- ℃ 11 تركيا
- 22 نوفمبر 2024
وسام سعادة يكتب: ألمانيا الشرقية كما لم تُحك من قبل
وسام سعادة يكتب: ألمانيا الشرقية كما لم تُحك من قبل
- 3 يونيو 2023, 6:25:08 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
تاريخ مُدهِش لألمانيا الشرقية هذا الذي تضعه كاتيا هوير بين أيدينا هذا الربيع. فالمؤرخة الشابة لم تكن قد تجاوزت الخمسة أعوام عندما اختفى بلدها الأوّل من الوجود، وهي لا ترى في اختفائه مع إعادة توحيد ألمانيا أمراً سيئاً. لكنها لا تكتفي كذلك الأمر بالنوستالجيا إلى الشطر الشرقي، أو ما يُعرف في ألمانيا اليوم بـ «الأوستالجيا».
فهي تنبّهنا مثلاً إلى حالة المستشارة الألمانية انغيلا ميركل، والتي شغلت هذا المنصب بين 2005 الى 2021، أي تقريباً نصف المدة التي مرت على استعادة الوحدة الألمانية حتى الآن. فميركل، زعيمة يمين الوسط (الاتحاد الديمقراطي المسيحي) الأبرز بعد إعادة التوحيد، وهي ابنة ألمانيا الشرقية، عايشت بخلاف كاتيا شتى مراحل «الجمهورية الديمقراطية» (على ما كانت تتسمى). وميركل، ابنة قس لوثري قام عام 1954 بالهجرة المعاكسة للمأثور، أي من ألمانيا الغربية إلى ألمانيا الشرقية، وكان على العموم من اللاهوتيين «المرضي عنهم» من لدن النظام الشيوعي. لكن المستشارة السابقة، كما تشرح هوير، أدركت منذ بداية مشوارها السياسي أن خلفيتها الألمانية – الشرقية هي ورقة في صالحها بالنسبة إلى بلد يرغب في إظهار نفسه كأمّة واحدة. لكن، في واقع الحال، كان ذلك صحيحاً فقط طالما بقي الأمر متعلقاً بالخلفية وليس بالهوية. والاستبلشمنت المهيمن على ألمانيا الموحدة لا يرتاح أبداً لفكرة أن أربعين عاماً من تجربة ألمانيا الشرقية يمكن أن تشكّل هوية نفسية وثقافية إلى اليوم. في المقابل، تمضي كاتيا هوير في كتابها – الصادر بالإنكليزية قبل بضعة أسابيع عن منشورات آلن لاين من بنغوين – سواء من خلال تعقب منعطفات ومفارقات «البناء الاشتراكي» في ألمانيا الشرقية، وصولاً حتى الانهيار، أو من خلال استرجاع أرشيف أناس من مواقع مختلفة للغاية كانوا جزءاً من هذه التجربة، لتقديم سردية تحتج بشكل مثابر على فكرة أن «جمهورية ألمانيا الديمقراطية» كانت بلداً رمادياً ليس إلا، قضى فيه الناس أربعين حولاً ينتظرون تحريرهم ولا يفعلون شيئاً آخر. تتقاطع مقاربتها بالتالي مع كتاب نيكولا اوفنشتات «البلد المفقود» (الذي تناوله كاتب هذه السطور هنا في مقالة «ألمانيا الشرقية وسرديات زمانها وزماننا» قبل بضعة أعوام). سوى أن مضمار أوفنشتات هو حفريات الذاكرة، في حين تقترح كاتيا هوير سردية تاريخية شاملة لهذه التجربة.
