الفخر بقوة الجيش وتنظيمه وتنوع فصائله مما يزيد من خصوصية الحدث وجاذبيته حتى بين معارضي النظام الملكي.
بهذه التوليفة الجامعة بين الطقوس الدينية المتأصلة في النفوس كشكل من أشكال التأكيد الذاتي الجماعي والاستعراض العسكري الدال على قوة الجيش وقدرته على الدفاع عن الشعب، والمثير للمشاعر الوطنية التي تقود الأفراد إلى التصرف وفقًا للقيم السائدة داخل المجتمع، نجحت الحكومة البريطانية في إضعاف الأصوات المعارضة الداعية إلى إلغاء الملكية، وجاء تصريحها بأن من المتوقع أن يجلب حفل تتويج الملك حوالي مليار جنيه إسترليني للاقتصاد البريطاني ليضع نهاية، لمحاججة المعارضين، ولو إلى حين.