فألمانيا الشرقية لم تنهض فقط على أقل من نصف مساحة الشطر الغربي، وبـ 18 مليون نسمة في مقابل 50 مليون نسمة نهاية الأربعينيات من القرن الماضي، بل أنها دخلت باكراً في معترك التزاحم بين نموذجي البناء بعد الحرب والهزيمة الألمانيتين، ومن ضمن مناخ الحرب الباردة والصراع الأيديولوجي بين المعسكرين السوفياتي والغربي، هذا في وقت كان الغرب يمد ألمانيا الغربية بالمساعدات الاقتصادية في حين يصادر السوفيات المنشآت والمعدّات من الشطر الشرقي كتعويض للاجتياح النازي لبلادهم. وضع يزيده اختلالاً أن برلين الشرقية، عاصمة النظام الشيوعي، كان عدد سكانها يساوي نصف عدد سكان برلين الغربية، مع أنها لم تعتمد كعاصمة قبل إعادة التوحيد. كذلك، كان المجتمع في الشطر الشرقي ربعه من اللاجئين المطرودين من الأقاليم التي أُلحِقَت بروسيا وبولندا وتشيكوسلوفاكيا في نهاية الحرب.
تخلف موسكو مطلع الثمانينيات، ولضرورات الحرب في أفغانستان وحرب النجوم، على تزويد ألمانيا الشرقية بالنفط والغاز أدى عملياً الى اختناق هذه التجربة، ومن خلال ذلك التعجيل بنهاية المعسكر الاشتراكي كله
وفي حين احتوت ألمانيا الغربية على الأحواض والمناطق الصناعية الأساسية للبلاد قبل تقسيمها، كان نصيب الشيوعيين في الشرق مناطق بعضها زراعي وبعضها قاحل، ويزيد الطين بلّة أن المعاقل الأساسية للشيوعيين الألمان في سني حزبهم الجماهيري طيلة العشرينيات وإلى حين تمكن النازيين من الإجهاز على الحزب، باتت جزءاً من ألمانيا الغربية. أما من لجأ من الكوادر الحزبية الى موسكو في زمن النازية فكان عليه أن يدخل في تجربة مريرة مع السلطات فيها، ما بين الإخضاع والتلوّن. ومع ذلك، عندما قامت ألمانيا الشرقية بعد نصف العام على ايثار الحلفاء الغربية توحيد مناطق احتلالهم السابقة في صيغة «جمهورية ألمانيا الفدرالية» كان السوفيات لا يزالون يفاوضون على الأثمان التي يمكنهم تحصيلها في مقابل التوصل الى صيغة ألمانيا «موحدة ومحايدة» في آن. وبالتالي، استمرّ مصير الشطر الشرقي مطولا على المحك، وكان على قادتها أن يدافعوا عن وجود دولتهم ليس فقط إزاء الغرب، بل وإزاء السوفيات أيضاً.
مع هذا، تمكنت ألمانيا الشرقية من تصنيع نفسها، ومن تحقيق أعلى مستوى معيشة في «المعسكر الاشتراكي» نهاية الستينيات. لا تغفل المؤرخة كيفية انتفاخ الشرطة السرية لوزارة أمن الدولة (الشتازي) لكنها لا تجعل ألمانيا الشرقية مجرد شتازيلاند بلا تاريخ.
وتلتقط هوير مفارقة «مناهضة الفاشية» على الطريقة الألمانية الشرقية. وهذه تأتي في ضوء ما سارت عليه الأحزاب الشيوعية منذ الثلاثينيات من تصور يعتبر النازية فرعاً من فروع الفاشية، الى الدرجة التي جعلت الاتحاد السوفياتي لا يسمي انتصاره على «الرايخ الثالث» بالانتصار على ألمانيا النازية، بل على الفاشية ككل، وعلى ألمانيا الفاشية بالتحديد، في رفض لمنح النازية خصوصية ثقافية قائمة بذاتها، خارج سياق الفاشية، وخارج سياق تحديد الفاشية بأنها الشكل الإرهابي لديكتاتورية البرجوازية، في مقابل الديمقراطية التمثيلية بما الشكل الممأسس لهذه الديكتاتورية عندما لا تستشعر أنها في أزمة.
التصور الذي قامت عليه ألمانيا الشرقية هو أن الديمقراطية الليبرالية في الشطر الغربي ليست سوى غشاء عرضي لن يلبث أن يمسك النازيون بمفاصله عند أول منعطف. وهذا كان تصور برتولد بريشت نفسه الذي هاجر الى الشطر الشرقي احتجاجاً على إعادة تعويم النازيين السابقين في الإدارة والشرطة في ألمانيا الاتحادية. في الوقت نفسه، لم تتمكن ألمانيا الشرقية من كسب دعم واسع من سكانها على غرار ما كان يحظى به النازيون، وهذا نمّا لدى الشيوعيين الحاكمين الشعور بالغربة. لكن هوير تشدّد على أن النظام – باستثناء حاله في السنوات الأخيرة – لم يكن يواجه برفض واسع من قبل الناس. بل كانت حاله على هذا الصعيد أفضل من أترابه في «حلف وارسو». هي تؤثر تقسيم المجتمع الألماني الشرقي الى فئتين، واحدة عندها مشكلة محتقنة وحادة مع النظام، وهي الأقلية، وثانية تضم الأغلبية العظمى وقد توصلت الى تفاهمات ضمنية مع هذا النظام، ويشعر قسم منها كان يشعر بالفعل بأن لهذا النظام سمة عمّالية.
تشدّد المؤرخة على أن بناء جدار برلين كان قرار القيادة الألمانية الشرقية بمعزل عن الاتحاد السوفياتي، لمنع هجرة سكانها في اتجاه الغرب، لكن أيضاً لمنع تحولها كدولة الى مجرد ورقة يفاوض عليها السوفيات مع ألمانيا الغربية. لكنها تجاهر في الوقت نفسه بأن الجدار أعطى الجمهورية الشرقية فرصة للاستقرار، وتحسين القدرات الاقتصادية، وأفسح المجال من ثم لمتغيرات نهاية الستينيات، حين عمد المستشار الاشتراكي الديمقراطي في بون فيلي براندت الى سياسة الانفتاح تجاه الشطر الشيوعي من ألمانيا، وصولا الى الاعتراف المتبادل بين البلدين نهاية العام 1972. يظهر الكتاب ارتياب القيادة السوفياتية من هذا الانفتاح، وانزعاجها المتكرر من أي ندّية كانت تحاول برلين الشرقية أن تمارسها مع الأخ الأكبر. في المقابل، تشدد المؤرخة على أن تخلف موسكو مطلع الثمانينيات، ولضرورات الحرب في أفغانستان وحرب النجوم، على تزويد ألمانيا الشرقية بالنفط والغاز أدى عملياً الى اختناق هذه التجربة، ومن خلال ذلك التعجيل بنهاية المعسكر الاشتراكي كله. عندما نقلت رسالة مفادها أن ليونيد بريجنيف «أجهش بالبكاء» لأنه كان مجبراً على تخفيض إمداد ألمانيا الشرقية بالنفط والغاز، كان جواب أريك هونيكر بارداً ولاذعاً عام 1981 لمن جاء يفاتحه بذلك: «رجاء اسأل الرفيق بريجنيف بصراحة ما إذا كان مليونا طن من النفط يستحقان تقويض جمهورية ألمانيا الديمقراطية». مع ذلك، لم تستسلم ألمانيا الشرقية لانسداد السبل أمامها. حاولت في النصف الأول من الثمانينيات ايجاد بدائل لها سواء من ناحية الغرب أو اليابان، كما حاولت ايجاد سردية مختلفة لها، كمثل ايثار هونيكر عام 1984، وهو الملحد والكاثوليكي النشأة، رعاية الاحتفالية بذكرى مرور خمسة قرون على ميلاد مطلق حركة الإصلاح البروتستانتية مارتن لوثر. فمن جملة ما تبرزه المؤرخة الفطنة أن ألمانيا الغربية كانت تقريباً مناصفة بين الكاثوليك والبروتستانت، في حين أن ألمانيا الشرقية كانت سوادها الأعظم من البروتستانت اللوثريين.